هجمات سبتمبر والحصاد المُـرّ
ما من شك في أن منعرج الحادي عشر من سبتمبر يمثل لحظة زمنية فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية من زوايا عدة.
وبعد مرور خمسة أعوام، يرى كثيرون أن الحدث أعطى للولايات المتحدة حُـجّـة قوية لتغيير أولويات العالم بأسره.
يمثل الحادي عشر من سبتمبر لحظة زمنية فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية من زوايا عدة، أبرزها اثنتان: الأولى، أن الحدث أعطى للولايات المتحدة حُـجّـة قوية لتغيير أولويات العالم بأسره، حيث فرضت ما يُـسمى بالحرب ضد الإرهاب على خُـطط وتحرّكات المُـجتمع الدولي بأس}ـره، من دُول ومنظمات، وحتى القطاع الخاص.
والثانية، أن الحدث شكّـل بداية لنوع جديد من المواجهات التاريخية الكبرى بين دول من جانب ومنظمات وجماعات متمرّدة عابرة للحدود، ومن جانب آخر، تحمل بدَورها فكرا وعقيدة تدفّـع إلى التغيير والمبادرة بالحركة.
عالم مختلف
هاتان السِّـمتان البارزتان شكّـلتا عالما مُـختلفا، خاصة وأن الإدارة الأمريكية نفسها، كانت ولا زالت، تحمل بنية فكرية ذات طابع هجومي، حتى قبل وقوع الهجمات، والتي وجدت فيها فُـرصة لتحويل عقيدتها المُـحافظة الهُـجومية إلى أسلوب عمل لا يتورع عن استخدام القوة العسكرية، حتى ضد أضعف الشعوب، وأكثر بدائية تحقيقا لرغبة انتقام عارمة وتطبيقا لفلسفة تغيير العالم ليُـصبح أكثر طَـوعا للتطلّـعات الإمبراطورية الأمريكية.
وبعد خمس سنوات، يصبح التساؤل فارضا نفسّـه عن حصاد ما جرى، وإلى أي مدى يشكّـل هذا الحصاد الفعلي انتصارا ضد ظاهرة الإرهاب الدولي؟ وهل أصبح العالم أكثر أمنا، حسب المقُـولات الرسمية الأمريكية، أم أنه دخل في طور جديد من غِـياب العدالة والظُّـلم المولّـد لعُـنف مختلف ولو بَـعد حين؟ هذه الأسئلة وغيرها تتطلّـب لحظة تأمّـل في أبرزِ تداعيات السياسة الأمريكية المُـسماة، مواجهة الإرهاب.
القاعدة بين الحصار والانتشار
يمكن البدء بالقول أن حصاد السياسة الأمريكية، هو حصاد مُـلتبس إلى حدّ كبير. فمِـن جانب، هناك نجاحٌ مؤكّـد في التضييق على تنظيم القاعدة، ولاسيما تحرّكات قيادَته، التي باتت تعمَـل في الخفاء الشديد وبأكبر قَـدر من السرية.
والمُـرجح، أن حالة الحِـصار الدولي على القاعدة ورموزها، خفضت كثيرا من قُـدرتها على العمل بحُـرية، كما كان الوضع قبل 11 سبتمبر 2001. بيد أن محاصرة التنظيم لا تعني القضاء عليه أو على ما يَـملكه من فِـكر وعقيدة، ما زالت موجودة ولها مُـناصروها، بل ولها أيضا وافدون جُـدد.
ويُـثير ذلك إشكاليةَ مدى نجاعة الأساليب العسكرية في استئصال الأفكار العقيدية من أذهان ونفوس المؤمنين بها. ووِفقا لحصيلة المواجهة الأمريكية، والتي استندت، بالدرجة الأولى وما زالت، إلى الآليات العسكرية، فإن الحصيلة تبدو متواضعة.
فالقاعدة، التي صارت فِـكرا وأيديولوجية مواجهة مستندة إلى تفسيرات دينية، صارت أيضا طليقة في الفضاء في انتظار من يتلقفها. وبالفعل، هناك منظمات صغيرة هنا وهناك نشأت وِفقا لهذه القناعات، ومنها من ربَـط نفسه بالتنظيم الأم، ومنها من يَـعتبر نفسَـه مجرّد امتداد عقيدي ولكن دون رابطة تنظيمية مُـحكمة.
ومثل هذا الانتشار لجماعات تحمِـل فكر القاعدة، يقدّم معنى الفشل في المواجهة، ويُـبرز ضرورة تغيير أساليب المواجهة، بما في ذلك تغيير السياسات المسؤولة عن إشاعة الظلم، والتي بدورها تـعطي مِـصداقية لقناعات القاعدة بدرجة أو بأخرى، خاصة لهؤلاء الأقل تفقُّـها في الدِّين والأكثر تأثُّـرا بالشعارات.
تقييد الحريات المدنية
داخليا، أدّت المواجهة الأمريكية إلى إثارة مُـعضلة الأولوية لمن، للأمن أم للحريات؟ وأهمية هذه المُـعضلة ناتِـجة من طبيعة التّـجربة الأمريكية نفسها، والتي تعطي الأولوية المُـطلقة للحريات المدنية وتعتبرها جوهر نمط الحياة الأمريكي والمسؤول عن حالة الإبداع والحرية والتطوّر غير المسبوق في كل شيء. وحين التزمت الإدارة الأمريكية أولوية الأمن، مستغلة بذلك حالة الهيستريا التي أصابت المُـجتمع والمؤسسات معا بعد حدوث الهجمات، استطاعت أن تُـمرِّر الكثير من القوانين، أبرزها قانون الوطنية الأمريكية، والتي قيَّـدت الحريات المدنية بصِـفة عامة، واستهدفت الجاليات المسلمة بصفة خاصة.
ومن ثم أصبح شائعا، الحديث عن التصنّـت على المحادثات الهاتفية دون إذن قانوني، وتوسيع دائرة الاشتِـباه، وصلاحيات غير محدودة لمكتب التحقيقات الفدرالية الأمريكي، واعتقال أفراد لمجرّد الاشتباه دون مُـحاكمات ومَـنع المعلومات عنهم، وكل الأساليب المعروفة في بلدان العالم الثالث، ذات السِّـمات الشمولية والسُّـلطوية أو بعبارة موجزة، لقد تغيّـرت أمريكا وفقدت كثيرا من حريّـة مُـجتمعها المدني، واختلّ التّـوازن الدقيق بين الفرد وخصوصيته، وبين الدولة ونزوعها إلى الهيمنة على حركة مواطنيها.
سطوة الإسلاموفوبيا
هذه القيود تبدُو أكثر قُـسوة وأكثر اتِّـساعا من حيث الممارسة والاستهداف بالنسبة للجاليات المُـسلمة في داخل أمريكا، ومنها انتقلت العدوى إلى بلدان أوروبية عديدة، وبحيث أصبحت ظاهرة الإسلامو فوبيا أو الخوف الهيستيري من الإسلام والمسلمين، عاملا رئيسيا في إفساد حالة التعايُـش السلمي بين المسلمين والمجتمعات التي يعيشون فيها، والتي كانت سائدةً من قبل.
ولم يقِـف الأمر عند حدِّ وضع قيُـود وِفقا للقانون، بل أخذت طابعا عدائيا بالمعنى المُـباشر للتّـعبير، فعبْـر التصريحات الرسمية التي ربطت عَـمدا بين عُـموم المسلمين وظاهرة الإرهاب، تشكّـلت اتِّـجاهات الرّفض والكراهية والخوف، وأصبح بالتالي، كل مسلم مُـدان مُـسبقا ومحلا للاشتباه، في وقت زادت فيه الانتهاكات والتحرّشات التي تعرّض لها المسلمون في أنفسهم وفي ممتلكاتِـهم، وبالطبع في عقيدتهم.
ولكم مثلت هذه التجاوزات، التي نُـشرت على نِـطاق واسع في المجتمعات الإسلامية خارج الغرب مُحفّـزا على زيادة الفَـجوة النفسية الجماعية بين المسلمين وبين الغرب، ومن ثم غذت بدورها التيارات العنيفة بالحُـجج الدّاعية للانخراط في مُـواجهة دينية وحضارية معا، وذلك ردّا على ما اعتُـبر حملة صليبية جديدة يُـمارسها الغرب ضدّ إخوة في الدين.
ونظرا لكون مركز الإسلام والمسلمين في الشرق الأوسط والمنطقة العربية لم تسلم هاتان المنطقتان من التّـوجهات الهجومية الأمريكية على نحو تجاوز كثيرا مجرّد ردّ الفعل على حدث، إلى القيام بعملية تغيير هيكلية في بنية المنطقة ككل، سواء عبر المُـناداة بالإصلاح الشامل وممارسة ضغوط على أطراف عدّة لتغيير النهج أو عبر القِـيام بعمليات جراحية دامية لإسقاط نُـظم وإعادة بنائها، والمثلان البارزان، هما أفغانستان والعراق، وتبدو بلدان كإيران والسودان وسوريا مرشّـحة بقوّة لممارسات هجومية أمريكية، وإن بمَـزيج مختلف من التّـهديدات العسكرية والضغوط السياسية.
ضحايا عرب
والمؤكّـد هنا، أن السياسة الأمريكية التي ربطت بين الحرب على الإرهاب وبين التغيير المقصود لخريطة المنطقة العربية، قد أفسدت الكثير من العمليات التدرجية، التي كانت تشهدها المنطقة لغرض الإصلاح والتطوير الذاتي. وتبدو القضية الفلسطينية والحق المشروع في مقاومة الاحتلال أحد أبرز ضحايا السياسة الأمريكية في مواجهة الإرهاب، فحين أرغم العالم على التعامُـل مع المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها كإرهاب ممجوج، ذهب التعاطف الدولي وحضرت اللامبالاة، وفقَـد الفلسطينيون النصير والظهير، وأطلقت اليد الإسرائيلية دون قيد تحت زعم الحرب على الإرهاب. ومن ثم، توقّـفت عملية التسوية وذهبت إلى غير رجعة، وبدا الإحباط والتراجع والميل إلى التفجير والعبثية، ظواهر غير ممكن السيطرة عليها.
حالُ فلسطين الجريحة لا يقل سوءا عن حال العراق، الذي أدمِـج قسرا في إطار ما سُـمي بالحرب على الإرهاب، وبدلا من أن يكون نموذجا للديمقراطية التي تبشِّـر بها الولايات المتحدة، أصبح نموذجا لانتشار العُـنف وضَـياع الأمن وفقدان التواصل والترابط الاجتماعي، والأكثر من ذلك، يبدو الوضع إجمالا أقرب إلى حرب أهلية تُـمارَس دون إعلان، حيث يتربِّـص السُـنة بالشيعة والأكراد بالعرب، والكل يتحرّك وكأنه مقدِم على عملية فرز جُـغرافية وسياسية ومناطقية، ستقود حتما إلى بلورة عراق جديد أقرب إلى الانقسام وأبعد عن الدولة الواحدة المتماسكة، حتى ولو كانت فدرالية.
نحو حروب سُـنية شيعية
السُـنة والشيعة بدورهم، لم يسلَـموا من تداعيات الحرب الأمريكية على الإرهاب، فقد أصبحوا مؤهّـلين لإعادة فتح ملفات عقيدية، يزيد عمرها عن ألف عام، وباتوا مؤهلين أكثر للفرقة المذهبية، التي تصُـب في صالح فِـكرة أمريكية غير مُـعلنة صراحة، وهي أن عالم، عربي وإسلامي، يحارب نفسه هو أكثر ملاءمة للأمن القومي الأمريكي، وبالطبع، أكثر ملاءمة لأمن إسرائيل.
لقد اعتبر الأمريكيون أن التساؤل المفتاح لفهم هجمات 11 سبتمبر، هو لماذا يكرهوننا؟ وكانت الإجابة وما زالت، هي أن العرب والمسلمين لديهم الكثير من عقد النقص الحضاري، وأن دور أمريكا الرسالي يكمُـن في إزالة تلك العُـقد.
وبالقطع، فإن السنوات الخمس الماضية تقدِّم الإجابة الأرجح والأكثر دقَّـة، كما تطرح السؤال الأصح الذي لم يسأله الأمريكيون لأنفسهم، وهو لماذا لا يفهم الأمريكيون العرب والمسلمون، ولماذا تأتي التحركات الأمريكية دائما بأسوأ النتائج؟
وإلى أن تجيب واشنطن على هذا التساؤل، ستظل فجوة الفهم المتبادل قابلة للاتِّـساع المُـستمر، ومعها توتّـر مُـتصاعد إلى عنان السماء.
د.حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.