هجوم اللغة الإنـجليزية في المغرب العربي
تتجمع المؤشرات على أن الصراع على النفوذ والحضور بين فرنسا من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، يحتدم في منطقة المغرب العربي.
ثقافيا، يبدو أن لغة فولتير تتجه شيئا فشيئا إلى خسارة السباق التاريخي مع لغة شكسبير على مركز اللغة الثانية في أوساط النخب في تونس والجزائر والمغرب.
مع اتجاه وزارة التربية التونسية إلى فرض نموذج موحد لتعليم الإنجليزية يتيح للطلاب الوصول للمعيار الدولي لحذقها والمعروف بـ”توفل” بما يخول لهم لاحقا متابعة دراسة مختلف المواد في الجامعة بالإنجليزية، تكون الفرنسية بدأت تخسر السباق التاريخي مع لغة شكسبير على مركز اللغة الثانية في البلد.
وهذه الظاهرة ليست خاصة بتونس، ففي ثلاثة بلدان مغاربية أخرى، حققت لغة فولتير خلال الحقبة الإستعمارية اختراقا تاريخيا بعد أن حازت على قصب السبق على اللغات الأوروبية الأخرى، بل تقدمت على العربية نفسها لدى قطاعات من النخبة، مستفيدة من الحضور العسكري والسياسي الفرنسي المديد في المنطقة.
لقد مكث الفرنسيون 131 سنة في الجزائر و74 سنة في تونس و60 سنة في موريتانيا و44 سنة في المغرب، وجعلوا من لغتهم الجسر الثقافي الوحيد لشعوب هذه البلدان نحو العالم، عدا شمال المغرب الذي كانت تحتله اسبانيا، وليبيا التي احتلتها إيطاليا ثم بريطانيا.
لكن بعد مرحلة الإستقلالات، انطلق مسار الإنفتاح على لغات جديدة شاملا الإنجليزية والإسبانية والإيطالية وحتى الروسية، فضلا عن التعزيز المستمر لمركز اللغة العربية في التعليم والحياة العامة مما قلَص بدوره من نفوذ الفرنسية.
وبعدما كانت النخب السياسية والثقافية المغاربية لا تتقن من اللغات الأجنبية سوى لغة فولتير، صار عدد كبير من الوزراء ورجال الأعمال والأكاديميين اعتبارا من التسعينات يتحدث الإنجليزية (إضافة للإسبانية بالنسبة للمغاربة) بطلاقة لا تقل عن سيطرتهم على الفرنسية.
وقالت الجزائرية فائزة بوعكاز التي واكبت المراحل الأولى من معهد “أميديست” الأمريكي في الجزائر العاصمة بين 1995 و2000 إن عدد المسجلين تضاعف ثلاث مرات في تلك الفترة مع تنوع الطلاب الذين أتوا من شرائح اجتماعية مختلفة. وأوضحت بوعكاز، التي انتقلت أخيرا للعمل في السفارة الأمريكية في تونس، أن غالبية الدارسين “لم يتعلموا لغة شكسبير بهدف الهجرة وإنما لاستخدامها في حياتهم المهنية”.
نقلة تدريجية
ويشكل الخط البياني المتصاعد للمقبلين على تعلَم الإنجليزية في الفروع المغاربية للمعهد الخاص “أميديست” مؤشرا قويا على زعزعة عرش الفرنسية في المنطقة. وأفادت نائبة مدير المركز الثقافي الأمريكي في تونس ستيفاني سيبتاك أنه فتح فروعا في مدينتي سوسة وصفاقس الساحليتين، ويعتزم فتح مزيد من الفروع في محافظات أخرى.
ورأى عالم الإجتماع الدكتور مهدي مبروك أن هذا المسار، على أهميته، يبقى محدودا لأن رسوم الدراسة مرتفعة نسبيا (190 دولارا للدورة الواحدة التي تستمر سبعة أسابيع).
لكن الأهم، برأيه، هو المكانة المتزايدة للغة شكسبير في المقررات المدرسية. فقد مرَت منظومة تدريس الإنجليزية بمراحل مختلفة في السنوات الأخيرة في اتجاه تعميمها والتبكير في دراستها، إذ كانت تقتصر قبل سنة 1995 على الصفوف الأربعة الأخيرة من المرحلة الثانوية، غير أنها صارت تُدرَس الآن منذ الصف الأول الإعدادي، فيما انطلق تدريسها لطلاب الصفين الخامس والسادس الإبتدائيين في شكل اختياري، لكنه بات اليوم إجباريا بالنسبة للصف السادس.
وأكد مسؤول في وزارة التربية التونسية فضل عدم الكشف عن هويته لـ”سويس أنفو” أن الوزارة قررت إضافة ساعة انجليزية في الإعداديات اعتبارا من السنة المقبلة والترفيع في الحصة المخصصة لها من 650 ساعة حاليا إلى 800 ساعة طيلة مسار تعلَمها من الإبتدائي وصولا إلى الثانوية العامة.
وفي هذا السياق، قال عمران البخاري، مدير عام البرامج في الوزارة لصحيفة محلية أخيرا، إن تعزيز مكانة الإنجليزية يرمي “لتقريب المنظومة التربوية من المتوسط الدولي الذي يندرج في إطار معيار “توفل”، وهو اختبار دولي لقياس درجة حذق لغة شكسبير بما يتيح للفائز به الإنتقال للتعليم الجامعي بكفاءة عالية وقدرة على دراسة جميع المواد بالإنجليزية”.
وكان لافتا أن مدير المدرسة الإبتدائية في نهج روسيا، وهي من أعرق المدارس في العاصمة التونسية، قال في تحقيق طويل نشرته إحدى الصحف إنه اندهش لشدة إقبال الطالبات والطلاب في معهده على نوادي تعليم الإنجليزية للصف السادس قبل أن يصبح تدريسها إجباريا مع مطلع العام الدراسي الحالي. والأطرف أن الصحيفة الناطقة بالفرنسية نشرت التحقيق تحت عنوان “Let’s speak english”، أي “فلنتعلم الإنكليزية”.
وتكريسا لهذه النقلة التدريجية في التعليم الأساسي، أطلقت الوزارة طلب عروض لشراء مخابر لتعليم اللغات في إطار اعتماد التقنيات الحديثة في تدريسها والتي لن تقتصر على الإنجليزية، وإنما ستشمل أيضا الإسبانية والألمانية والإيطالية والصينية والروسية التي تدرَس حاليا في الثانويات.
كسر الإحتكار
ويدل هذا المسار على أن ازدواجية اللغة (العربية – الفرنسية) التي سيطرت على أربعة أجيال من أبناء المغرب العربي انتهت إلى غير رجعة وحل محلها التنافس على تحصيل اللغات العالمية، والذي يُرجح أن يمنح مكانة متفوقة للإنجليزية بوصفها لغة الإنترنت، وهي الشريان الاساسي للمعارف والمعلومات في المستقبل.
وتتسابق البلدان الأوروبية وكذلك الولايات المتحدة وروسيا والصين لتأمين وسائل نشر لغاتها في البلدان المغاربية من خلال إقامة مراكز ثقافية فيها أو تخصيص منح دراسية للطلاب الراغبين في الإلتحاق بجامعاتها لتعلَم اللغة.
وبعدما كانت المراكز الفرنسية هي الوحيدة المنتشرة في المدن الداخلية، كسرت المراكز البريطانية والإسبانية والأمريكية هذا الإحتكار في السنوات الأخيرة بانتشارها في كل من فاس ومراكش وطنجة ووهران وقسنطينة وسوسة وصفاقس إضافة للعواصم.
وقبل أسابيع، حضر وزير بريطاني في تونس حفل تدشين المقر الجديد لـ”المجلس الثقافي البريطاني” الذي انتقل من الدور الأرضي لمكاتب السفارة البريطانية في تونس القديمة إلى شارع محمد الخامس أكبر شوارع المدينة.
وعلى بعد خطوات من هناك، أقيم مبنى جديد للمركز الثقافي الإيطالي “دانتي أليغييري” كي يستوعب الأعداد المتزايدة من الشبان الذين يأتون لتعلَم اللغة بسبب كثرة المؤسسات الإيطالية العاملة في البلد.
وغير بعيد منهما يوجد مركز “غوتة” الألماني حيث يحتاج الطالب للتسجيل قبل ستة أشهر كي يجد مكانا في إحدى الدورات التي تستمر ستة أسابيع. وشرحت مديرة المركز لـ”سويس أنفو” أن شدة الإقبال خصوصا من طلاب الثانويات الذين يعتزمون الدراسة في الجامعات الألمانية حملها على التفكير في توسعة المبنى الحالي أو استبداله بآخر أكبر منه.
ويشمل هذا الإهتمام باللغات، حتى اللغات التي تبدو غير أساسية مثل اليونانية، إذ أفاد مديرالتعاون الدولي في وزارة التعليم العالي التونسية في تصريح صحفي أن اليونان خصص منحا للطلاب الذين يرغبون بالمشاركة في دورات تكوينية وتدريبية الصيف المقبل في جامعة أرسطو بمنطقة تالاسونيك لمدة ستة أسابيع.
اكتساح سريع
بالمقابل، تسعى فرنسا ومعها الهيئات الفرنكفونية لاستقطاب أعداد هامة من طلاب الثانويات والباحثين والمدرَسين من خلال دورات التدريب التي تُقام في مختلف البلدان أعضاء المنظمة الفرنكفونية (53 بلدا)، لكن الميل الجارف نحو الإنجليزية يبدو تيارا تعسر مقاومته.
ولما سألت مجلة “لانتاليجان” الفرنسية مؤخرا الأمين العام لـ”الوكالة الحكومية للفرنكفونية” روجي دوهايب “هل خسرت الفرنكفونية نهائيا المغرب العربي؟”، رد بسؤال: “لماذا نعتبره مخسورا؟ فالجزائر على ما يبدو تستعد للإلتحاق بحركتنا”.
وعندما عاد الصحفي ليسأل عن أسباب “تراجع استخدام الفرنسية في المنطقة من سنة إلى أخرى”، اعترف دوهايب أن الفرنسية لا تتطلع لأن تكون اللغة الأولى في العالم وإنما تسعى للمحافظة على المرتبة الخامسة (هي الآن في الرتبة العاشرة)”.
لكن الأميركيين خصصوا موازنة كبيرة لنشر الإنجليزية وهم يقومون بعمل ضخم تساعدهم على ذلك المكانة المحورية للغة شكسبير في مجتمع المعرفة الحديث. وقد وضعت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للديبلوماسية العامة كارين هيوز نشر الإنجليزية في العالم بين الضرورات الإستراتيجية الثلاث للإدارة الأمريكية. وشرحت أمام لجنة العلاقات الدولية التابعة لمجلس النواب يوم 14 نوفمبر 2005 أن “هناك ميزانيات أعيد توجيهها لتُخصص لتوسيع نطاق برامج تعليم الإنجليزية”.
وتنعكس هذه الظاهرة المتمثلة في اكتساح لغة شكسبيرالسريع للموقع الذي كانت تحتله الفرنسية في شمال إفريقيا تراجعا في مستوى الإقبال على مدارس البعثات الفرنسية، بالإضافة للجاذبية المتصاعدة التي تمارسها المراكز الثقافية المنافسة.
غير أن وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي نفى ذلك ردا على سؤال طُرح عليه أثناء زيارة لتونس في مطلع أكتوبر الماضي مستدلا بأن الإقبال يتكثف على المدارس الفرنسية في مصر وتونس.
مع ذلك، يبدو أن تراجع الفرنسية أمام اجتياح الإنجليزية جعلها تسير نحو مغادرة عرشها تدريجيا، لكن الأرجح أن لغة السكان الأم، أي العربية، ليست خاسرة من هذا الصراع “اللغوي – الثقافي”.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.