هل الشمال مستعد فعلا للإنصات والإقتسام؟
أثارت أحداث الحادي عشر من سبتمبر اهتماما غير مسبوق لدى الرأي العام في البلدان الغربية وفي سويسرا بمتابعة أخبار أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط لكن هذا الإهتمام يظل عابرا واستثنائيا. من هنا جاء مبرر دعوة منظمات العون والإغاثة السويسرية إلى ضرورة ردم الهوة القائمة بين الشمال والجنوب في مجالي الإعلام والإتصال..
على الرغم من تراجع الإهتمام بالشأن الديني في الغرب عموما، لا زالت منظمات العون والمساعدة القريبة من الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية السويسرية مؤثرة بشكل أو بآخر في أوساط لا يستهان بها من الرأي العام واصحاب القرار السياسي والمالي في البلاد.
وككل عام تطلق أشهر هذه المنظمات وهي “خبز من أجل الجميع” و”حركة الصوم” و”لنكن شركاء” حملة تركز فيها الاهتمام على محور تختاره بعناية شديدة وتعمل طيلة أشهر العام على إدارة الحوار حوله ولفت أنظار الحكومة الفيدرالية والمجتمع المدني والرأي العام عموما إليه بأساليب مبتكرة.
فبعد أن تطرقت في السنوات القليلة الماضية إلى المواضيع الحيوية التي حملت عناوين مثيرة مثل “ملابس نظيفة” تركزت على ضرورة توفير الحد الأدنى من الضمانات الإجتماعية للعمال الذين تستخدمهم الشركات السويسرية في بلدان الجنوب أو “مال متحضر” دعت فيه المنظمات المعنية إلى إقامة علاقة جديدة مع المال وخاصة مع تطور عمليات انتقال كميات ضخمة من الرساميل من بلدان الجنوب إلى بنوك الشمال، جاء الدور في عام ألفين واثنين على “تقاسم التواصل”.
ويبدو أن النجاح الذي حققته حملة “الملابس النظيفة” مؤخرا من خلال اضطرار شركة “تريومف” (Triumph) لصناعة الملابس الداخلية للإعلان عن انسحابها من جمهورية بورما بسبب انتهاكات حقوق الانسان الصارخة في هذا البلد وهي نتيجة مباشرة لتجاوب قطاع عريض من الرأي العام السويسري مع حملة عام ألفين، قد عزز اقتناع منظمات العون والمساعدة بضرورة إشراك الرأي العام مرة أخرى في لفت الأنظار إلى ملف التواصل وتبادل المعلومات الحيوي.
من جهة ثانية هنالك وعي حقيقي لدى المنظمات السويسرية الراعية للحملة الداعية إلى تمكين سكان المعمورة الأقل حظا وإمكانيات من وسائل الإتصال والمعلومات بأنه لا مجال لتحقيق أي تنمية بشرية أو اقتصادية في هذه البلدان بدون تواصل وبأن السيطرة على مصادر المعلومات ووسائل الإعلام تحولت، في عصر الإنترنت، إلى تحد رئيسي للعولمة برمتها.
نجاح يستدعي تكرار المحاولة
ردم الهوة الرقمية والإعلامية الرهيبة القائمة حاليا بين الشمال والجنوب ليس متوقفا بطبيعة الحال على حملة تحسيسية لبعض الجمعيات السويسرية لكن مجرد الاهتمام بالمسألة تطور يستحق الوقوف عنده.
ففي يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر شباط فبراير موعد إطلاق الحملة من مدينة فريبورغ، شارك عدد من أبرز رجال الإعلام السويسريين بمداخلات صريحة عن استهانة وسائل الاعلام في الشمال بما يحدث في بلدان الجنوب وباستمرار المقاربة الكارثية لما يحدث في افريقيا وآسيا. فعلى سبيل المثال ذكرت السيدة آستر غيرسبرغر وهي صحفية مشهورة في وسائل الإعلام الناطقة بالألمانية أن عدد المقالات والتحقيقات التي كتبت عن أفغانستان في الصحافة الأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر فاق كل ما كتب ونشر عن أفغانستان في الولايات المتحدة منذ … الحرب العالمية الثانية!
فالاهتمام بما يحدث في بلدان الجنوب عموما لا يتجاوز الأسطر أو الثواني المعدودة في وسائل الإعلام الغربية لكنه يشتد بل يبالغ فيه إذا ما تعلق الأمر بمواطنين من بلدان الشمال أو بمصالح حيوية لهذا الطرف أو ذاك.. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليس طارئة لكن الجديد الذي برز من خلال بعض المساهمات التي قدمت في مدينة فريبورغ بمناسبة إطلاق الحملة تمثل في محاولة بعض رؤساء التحرير تبرير هذا الوضع بغياب اهتمام الجمهور أو بضغوط الناشرين والمعلنين الذين صاروا يتدخلون أكثر فأكثر في بعض المضامين التحريرية لكن بعضهم ذهب إلى حد تحميل المسؤولية لبلدان الجنوب التي لا يجب أن “تستحق” مكانا لها في وسائل الإعلام الغربية لا أن “تستجديها” على حد قول دانيال بيّار، رئيس تحرير صحيفة ديمانش
(Dimanche.ch) الأسبوعية.
في المقابل لم يخل النقاش من تقديم بعض المقترحات الطريفة والبناءة لدفع وسائل الإعلام السويسرية إلى مزيد من الاهتمام المنتظم بما يحدث في بلدان الجنوب مثل تمكين صحفيي تلك البلدان من التدرب ضمن المؤسسات الإعلامية الغربية أو استغلال تهافت الجمهور الغربي على ما يسمى بالسياحة الخضراء (أي التي تحترم بيئة وتقاليد وسكان الوجهات السياحية) للتعريف بشكل أو بآخر بما يحدث في تلك البلدان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
وسائل الضغط الشعبي هل تنفع؟
وفي انتظار توسع الاقتناع لدى دوائر القرار الإعلامي والسياسي والتكنولوجي بضرورة العمل على تضييق الهوة بين الشمال والجنوب ستعتمد منظمات العون والإغاثة التي أطلقت الحملة على إحدى الخصائص المميزة للمجتمع المدني السويسري. حيث دعت المواطنين إلى المشاركة عمليا في إقناع وسائل الإعلام والمسؤولين السياسيين وكبرى شركات الإتصال والمعلوماتية من خلال إرسال أكبر عدد ممكن من البطاقات البريدية أو الإلكترونية المتضمنة لمطالب محددة إلى كبار المسؤولين في الجهات المعنية.
وابتداء من الآن وإلى موفى عام ألفين واثنين سترسل عشرات آلاف البطاقات الجاهزة إلى رؤساء التحرير في كل وسائل الإعلام وإلى وزيري الخارجية والمواصلات في الحكومة الفيدرالية وإلى كبار المسؤولين في مؤسسات الاتصال الرئيسية في البلاد متضمنة مطالب محددة من قبيل ضمان مجانية الحصول على أصول البرامج الكمبيوترية الضرورية أو تخصيص فرنك من كل عشرة آلاف فرنك من رقم معاملات شركات الهاتف لدعم تجهيزات الهواتف الثابتة والنقالة في إفريقيا أو التعهد بالدفاع عن حرية الصحافة في البلدان السائرة في طريق النمو والتطرق لواقع هذه البلدان خارج إطار الحروب والكوارث.
ويبقى السؤال قائما: ما الذي يمكن أن تحدثه هذه البطاقات من تغيير في أزمة عميقة قائمة منذ عقود طويلة؟ وما الذي يمكن أن ينجز ميدانيا من خلال مثل هذه المبادرات المحدودة؟ يعترف القائمون على الحملة بمحدودية التأثير المحتمل لكنهم يرون أن توعية الرأي العام وتشريكه في تحمل مسؤولية لفت الأنظار إلى مثل هذه القضايا الحيوية كفيل بتغيير العقليات والتشريعات ولو بعد حين، ويذكرون بأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة .. واحدة.
كمال الضيف – فريبورغ
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.