نواكشوط: رسالة بلـغة الرصاص ولَـون الدّم
فجأة، وفي الهزيع الأخير من الليل، استيقظ سكان العاصمة الموريتانية نواكشوط على أصوات إطلاق نار كثيف، تلاه انتشار أمني وعسكري كبير في شوارع العاصمة.
هرع السكان إلى الشوارع يتحسسون الجديد، لكن صوت الرصاص هذه المرة لم يكن في محيط القصر الرئاسي كما ألفوا ذلك سابقا، حين كانت المحاولات الانقلابية المتتالية تخطط وتنفذ بالليل.
فالرصاص كان يتطاير هذه المرة على بُـعد كيلومتر ونصف من القصر الرئاسي، وبالتحديد في محيط السفارة الإسرائيلية الواقعة بحي تفرغ زينة الراقي شمال غرب العاصمة، وبعد عشرين دقيقة، سكت الرصاص وبدأت رحلة البحث عن حقيقة ما حصل.
كان شهود عيان على مقرُبة من السفارة الإسرائيلية أكَّـدوا أن مسلحين يتراوح عددهم بين أربعة وستة أشخاص، أوقفوا سيارتهم قُـبالة ملهى ليلي مُـقابل للسفارة، ونزلوا من السيارة قبل أن يصوبوا أسلحتهم الرشاشة باتجاه السفارة التي كانت خالية من الموظفين ولا يوجد بها إلا عناصر الحرس المكلفين بحمايتها، ورد الحرس بإطلاق نار على مصدر الرصاص، فكانت الحصيلة ثلاثة جرحى من بينهم سيدة فرنسية، وصاحب ملهى ليلي مقابل للسفارة وابنه.
السلطات الموريتانية أحجمت منذ البداية عن توجيه أصابع الاتهام لأية جهة، لكن قوات الشرطة وجّهت تحقيقاتها منذ اللحظات الأولى باتجاه الجماعات السلفية المتشددة والمرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهي فرضية لم تعمر طويلا لتتحول إلى حقيقة لا مراء فيها، بعد أن أصدر التنظيم بيانا تبنَّـى فيه الهجوم الذي قال إنه جاء ردّا على حصار قطاع غزة وعمليات التوغل والقصف التي تقوم بها إسرائيل داخله، فضلا عن أقوال عناصر مفرزة الحراسة التي كانت تؤمن السفارة وشهود العيان الذين أكَّـدوا أن المهاجمين كانوا يصيحون “الله أكبر” وهم يطلقون النار باتجاه مبنى السفارة الإسرائيلية.
وطالما أن الهجوم أصبح معلوم الهوية، فإنه بات واضحا أنه لصيق الصِّـلة بالحادثتين اللتين شهدتهما موريتانيا في شهر ديسمبر الماضي، نظرا لاعتبارات عديدة، منها أن الهجومين السابقين برّرهما منفذوهما بوجود العَـلم الإسرائيلي مرفوعا في سماء نواكشوط، وبالتالي، فإن من يسوق وجود هذه العلاقات كمبرر لقتل جنود في الصحراء، ليس من الغريب أن يستهدف السفارة نفسها التي يرى في وجودها خطيئة لا تُـغتفر، فضلا عن اعتبارات أخرى، منها أن “الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية” التي تحوّلت لاحقا إلى “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، تسعى لأن تؤكِّـد قدرتها على الخروج من القُـطرية الجزائرية التي كانت تتقوقع فيها منذ انفصالها عن الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر إلى الإقليمية المغاربية التي أصبحت تُـسمي نفسها باسمها.
وبالطبع، لن يجد هذا التنظيم أيسر من موريتانيا للتحرك وإثبات ذلك، خصوصا وأن موريتانيا تتمتع بحدود واسعة مع المنطقة الصحراوية في شمال مالي، حيث تتمركز هذه الجماعة وتنشط حسبما يبدو، كما أنها تعاني من هشاشة في المنظومة الأمنية وضعف في وسائل ضبط الحدود، ضف إلى ذلك، أنها الدولة المغاربية الوحيدة التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية كاملة مع الدولة العبرية، التي تصفها القاعدة بأنها “مستبيحة لدماء وأعراض المسلمين ومحتلة لمقدساتهم وأراضيهم”.
رفض للسفارة.. ورفض للعنف
فضلا عن أن هذا الهجوم يشكل جزءً من وسائل التعبير عن رفض هذه العلاقة، وهو باعتقاد الكثير من المراقبين أمر كان متوقعا منذ إقامة هذه العلاقات في أكتوبر عام 1999، فكما عبرت مختلف الأحزاب السياسية من المعارضة والأغلبية وهيئات المجتمع المدني في موريتانيا عن رفضها لهذه العلاقة ومطالبتها بقطعها فورا، وآخر تلك الدعوات ما صدر عن رئيس مجلس النواب مسعود ولد بوالخير، الذي يقود حزب التحالف الشعبي المشارك في الحكومة، والذي وصف تلك العلاقات بأنها “مشينة ومرفوضة”، وهو رفض عبَّـرت عنه الأحزاب السياسية بوسائلها الديمقراطية السلمية، من بيانات ومهرجانات وتصريحات، بينما تعبر عنه المجموعات المتشددة هي الأخرى، لكن بوسائلها المعهودة لديها المتمثلة في لغة العنف والرصاص.
وحين يتأمل المرء في اختيار المهاجمين للتوقيت، يجد أن الأمر يتعلق بتوجيه رسالة رمزية أكثر مما يتعلق بمحاولة إلحاق الأذى بطاقم السفارة أو العاملين فيها. فقد اختار المهاجمون ساعات الفجر الأولى حيث تكون السفارة عادة خالية من الموظفين، كما فضلوا تحاشي إطلاق النار عليها من الأمام واختاروا زاوية غير مقابلة لواجهة السفارة، والرسالة وصلت على ما يبدو وبلغة أكثر صخبا وضجيجا من اللغة التي كتبت بها رسالة الأحزاب السياسية التي سلمت لرئيس الجمهورية يدا بيد، تطالبه بإنهاء تلك العلاقة.
ويرى عدد من المراقبين أن الرئيس الموريتاني، الذي عبر أكثر من مرة عن عدم رضاه عن هذه العلاقة وانتقد إقامة الرئيس السابق معاوية ولد الطايع لها قبل تسع سنوات، سيواجه حرجا كبيرا في اتخاذ أي موقف منها في القريب العاجل، خِـشية أن يكون قد خضع للابتزاز أو العنف، وهو ما يعني أن نتائج هذا الهجوم قد تخدم الراغبين في استمرار هذه العلاقة، أكثر مما تخدم دعاة التخلص منها، لأنها إن لم تحل دون مراجعتها إطلاقا، فإنها قد تؤجل أي قرار بشأنها.
ورغم إجماع الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني على رفض هذه العلاقة والمطالبة بقطعها، إلا أنها بدت مجمعة كذلك على رفض اتخاذ هذه العلاقة مبررا لزعزعة أمن البلاد والمساس من استقرارها، وهو ما لخصه النائب الإسلامي ورئيس حزب “تواصل” محمد جميل منصور بالقول: “اثنان يرفضهما الشعب الموريتاني وآن له أن يودعهما.. سفارة إسرائيل وأساليب العنف”.
ماذا تريد القاعدة من موريتانيا؟
هذا الهجوم الثالث من نوعه خلال شهرين، يأتي في وقت تحاول فيه الحكومة الموريتانية جاهدة تجنُّـب المواجهة مع هذا التيار.
فقد التقى الرئيس الموريتاني قبل أسبوع بعض القادة الروحيين والعلميين لهذا التيار، وأفرج القضاء قبل أربعة أشهر عن عشرات منهم كانوا قد اعتقِـلوا خلال فترة حكم ولد الطايع والمجلس العسكري بقيادة العقيد اعل ولد محمد فال، بل إن الرئيس نفسه أصرّ أكثر من مرة على القول أن موريتانيا غير مهدّدة بخطر الإرهاب، لكن ذلك لم يمنع القاعدة من أن تضرب في عُـمق موريتانيا مخلّـفة خسائر بشرية ومادية كبيرة، ليس أقلها شأنا قرار إلغاء سباق باريس – داكار الذي كلف موريتانيا خسائر مادية كبيرة، وتراجع أعداد السياح الوافدين إلى موريتانيا بأكثر من الثلثين، إضافة إلى الاستنزاف المالي الذي تكلفه عمليات الاستنفار الأمني المتواصلة على خزينة الدولة الموريتانية المثقلة أصلا بتبعات شح الموارد والفساد المالي والإداري والديون المتراكمة.
وهو ما يعني أن موريتانيا التي تخوض حربا ضَـروسا ضد عصابات المخدرات والجرائم العامة، قد فرضت عليها مواجهات أخرى طالما تمنت أن تتفادها وتبقى خارج أتونها، الذي أحرق الأخضر واليابس في بلاد عديدة، وأسال دماء كثيرة قد لا تكون موريتانيا أفضل من يستطيع احتمال الاكتواء بنيرانها.
ومن هنا، يمكن أن يطرح المراقبون أكثر من سؤال حول ماذا تريد القاعدة في موريتانيا وماذا تريد منها؟ وهل العلاقة مع إسرائيل هي كل ما في جعبة القاعدة من التبريرات للضرب في خاصرة بلد كان يظن حتى وقت قريب أنه بمنأى عن الرصاص الإيديولوجي ودماء التكفير والتبديع والتفسيق؟ أم أن هذا التنظيم لن يعدم مبررات أخرى لمواصلة عملياته داخل موريتانيا؟
نواكشوط – محمد أبو المعالي
نواكشوط – رويترز: أطلق مسلحون النار على السفارة الإسرائيلية في العاصمة الموريتانية نواكشوط يوم الجمعة 1 فبراير فأصابوا ثلاثة أشخاص على الأقل بجروح ،بينهم امرأة فرنسية.
ووقع الهجوم في أعقاب دعوات علنية صدرت في الآونة الأخيرة عن أحزاب سياسية في موريتانيا للرئيس سيدي محمد ولد شيخ عبد الله لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل لإظهار غضب موريتانيا بسبب الأحداث في غزة، التي تخضع لحصار إسرائيلي.
وقال سفير إسرائيل لدى موريتانيا، إنه لم يُـصب أحد من العاملين في السفارة بسوء في الحادث الذي وقع في الساعات الأولى من صباح الجمعة، وجاء بعد شهر من هجومين يُـشتبه في أن متشددين من تنظيم القاعدة في البلاد نفذوهما.
وقال شهود عيان إن المهاجمين الذين بلغ عددهم ثلاثة على الأقل كانوا يكبِّـرون أثناء تبادلهم إطلاق الرصاص مع حُـرّاس السفارة المحصَّـنة في العاصمة الموريتانية.
وموريتانيا دولة مسلمة في غرب إفريقيا وإحدى دول قليلة بالجامعة العربية لها علاقات مع إسرائيل.
وقال السفير الإسرائيلي بوعز بيسموث لرويترز “هذا أمر محزن. العلاقات بين إسرائيل وموريتانيا رمز للسلام”، وأضاف أن السفارة أصيبت بالرصاص قائلا “إطلاق الرصاص على سفارة أجنبية حادث بالغ الخطورة.”
وتبادل الحراس خارج السفارة إطلاق النار لعدة دقائق مع المسلحين الذين أطلقوا النار على ملهى ليلي يبعُـد نحو 50 مترا عن السفارة بنفس الشارع، قبل أن يلوذوا بالفرار في جنح الظلام.
وذكر دبلوماسيون أن امرأة فرنسية أصيبت في سيارتها خارج الملهى وهو واحد من الأماكن القليلة التي تقدِّم المشروبات الكحولية في نواكشوط، وعولجت المرأة في مستشفى محلي قبل نقلها جوا إلى فرنسا.
وذكرت الحكومة في بيان، أن صاحب الملهى وابنه وهما موريتانيان أصيبا أيضا، وقال دبلوماسي فرنسي طلب عدم نشر اسمه، إنهما يحملان جنسية مزدوجة.
واستدعى وزير الخارجية محمد السالك ولد محمد الأمين السفير الإسرائيلي للتعبير عن أسف موريتانيا بشأن الهجوم.
وقال راديو إسرائيل إن مسؤول دفاع سيتوجه إلى موريتانيا لتفقد الإجراءات الأمنية، في حين وضعت السفارات الإسرائيلية في أنحاء العالم في حالة تأهب.
وجدّد الهجوم المخاوف بشأن علامات على تزايد التطرف الإسلامي. وفي أواخر ديسمبر، قتل موريتانيون يُـشتبه في أنهم أعضاء في تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أربعة سائحين فرنسيين وبعض الجنود في هجومين منفصلين.
وقال مركز انتل، ومقره الولايات المتحدة، الذي يراقب رسائل الجماعات الإسلامية على الإنترنت، إن أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة دعا إلى شن هجمات على السفارة في فبراير عام 2007 .
وقال أحمد ولد محمود، وهو أحد السكان “هناك أشخاص لا يريدون سفارة إسرائيلية هنا، لكن من واجب هؤلاء الأشخاص أن يطلبوا من إسرائيل المغادرة بشكل ديمقراطي.”
وجاء الهجوم بعد أسابيع من إلغاء رالي لشبونة – داكار بسبب مخاوف أمنية في أعقاب هجومي ديسمبر الماضي.
وتحتجز نواكشوط رجلين يُـشتبه في أنهما قتلا السائحين الفرنسيين وأقرا أيضا بأنهما من أعضاء تنظيم القاعدة بعد ترحيلهما من غينيا بيساو. ونفى الرئيس عبد الله وجود خلية إرهابية في موريتانيا.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 1 فبراير 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.