هل تنفجر قنبلة فانونو النووية مرة أخرى؟
إن أهمية الإفراج عن الفني الإسرائيلي موردخاي فانونو تأتي من أنها تعيد التذكير بما قام به عام 1986 عندما كشفت معلوماته عن وجود "ترسانة نووية" ضخمة لدى إسرائيل.
فحتى لو كانت لدى فانونو، بعكس ما يقول، أسرار جديدة، فإن ذلك قد لا يضيف كثيرا إلى التقديرات القائمة.
إن الأهم، هو أنه حتى لو أغلق مفاعل دايمونا ذاته، أو تم إخضاعه للتفتيش على الأقل، لن يحل ذلك المشكلة التي حاول فانونو إثارتها. فقد خرجت أسلحة إسرائيل النووية من سراديب النقب منذ وقت طويل، ولم يعد المفاعل يطرح مخاوف حقيقية. فما هو قادم ليس أكثر خطورة مما هو قائم.
إن عودة قضية موردخاي فانونو إلى الظهور مرة أخرى بالصورة الحالية تكتسب أهمية خاصة، إذ أنها تثير كل الإشكاليات النووية المطروحة في الشرق الأوسط مرة واحدة. فهي تعيد للأذهان أن هناك مشكلة نووية كامنة، أو مسكوت عنها، إسمها “إسرائيل”، في وقت تتم فيه إزالة كاملة للقدرات النووية المملوكة للدول الأخرى، كليبيا وإيران.
كما تفجر الانتقادات التقليدية لسياسة الولايات المتحدة المزدوجة، التي تتجاهل وجود ترسانة نووية شبه معلنة لدى إسرائيل، في وقت أقدمت فيه على غزو دولة كالعراق واحتلالها في ظل أدلة مشكوك فيها.
وربما يجد فيها أنصار نظرية المؤامرة في التحليلات العربية، عملية مخططة من جانب إسرائيل لتذكير الدول العربية، التي تعانى من انهيار أصلا، بأنها تمتلك القوة المطلقة، وأنها غير قابلة للمساس بها، في وقت بدأت فيه تلك التحليلات في طرح تصورات استراتيجية بعيدة عن الواقع لمستقبل إسرائيل في المنطقة، كرد فعل نفسي إزاء العمليات التي تقوم بها إسرائيل، دون رد مضاد، ضد الفلسطينيين. ومثل تلك التحليلات ظهرت من قبل عندما نُـشرت “معلومات فانونو” لأول مرة في منتصف الثمانينات.
لكن ربما تكون الجوانب الفنية للموضوع أكثر أهمية. فقد مرت حوالي 18 سنة على قيام صحيفة صاندي تايمز البريطانية بنشر تقرير يوم 5 أكتوبر 1986 الشهير تحت عنوان “اكتشاف أسرار الترسانة النووية الإسرائيلية”، دون أن تحدث عملية إعادة تقييم حقيقية واسعة النطاق لبعض عناصر التقديرات التي بُـنيت على أساس معلومات فانونو، بل وتم تجاهل بعضها كليا، وكأن التاريخ قد توقف عند ذلك العام، أو كأن كل ما أكّـده فانونو هو أن لدى إسرائيل أسلحة نووية بعدد كبير، وهو ما قد يؤدى الإفراج عنه بتلك الصورة المثيرة التي توحي بأنه لا يزال يمثل خطورة على أمن إسرائيل القومي، إلى إعادة النظر فيه مرة أخرى.
قنبلة 1986
لقد مثل ما نشرته الصحيفة استنادا على معلومات فانونو الموثقة، انقلابا حقيقيا في التقديرات السائدة بشأن قدرات إسرائيل النووية، والتي كانت تعتمد حتى ذلك الحين على معادلات نظرية، بأكثر مما تعتمد على معلومات حقيقية، خاصة بشأن ما يلي:
– أنه أكد للمرة الأولى بشكل نهائي أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، وكانت تلك المسألة لا تزال محل تحليل، خاصة من جانب الدول العربية، التي كانت نوازعها تتراوح بين اتهامات التأكيد ونفسية النفي، خاصة مع عدم إجراء إسرائيل تجارب نووية معلنة، فقد كشف عن صور ووثائق تتصل بعملية فصل البلوتونيوم 239، وصور رؤوس نووية، فيما سمي “ماخون–2” الذي كان يعمل فيه.
– أن معلوماته أكّـدت أن عدد الرؤوس النووية الإسرائيلية أكبر مما كان يُـعتقد، فقد ذكر أن طاقة مفاعل دايمونا قد رفعت عام 1976 لتصل إلى 150 ميغاوات، وبالتالي، كان المفاعل قادرا على إنتاج مواد يُـمكن من خلالها فصل حوالي 40 كيلوغرام من البلوتونيوم سنويا، بما يعني امتلاكها لما بين 100 و200 رأس نووية خلال السنوات العشر السابقة فقط، وكان ذلك يعني وجود ترسانة وليس مجرد “أسلحة”.
– أن البرنامج النووي العسكري الإسرائيلي كان أكثر تطورا مما كان يتخيل. فقد كان إنتاج إسرائيل لمواد كالليثيوم 6 ديوتيرايد، يعني إنتاجها قنابل اندماجية هيدروجينية، وبالتالي، نيوترونية، نشرت صور نماذج مختبرية لها، فلم تكن ترسانة إسرائيل النووية تتضمن فقط أسلحة انشطارية ذرية من عيار 20 كيلوطن، وإنما أسلحة أكبر حرارية وأسلحة أصغر تكتيكية.
لقد كان مفهوما قبل ذلك أن إسرائيل تقف وراء بعض التسريبات الهامة حول قدراتها النووية لأغراض الردع من خلال زرع الشك. فلم تكن هي ذاتها حريصة تماما على إخفاء ما لديها، بحيث لم تعد سياسة الغموض النووي التي اتبعتها منذ عام 1969 سوى غطاءً رسمي توجد مصالح كبرى وراء استمرار وجوده على ما هو عليه، وشكك كثيرون في أن فانونو ربما استخـدم، دون أن يدري، في هذا الاتجاه، لكن ما كُـشـف عنه كان مذهلا بدرجة أثارت شكوكا أكبر في احتمال أن يكون مدبرا.
تأكيدات وتشكيك
ولقد استمرت معلومات فانونو تشكّـل أساس معظم التقديرات الخاصة بأعداد الأسلحة النووية الإسرائيلية. فقد تصاعدت تلك الأعداد عام 1991 لتصل، كما ذكر سيمور هيرش في كتابه “الخيار شمشون”، إلى 300 سلاح نووي. ثم قفز الرقم عام 1997 تبعا لتقديرات دورية “جينز انتيلجنس ريفيو” إلى 400 رأس نووية بطاقة إجمالية تصل إلى 50 ميغا طن، وتبعاً لما أشار إليه تقرير أذاعته شبكة NBC الإخبارية الأمريكية في سبتمبر 1993، فإنه حتى إذا تم القبول بالتقديرات المتحفظة ذاتها (100-200 رأسا، حسب المركز الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن)، فإن الترسانة النووية الإسرائيلية “قد تكون أكبر من ترسانة بريطانيا”.
ورغم ذلك، شهدت الفترة التالية نوعا من التشكيك الموثق أيضا في أهم تقديرات فانونو. ففي عام 2001 بث موقع اتحاد العلماء الأمريكيين صورا فضائية التقطت بواسطة أقمار صناعية أمريكية تجارية لمنطقه مركز النقب النووي خلال سنوات تمتد من الستينيات حتى ذلك العام، مع تحليل مقارن لصورتين لمنطقه المفاعل التقطت الأولى في سبتمبر 1971 والثانية في يوليو 2000، وأوضحت المقارنة أن شيئا لم يتغير في نظام تبريد المفاعل، وأن برجي التبريد ظلا كما هما عليه، وكان ذلك يعني أن معلومات فانونو بشأن رفع طاقة المفاعل حتى 150 ميغاوات لم تكن دقيقة، وأن التقديرات يجب أن تعود إلى الاستناد على الطاقة المؤكدة، وهي 70 ميغاوات.
والمثير أيضا، أن أحدا لم يهتم كثيرا بما قاله فانونو حول الأسلحة الهيدروجينية. فلم يفهم أحد أصلا لماذا قامت إسرائيل بتطوير قنابل هيدروجينية من عيار 200 كيلو طن في منطقة لا توجد بها سوى مدن صغيرة، كما أن الاهتمام بما قيل حول الأسلحة التكتيكية ارتبط بمعلومات كانت تحتاج إلى صور فانونو آخر لكي يتم تصديقها.
فقد ذكرت مصادر مختلفة أنها تمتلك قذائف مدفعية من عيارات صغيرة تصل إلى 0.5 كيلو طن، وربما ألغاماً نووية لا تتجاوز طاقتها التدميرية 0.05 كيلو طن، والمؤكّـد أن اتجاه التصغير قد وصل إلى مدى بعيد، لكن الحديث عن ألغام كان أعقد مما يحتمل.
واقع جديد
إن فانونو يرغب، كما هو واضح، في الاستمرار في حملته الخاصة بأسلحة إسرائيل النووية. لكن المسألة أنه لا يزال يتصور أن “المشكلة” لم تزل هناك، في دايمونا، حيث كان يعمل قبل عدة عقود، بينما تشير المعلومات التالية إلى أن إسرائيل أصبحت تتصرف على نطاق معين وكأنها دولة نووية معلنة تمتلك قوات نووية، وليس مجرد أسلحة نووية، وأن ترسانتها خرجت عمليا من تحت الأرض.
فثمة تقارير نُـشرت بانتظام في السنوات الأخيرة تؤكّـد أن إسرائيل قد قامت بتشكيل قوة نووية على نطاق واسع، وقامت بنشر عناصر من قواتها النووية فعليا على مسرح العمليات في النقب والجولان. وأضافت إليها تقارير، مرفقة بصور أقمار صناعية، نشرت عام 1994، أن هناك قواعد جوية نووية وقواعد صواريخ نووية ومواقع لتخزين الأسلحة النووية التكتيكية، في تل نوف، وكفار زخارياه، وعيلابون شمال الخليل، إضافة إلى ما يقال بشأن غواصات دولفين.
إن تفتيش دايمونا لن يُـؤدّي – لو حصل – إلا إلى اكتشاف ما تم اكتشافه من قبل، وهو أن أسلحة نووية قد صنعت فيه، وحتى إذا توقف المفاعل، فإن لدى إسرائيل حاليا كميات ضخمة من البلوتونيوم 239 تتيح لها مواصلة تطوير ترسانتها. فقد أصبحت الأسلحة، وليس المفاعل، هي المشكلة.
وعلى الرغم من أن فانونو قد وجد من يستقبلونه ويرحبون به، بل ويرشحونه لجائزة نوبل، فإن الرأي العام الإسرائيلي، الذي يعترض 56 % منه صراحة على نزع إسرائيل لأسلحتها النووية، لا يزال يفضل عدم الخوض في تلك المسألة، باعتبارها سياسة عليا.
كما أن تغييرا كبيرا قد طرأ على مُـجمل عملية ضبط التسلح الإقليمي في الشرق الأوسط، إذ أصبحت الولايات المتحدة هي الفاعل الرئيسي في تحديد من يمتلك ومن لا يمتلك مثل هذه الأسلحة. وهناك تفاهم معروف، يكاد يمثل اتفاقا بين الجانبين منذ نهاية الستينات، على أن واشنطن لن تقترب من تلك المسألة، طالما لم تقم إسرائيل بإعلان الامتلاك أو التهديد بالاستخدام، على الرغم من وجود صور لتلك الأسلحة وتصريحات تكاد تمثل تهديدات معلنة خلال سنوات مختلفة، كعام 1991.
ومع ذلك، يظل كل ما يتعلق بخروج فانونو، الذي تحول إلى رمز، من السجن، سواء كانت إشارة يده أو أقواله أو مستقبله أو القيود المثيرة التي فرضت عليه، والتغطية الإعلامية التي حظي بها، إضافة إلى ما قام به أصلا، وما تم القيام به ضدّه، من خطفه حتى حبسه، ودلالات كل ذلك شاهدة على اختلال مستفز في التعامل مع حقائق خطرة على ساحة الشرق الأوسط.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.