هل تنجح سويسرا في رفع التحدي؟
انطلق في سويسرا جدل جديد حول كيفية التعاطي مع ملف العلاقة الحميمة التي كانت قائمة مع نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا. وفي انتظار حسم القضاء في مطالب التعويضات المرفوعة مؤخرا، يقترح البعض تمويل مشروع مارشال جديد يعوّض عما فات...
مرة أخرى ينفتح سجل التاريخ القريب لسويسرا على ملف مزعج. فبعد قضية الودائع اليهودية في المصارف السويسرية الذي أقضت مضاجع السويسريين في السنوات الأخيرة من التسعينات وانتهت بدفع البنوك السويسرية مليارا ومائتين وخمسين مليون فرنك كتعويضات، عاد إلى الواجهة مجددا ملف العلاقات التي كانت قائمة بين سويسرا ونظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا.
وبالتزامن مع رفع المحامي الأمريكي أد فاغان الأسبوع الماضي لقضية أمام القضاء السويسري يطالب فيها اثنين من أكبر المصارف السويسرية بتقديم تعويضات مالية لضحايا نظام الميز العنصري بسبب ما وصفه بـ “تعاونهما مع بريتوريا”، شهدت وسائل الإعلام السويسرية سيلا من التحقيقات والحوارات والتعليقات حول الموضوع.
ومع إعلان المحامي الأمريكي ميكائيل هاوسفيلد في تصريح أدلى به إلى صحيفة “فيلت فوخه” الأسبوعية عن اعتزامه التقدم في شهر آب أغسطس القادم بشكوى مماثلة، سارعت السيدة نوزيفو جانياري بارديل سفيرة جمهورية جنوب إفريقيا في برن إلى التأكيد في تصريحات نشرها عدد الأحد الماضي لصحيفة “نويه زوريخر زايتونغ” على أن حكومتها – وإن كانت تتفهم المبررات- لا تدعم تحرك المحامي فاغان.
حقائق ومعطيات
قد يبدو مثيرا للبعض أن يتنازل الذين كافحوا نظام الأبارتايد بشراسة طيلة عشرات السنين عن حقهم في ملاحقة الشركات والبنوك والحكومات التي ساهمت بشكل أو بآخر في إطالة عمر نظام عنصري بشع راح ضحيته عشرات الآلاف من الأشخاص، لكن التقليب المتعمق في صفحات تاريخ العلاقة بين برن وبريتوريا يكشف عن بعض الحقائق المثيرة.
أولا لم يعد بإمكان أحد في سويسرا أن يتنكر للحقائق التاريخية الموثقة التي انكشفت شيئا فشيئا منذ انهيار نظام الميز العنصري. فالكونفدرالية واستنادا إلى حيادها التقليدي لم تنضم إلى كل العقوبات الدولية التي فرضت على بريتوريا من جانب الأمم المتحدة، ولم تلتزم إلا في حالات معينة بالحظر الشامل الذي قررته الدول المصنعة في العالم ابتداء من عام خمسة وثمانين.
فعلى سبيل المثال، اتضح الآن أن المصارف السويسرية لعبت دورا مهما في استيراد الذهب من جنوب افريقيا بل وصلت مقتنياتها في بعض الأعوام إلى نصف إجمالي إنتاج البلد. كما تبين أن واردات سويسرا من الألماس قد ارتفعت بشكل حاد ابتداء من عام سبعة وثمانين قبل أن تتراجع في عامي واحد وتسعين واثنين وتسعين.
يشار من جهة أخرى إلى أن الكونفدرالية استوردت الأغلبية الساحقة من احتياجاتها من الفحم الحجري من جنوب إفريقيا منذ منتصف الثمانينات. بل إن بعض الدراسات التي أنجزتها الأمم المتحدة اعتبرت أن البنوك السويسرية لعبت دورا حاسما في مساعدة حكومة بيتر بوتا على تجاوز أزمات نقص السيولة الخطيرة التي مرت بها في مناسبات متعددة ابتداء من عام خمسة وثمانين.
لكن الخبراء في القانون الدولي ينبهون إلى أن الخيط الجامع بين كل هذه المجالات التي تعاملت فيها الشركات والمصارف والحكومة السويسرية مع نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا يتمثل في عدم خضوعها لما يمكن وصفه بـ “الإجماع الشامل” من طرف البلدان الغربية، أي أن سويسرا لم تكن البلد الغربي الوحيد الذي لم يلتزم بالعقوبات المفروضة في هذه القطاعات.
الهجوم على سويسرا .. أسهل!
وعلى الرغم من أن السويسريين لا يوردون هذه النقطة في مجال الدفاع عن مواقفهم أو تبرير سياساتهم السابقة، إلا أن توالي الشكاوى المرفوعة ضد مؤسسات اقتصادية ومالية وربما ضد الحكومة الفدرالية مستقبلا، سترغمهم على محاولة البحث عن أجوبة واضحة عن سؤال محوري: ما الذي فعلته الحكومات رسميا وعمليا من أجل منع كل هذه الأطراف من القيام بما قامت به؟
وفي انتظار ذلك يجدر التذكير بحقيقة تاريخية مهمة. فالخوف الذي تملك المعسكر الغربي برمته (مع استثناء إسكندينافي واضح) من سقوط جنوب إفريقيا تحت تأثير المعسكر الشيوعي بعد أنغولا والموزمبيق القريبتين، دفع حكوماته ومؤسساته المصرفية والإقتصادية بل وجزءا من نخبه إلى انتهاج سياسة غض النظر عن الجرائم المرتكبة من طرف نظام بريتوريا لما يزيد عن ربع قرن من الزمان.
لكن ضغوط الرأي العام الغربي وخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة وإعلان حالة الطوارئ في جنوب إفريقيا في عام خمسة وثمانين غيرت المعطيات وأدت إلى فرض نظام عقوبات مشدد على حكام بريتوريا ابتداء من نفس السنة. لكن الحكومة الفدرالية في سويسرا، وباستثناء حظر محدود على صادرات المعدات الحربية، رفضت إلى آخر لحظة تطبيق العقوبات الدولية.
لذا فمن المبرر أن تتركز هجمات المحامين والمطالبين بتقديم تعويضات لضحايا الإرهاب، في مرحلة أولى، على سويسرا التي كانت، حسبما يبدو من المعطيات المتوفرة، شريكا مهما لنظام أثارت ممارساته البغيضة استنكار قطاعات واسعة من الرأي العام في سويسرا والبلدان الغربية.
لكن ما جاء في نسخة من رسالة وجهها الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا بالفاكس إلى فريتز لويتفيلر محافظ البنك الوطني السويسري السابق بمناسبة عيد ميلاده السبعين في الثاني والعشرين من شهر تموز- يوليو عام 1994، ونشرتها صحيفة “نويه زوريخر زايتونغ” في عددها الصادر يوم الأحد الماضي، يؤكد أن الأمور ليست بمثل هذه البساطة.
الأمور ليست بمثل هذه البساطة..
فقد حرص مانديلا على تضمين رسالته، التي بعث بها المؤتمر الوطني الإفريقي إلى الصحيفة السويسرية، شكرا حارا لمحافظ البنك الوطني السويسري على الجهود التي بذلها لتنظيم عملية إعادة جدولة ديون جنوب إفريقيا في الثمانينات وعلى ما قام به رفقة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر والمستشار الألماني السابق هلموت كول من أجل ضمان الإفراج عنه.
لذا يتضح أن السلطات الحاكمة اليوم في جنوب إفريقيا لا تسعى لاستغلال الموقف وفتح جبهة مع سويسرا المستثمر الخامس في البلد. فهي لا تريد الإنضمام إلى مطالب المحامي إد فاغان ولا تساند مناداة تجمع بعض المنظمات غير الحكومية المعروف باسم يوبيل جنوب إفريقيا (Jubilee South africa) لسويسرا والدول الغربية عموما بإلغاء شامل لديون البلد وتقديم تعويضات، لأنها تلتزم بالمنهج الذي اعتمدته لطي صفحة الماضي والذي لخصته سفيرة جنوب إفريقيا في برن بقولها: “أنا لا أنسى لكنني أصفح”!
لكن هذا لا يعني تجريد السلطات والأوساط الإقتصادية والمصرفية في سويسرا من أي مسؤولية عما شهدته تلك الفترة الكالحة من تاريخ بلد إفريقي كبير. فقد بدأت المزيد من الأصوات تدعو إلى مراجعة تاريخية عميقة ونزيهة ومسؤولة لمعرفة حقيقة ما حدث وخاصة فيما يتعلق بموقف الطبقة السياسية التي زعمت مجلة “فاكتس” (Facts) في عددها الصادر يوم الخميس أن جزءا منها كان على اطلاع محدود بوجود “تعاون وثيق ولفترة طويلة بين أجهزة الاستخبارات السويسرية وقطاع من الإدارة العسكرية” مع السلطات في جنوب إفريقيا.
هل سيقبلون بمشروع مارشال؟
وفيما يتخوف البعض من أن يتحول هذا الجدل الجديد حول حقيقة ومضمون العلاقة التي كانت قائمة لفترة طويلة بين سويسرا ونظام الميز العنصري إلى تبرير إضافي لتقديم تعويضات مالية كبيرة، دعا إعلاميون وبرلمانيون إلى عدم الاستمرار في دفن الرؤوس في الرمال وإلى استغلال هذه الفرصة للمساهمة بشكل ناجع في التعويض عما أسموه بـ “المشاركة الواعية” في جرائم نظام الميز العنصري.
ومن الملفت في هذا السياق أن تقترح النائبة الإشتراكية أنيتا فاتز (Anita FETZ) يوم الثلاثاء في برن على البنوك والشركات الكبرى والسلطات الفدرالية أن تبادر بالدعوة إلى مؤتمر دولي يضم جميع الأطراف المعنية بالموضوع للإتفاق على كيفية توفير التمويلات الضرورية لتنفيذ “مشروع مارشال” لتحسين الظروف المعيشية للسكان السود في جنوب إفريقيا الذين لا زالوا يعانون من مخلفات حقبة الأبارتايد البغيضة.
فهل ستتمكن سويسرا من النجاح في الإختبار الجديد من خلال الإعتراف بالأخطاء وابتكار مقترحات خلاقة تساهم بها في إعداد مستقبل أفضل للأجيال الجديدة في جنوب إفريقيا؟ أم أن رجال السياسة والمال والأعمال سيغرقون في ردود الفعل المتشنجة الدفاعية حفاظا على “السمعة الوطنية” والمصالح الآنية؟
الأشهر القادمة ستحمل في طياتها الجواب عن هذا السؤال لكن الفرصة تبدو اليوم سانحة لتجاوز مخلفات الماضي الأليمة ولتأسيس علاقة تعاون مثمر وندّيّ مع بلد بحجم وأهمية جنوب إفريقيا، على الرغم من كل الأخطاء والتجاوزات المعروفة أو التي قد تكتشف في مستقبل الأيام.
كمال الضيف – سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.