هـل لهذا القـيـظ من نـهـايـة؟
يوما بعد يوم، يُحاول السويسريون بشتى الوسائل التعايش مع موجة الحر الإستثنائية وغير المسبوقة التي تعرفها بلادهم.
ومع تحطم كل الأرقام القياسية في درجات الحرارة واستهلاك المياه والمرطبات، يترقب الجميع بفارغ الصبر تلبد السماء بالسّحب وعودة الرياح والأمطار و.. الصقيع!
مع مرور الأيام، تعجز وسائل الإعلام السويسرية عن ابتكار صيغ مبالغة جديدة لوصف موجة الحرارة غير المسبوقة التي تجتاح البلاد منذ عدة أسابيع.
ومع تمسك السماء السويسرية بزرقة وصفاء لا يكدرهما شيء على الإطلاق، تحولت النشرة الجوية في القنوات التلفزيونية الثلاث (بالألمانية والفرنسية والإيطالية) إلى نسخة مكررة لا تتميز عن بعضها إلا بالأرقام القياسية المسجلة في درجات الحرارة يوميا في أماكن متفرقة من البلاد.
فعلى سبيل المثال، دخلت قرية غرونو(Grono) الواقعة في كانتون غراوبوندن (جنوب شرق سويسرا) التاريخ يوم 11 أغسطس 2003 حينما حطمت الرقم القياسي السويسري عندما وصلت فيها درجة الحرارة 41،5 درجة مائوية.
وهذه هي المرة الأولى منذ 139 عاما (أي منذ أن انطلقت الإحصائيات الرسمية لدرجات الحرارة في الكنفدرالية) التي تسجل فيها مؤسسة الرصد الجوي السويسرية (MétéoSuisse) درجة حرارة تفوق الأربعين في البلاد. وكان الرقم القياسي السابق (39 درجة) قد سُجل في مدينة بازل عام 1952.
حرائق محدودة
ومع استمرار بل وتفاقم موجة الحرارة غير المعهودة، شهدت سويسرا عدة ظواهر كان بعضها متوقعا واتسم بعضها الآخر بشيء من الغرابة.
ومثلما كان منتظرا، سجلت مبيعات المياه المعدنية والمشروبات والمبردات والمثلجات بجميع أنواعها ارتفاعا مهولا، كما عرفت المسابح ومختلف مجاري المياه من أنهار وبحيرات طبيعية واصطناعية وشلالات ومحطات مياه معدنية ما يشبه الهجوم الشعبي الكاسح بحثا عن وسائل للتخفيف من حرارة الجو.
كما سجل ارتفاع كبير في أرباح منتجي المستحضرات الجلدية الذين بلغت قيمة مبيعاتهم منها (بالتفصيل) لشهري مايو ويونيو الماضيين 9 ملايين و340 ألف فرنك أي بزيادة تقدر بـ9% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وتؤكد ساندرا ووست المتحدثة باسم معهد ACNielsen المتخصص في دراسة أوضاع السوق أن كل المؤشرات تؤكد أن شهري يوليو وأغسطس سيشهدان تحطيم المزيد من الأرقام القياسية في هذا المجال.
في المقابل، لم تشهد سويسرا – إلى حد الساعة – موجة الحرائق التي ألحقت خسائر هائلة بالغابات في البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
لكن وعلى الرغم من القرارات الصارمة التي اتخذتها السلطات المحلية مثل الحظر التام لإشعال النار في الغابات ومنع استعمال الشماريخ والألعاب النارية في مناسبة العيد الوطني (1 أغسطس)، إلا أن الأيام الأخيرة شهدت اندلاع بعض الحرائق المحدودة في غابات وسفوح بعض الجبال الواقعة في كانتونات تيشينو وفو وغراوبوندن بسبب الجفاف الإستثنائي الذي تعرفه هذه المناطق.
العمال .. والقطارات
وقد أدت موجة الحر الشديد – المستمرة عمليا بدون انقطاع منذ أواخر شهر مايو الماضي – إلى تركيز اهتمام وسائل الإعلام المكتوبة والمصورة على معاناة بعض أصناف العاملين المعرضين للفح أشعة الشمس طيلة اليوم.
فقد تعددت التحقيقات والمقالات التي تشرح الأوضاع الصعبة للعمال في حظائر البناء وفي الطرقات السريعة وفي المزارع والمراعي والمطابخ ووسائل النقل ومحلات تنظيف وكي الثياب وغيرها. وأكدت كلها أنهم يُعانون بشدة من اضطرارهم للبقاء معرضين لأشعة الشمس الحارقة لساعات طويلة رغم ما يبذلونه من محاولات شبه يائسة لمعالجة الوضع.
ومن أغرب ما سُجل في هذا السياق، المشاكل التي واجهت القطارات السويسرية والعاملين فيها والمسافرين على متنها على حد السواء.
فقد اتخذت إدارة مؤسسة السكك الحديدية الفدرالية قرارا مستعجلا باستكمال تجهيز عربات القيادة في حوالي نصف قطارات نقل المسافرين وفي جميع قطارات نقل البضائع بأجهزة التكييف بتكلفة تقدر بـ 28 مليون فرنك.
كما أدت درجات الحرارة المرتفعة إلى إلحاق أضرار وأعطال متعددة بتجهيزات القطارات الكهربائية والميكانيكية وفي نوعية محددة من القاطرات الحديثة، بل سُجلت حالة وحيدة لاعوجاج طرأ على سكة الحديد نتيجة للحرارة!
مدارس و.. أوزون!
من جهة أخرى، كانت عودة التلاميذ إلى الصفوف الدراسية يوم الإثنين 11 أغسطس الجاري في اثني عشر كانتونا سويسريا مناسبة أخرى للبحث عن حلول مبتكرة للتعاطي مع موجة الحر الشديد الذي لم يتعود عليه سكان الكنفدرالية بالمرة.
ففيما أوصت سلطات كانتون شفيتز المدارس بإطلاق سراح التلاميذ في منتصف النهار، حثت سلطات كانتون أرغوفي المدرسين على تجنب تدريس المواد المعقدة في فترة ما بعد الظهر، كما سُمح للمدرسين في مدينة بازل بصفة استثنائية بمرافقة الأطفال إلى المسابح أو إلى رحلات خارجية.
على صعيد آخر، أدى الإرتفاع المستمر لدرجات الحرارة إلى تصاعد مُخيف لنسبة الأوزون في الجو (وصلت إلى 300 ميكروغرام في المتر المكعب في حين أن الحد الأقصى المحدد من طرف سلطات الفدرالية لا يزيد عن 120 !)، ودفعت الظاهرة السلطات في كانتوني تيشينو وغراوبوندن إلى اتخاذ إجراءات استعجالية لمحاولة وقف التدهور.
فقد قرر المسؤولون عن البيئة في الحكومتين المحليتين تحديد السرعة القصوى للسيارات على الطرق السريعة في الكانتونين بـ 80 كيلومترا في الساعة. لكن هذا الإجراء الذي وصفه البعض بـ “المغالطة”، لن يستمر لأكثر من ثمانية أيام نظرا لطابعه الإستثنائي جدا.
ومع استمرار غياب الأمطار، وارتفاع استهلاك مخزون المياه في باطن الأرض وفي السدود تفاقمت خسائر القطاع الزراعي ولحقت أضرار فادحة بالعديد من المحاصيل والأشجار المثمرة والمراعي.
وارتفعت أصوات ممثلي المزارعين محذرة من انعكاسات موجة الحرارة والجفاف على مصير العديد من الفلاحين الذين تردت أوضاعهم في السنوات الماضية لأسباب متعددة ودعت الحكومة إلى مراجعة خططها الرامية إلى توفير 470 مليون فرنك خلال السنوات المقبلة.
كارثة حقيقية
على الصعيد السياسي، ومع اقتراب موعد الإنتخابات البرلمانية، اغتنم حزب الخُضر “الفرصة” لتجديد مطالته باتخاذ إجراءات “ثورية” تساعد على الحد من آثار الدفيئة وارتفاع درجة الحرارة فوق الكرة الأرضية.
ومن بين مقترحات الحزب فرض زيادة بقيمة فرنك واحد على كل لتر من البنزين وإقرار ضريبة عامة على استهلاك الطاقة وأخرى على غاز ثاني أوكسيد الكربون (CO2) من أجل توفير المبالغ الضرورية لمواجهة التقلبات المناخية والحد من استعمال وسائل النقل الخاصة وتحويل المزيد من الإستثمارات إلى وسائل النقل العمومي بمختلف أنواعها.
وعلى الرغم من رفض الخضر اتهامات منتقديهم بالإنتهازية، إلا أن الصيف “الإستوائي” الذي تعيشه سويسرا هذا العام أثار مخاوف قطاع واسع من الرأي العام ومن أصحاب القرار السياسي حول مصير التوازنات البيئية القائمة في سويسرا وأوربا.
ولم يتردد العديد من الخبراء في وصف ما يحدث بكارثة بيئية حقيقية بعد أن سُجل انحسار المياه (أو انقطاعها) عن مجاري العديد من الأنهار السويسرية وبعد أن لحقت أضرار غير مسبوقة بطبقات الجليد التي تغطي قمم الجبال السويسرية مما ينذر بحدوث المزيد من الكوارث والإضطرابات المناخية والبيئية.
كمال الضيف – سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.