هل ستتحول سويسرا إلى موناكو ثانية؟
لفت لجوء عدد متزايد من الشركات السويسرية إلى ترحيل جزء من إنتاجها إلى الخارج أنظار المتخصصين، حيث يشكل تنامي هذا التوجه خطرا على مستقبل الصناعة في البلاد.
وقد أنجز معهد تقنية الإدارة التابع لجامعة سان غالن الاقتصادية دراسة معمقة حول هذه الظاهرة، كشفت نتائجها عن مؤشرات غير مطمئنة.
البحث عن تكاليف إنتاج أقل والاقتراب من الأسواق الجديدة، هما السبب الرئيس الذي دفع بالشركات الكبرى السويسرية إلى الاتجاه نحو دول في شرق أوربا وجنوب شرقي آسيا وحتى الولايات المتحدة.
هذه المبررات منطقية من منظور رأس المال الحر، إلا أن توابعها الإجتماعية والإقتصادية كبيرة، لا سيما مع تزايد عدد الشركات التي بدأت منذ عام 1990 في تحويل كامل خطوط إنتاجها أو جزء كبير منها إلى خارج سويسرا.
واللافت للنظر – حسب الدراسة – أن هذا التوجه لم يعد يقتصر على المؤسسات الصناعية الكبرى أو الشركات المتعددة الجنسيات، بل اتسع ليشمل أعدادا متزايدة من الشركات الصغرى والمتوسطة، وهنا مكمن الخطر حيث أن هذه الفئة من المؤسسات هي التي تشكل فعليا عـصُـب الحياة الصناعية في سويسرا.
ويرى البروفيسور إيلغار فلايش، أحد المشاركين في بلورة وإعداد الدراسة، أن “تأمين الحضور القوي في الأسواق الجديدة يمثل عاملا آخر يدفع بالشركات الصناعية إلى مغادرة سويسرا”، حسبما جاء في حواره مع سويس انفو.
هجرة بلا تفكير في العودة
وطبقا للدراسة التي تم تقديمها في 7 يوليو الجاري خلال فعاليات ندوة حول مستقبل الإنتاج الصناعي في سويسرا في جامعة سان غالن، فإن مجالات التقنية الإليكترونية الدقيقة والماكينات والصناعات الكيماوية والصيدلانية، هي في طليعة التخصصات التي تتجه إلى الخارج، وذلك بزيادة بلغت 25% ما بين عامي 1990 و 2004.
وتتوقع الدراسة أن ترتفع تلك النسبة إلى 75% في صفوف الشركات الكبرى والمتوسطة و60% في الأخرى الصغرى، لا سيما وأن الشركات التي أقدمت على تلك الخطوة ترى بأنها “ناجحة وهامة”، ويقول يوست غيغينات وهو خبير استراتيجي يعمل في أحد المكاتب الاستشارية المتخصصة، والمشارك في تلك الندوة: “إنه لم تظهر لحد الآن أية توجهات من تلك الشركات للعودة إلى سويسرا أو تحويل مكان الإنتاج الذي حطت فيه رحالها”.
ويتفق البروفيسور فلايش مع هذا الرأي، ويضيف في حديثه إلى سويس أنفو بأن الشركات التي غادرت سويسرا لم تغير من البلد أو الجهة التي قصدتها، وان كانت هناك بعض الحالات التي قامت فيها المؤسسات بتغيير إنتاجها أو مجال عملها في موطنها الجديد.
فالدراسة تشير إلى أن مجموعة الشركات التي يزيد عدد عمالها عن 500 شخص ولها إلى الآن 14 وحدة إنتاجية في شرق أوروبا، تسعى إلى زيادة توجدها لتصل إلى 80 وحدة، وأما الشركات التي يقل عدد عمالها عن هذا الحجم فلها إلى الآن 9 فروع انتاجية في نفس المنطقة الجغرافية وسترتفع إلى 47، في المستقبل المنظور.
لماذا إلى شرق أوروبا والصين؟
وقد قسمت الدراسة مناطق الاستقطاب الجديدة إلى مجموعتين هامتين: الأولى تضم دولا من شرق أوربا وهي بدورها تنقسم إلى منطقتين، واحدة تضم الأعضاء الجدد (بولونيا وتشيكيا والمجر وسلوفاكيا وسلوفينيا وأستونيا وليتوانيا ولاتفيا) في الاتحاد الأوروبي اعتبارا من 1 مايو 2004، وتتميز بموقعها الجغرافي وبقربها من سويسرا، وسهولة النقل منها إلى بقية الأسواق، ومجموعة أخرى متاخمة لحدود روسيا مثل أوكرانيا وبلغاريا ورومانيا، والتي تنخفض فيها أسعار الخدمات والأيدي العاملة بشكل كبير، مع وجود العمالة المدربة أو التي من السهل إعادة تأهيلها للتعامل مع تقنيات التصنيع المتطورة.
وقد تمكنت تلك الدول، حسب الدراسة، من استقطاب شركات صناعية كبرى من مختلف دول العالم، فعلى سبيل المثال، نجحت العاصمة السلوفاكية براتيسلافا في اجتذاب شركات صناعة سيارات ألمانية وفرنسية بل ويابانية إليها، وضمنت استثمارات في هذا القطاع تصل إلى 2.8 مليار يورو حتى عام 2008.
في المقابل، رحبت صوفيا البلغارية بشركات أوروبية كبرى في مجال تطوير وتصميم البرمجيات، وهي بذلك تعطي حافزا لمؤسسات أخرى مماثلة للدخول والتوافد على أراضيها.
أما الصين فقد جذبت تلك الشركات إليها بسبب النمو الاقتصادي الكبير، والتغير الملحوظ في سياستها في التعاون مع المؤسسات العالمية الكبرى، الذي شهدته في السنوات الأخيرة وتوفر العديد من المواد الخام، إضافة إلى وجودها في قلب سوق ضخمة جدا.
المخاوف تتحول إلى واقع
ويشير الباحث الاستراتيجي برند لوسر المشارك في إعداد تلك الدراسة وفي الندوة التي قدمت نتائجها إلى الرأي العام، إلى أن تحويل الانتاج الصناعي إلى تلك المناطق يتطلب مقومات مختلفة، إذ لا بد للشركة من أن تكون لها استراتيجية واضحة المعالم في التصنيع والتسويق، فوجود الأيدي العاملة الرخيصة ليس كافيا لضمان نجاح تلك الشركات هناك، وينصح الباحث الشاب الشركات الراغبة في مغادرة سويسرا بضرورة وضع سيناريوهات مختلفة لبرامج عملها الإنتاجي في الدول الجديدة، تتعامل مع مختلف الاحتمالات التي يمكن أن تواجهها هناك، وإلا فإنها ستمنى بالفشل الذريع، إذا اعتمدت فقط على اللجوء إلى تكاليف الانتاج الرخيصة.
وتأتي هذه الدراسة لتؤكد المخاوف التي سبق وأن آثارها الخبراء من قبل حول تأثير عملية توسيع الاتحاد الأوربي، وارتفاع مستوى المعيشة في سويسرا وغرب أوروبا عموما على تراجع فرص العمل فيها، وذلك في ظل اتساع تيارات العولمة وتنامي استحقاقاتها واستمرار المطالبة المتواصلة بتحرير جميع القنوات الاقتصادية.
ويعتقد اندرياس هوغي السكرتير العام لرابطة الصناعات السويسرية المنتجة بأن هذا الاتجاه سينعكس أيضا على سياسة التعليم، ويتساءل لماذا ستنفق المؤسسات العلمية التكاليف الباهظة لتخريج المهندسين مثلا، ثم لا يجدون عملا في سويسرا؟ وهو ما يفسر حسب قوله، تراجع الإقبال على الالتحاق بكليات الهندسة بمختلف فروعها مؤخرا في سويسرا.
سويسرا في مفترق طرق
وبلهجة متشائمة تماما، يرى هوغي بأنه لابد من التفكير في حل ومخرج سريع لهذا المأزق في الوقت المناسب، قبل أن تفقد سويسرا مركزها المتقدم في الابتكار والتطوير والانتاج المتميز، وتقوم جميع الشركات الصناعية الهامة بتحويل نشاطاتها إلى الصين أو الهند، حيث مستوى المعيشة أرخص وتكاليف الإنتاج أقل.
ويبدو أن هذه النبرة غير المتفائلة بدأت تلقى صدى لها في أوساط العديد من المراقبين الاقتصاديين، بعدما رأوا تحذيراتهم تتحول إلى حقائق، سواء من خلال لجوء الشركات الكبرى إلى تقليص الأجور دون اعتراضات جدية من طرف النقابات (مثلما حدث مؤخرا في ألمانيا)، أو عبر ترحيل خطوط الإنتاج إلى الدول ذات المستويات المعيشية المنخفضة، مع وجود منافسين قادرين على توفير منتجات رخيصة بنفس المعايير الأوروبية.
ومن المؤكد أن صيحات التحذير التي يطلقها الخبراء أمام هذه الطفرة في أسواق العمل والصناعة لن تتوقف قريبا، لأنه ليس من المستبعد حسب رأيهم أن تتحول سويسرا تدريجيا إلى “موناكو ثانية” لا تقدم سوى الخدمات المالية والمصرفية وأماكن الترفيه والسياحة؟!.
تامر أبوالعينين – سويس انفو
شملت الدراسة 112 شركة سويسرية كبرى تعمل في مجالات التقنية الاليكترونية الدقيقة والميكنة الثقيلة والمنتجات الصيدلانية والكيماويات ومعدات البناء.
37% منها حولت انتاجها بالفعل إلى شرق أوروبا والصين، والبقية قالت إنها على الطريق.
تشير الدراسة إلى أن الظاهرة في انتشار وستشمل قريبا الشركات الصغرى والمتوسطة ومختبرات البحث والتطوير التقني والصناعي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.