هل يمكن السيطرة على العراق؟
لم يكن لجوء دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي إلى نظرية "أرض الشقاق"، مجرد تأشير عن عجْـز السيطرة على الأوضاع الأمنية المتردية في العراق، وإنما تعبيرا عن ارتباك شديد في التعامل مع المشكلة الأمنية.
وربما جاء ذلك نتيجة لاستنفاذ الخطط الاحتياطية التي كانت موضوعة لها على نحو ينبئ باحتمالات ظهور سيناريوهات ما يُعرف بـ “الحالة الأسوأ”.
لقد ارتبطت الحالة العراقية بعدد من النظريات المسكوت عنها في العادة، على الرغم من شعبيتها، أهمها على الإطلاق نظرية “الشعب الجامح”، الذي يصعب السيطرة علية سوى بأساليب خاصة. وبشكل عام، ترتبط الصورة النمطية السائدة للعراقيين بعنصرين:
الأول، أن الشخصية العراقية تتّـسم بملامح عدوانية عنيفة وتمرد مستمر، تجعل من الشعب العراقي “شديد المراس”، وتستند تلك الصورة على قصص تاريخية ارتبطت بأقوال على غرار عبارة الحجاج بن يوسف الثقفي التي تبدأ بالتهديد الشهير “يا أهل العراق”. كما تستند على ميراث من الدموية في معظم فترات السياسة العراقية الحديثة، سواء ما تعلق بسلسلة الانقلابات العسكرية أو صراعات السلطة أو القمع النظامي الشديد للشيعة والأكراد، وحتى السنة العرب في الداخل أو سلسلة حروب الخليج الثلاثة التي خاضها العراق أو شُـنّـت ضده، منذ بداية الثمانينات.
الثاني، أن العراق لا يُـمكن أن يُـحكم سوى بسياسة الحديد والنار التي توجد بشأنها شبه نظريات تبدأ بسياسة “قطف الرؤوس” التي اتبعها الحجاج، أو الحملات التاريخية التي تنطلق من بغداد جنوبا وشمالا، أو الطريقة التي اتبعها الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين عبر حكم البعث، والتي قدّم مؤلفان عراقيان شهيران، هما سمير الخليل وحسن العلوي وصفا مُـفزعا لها في كتابيهما “جمهورية الخوف” و”دولة المنظمة السرية”، أو تلك التي قدّم بشأنها سعد البزاز تحليليه للكيفية التي كانت بها كل “حرب تلد أخرى”، في السياسة الخارجية العراقية.
استدعاء التاريخ
تُـشير التقييمات العلمية لمسألة الصور النمطية للشعوب إلى وجود مثل تلك الصور، واستنادها بالفعل على بعض الأسس، لكنها تظل في النهاية تصورات شعبية أكثر منها أحكاما علمية يصعُـب الاستناد عليها في التحليلات أو السياسات. فقد شهدت الحرب الأهلية اللبنانية وحرب جنوب السودان مقتل ما لا يقل عن 250 ألف شخص على أيدي مواطنين آخرين ينتمون لشعبين، لا تمثل العدوانية عنصرا من عناصر صورهما النمطية على الإطلاق.
لكن المثير هو أنه تم الاستناد على ملامح الصورة النمطية للعراقيين في “صياغة توجهات” أو “التوصية بسياسات” في كثير من الأحيان، وكانت المسألة جادة إلى أبعد حد. ففي منتصف التسعينات، كانت ثمة حوارات في بعض دول الخليج بشأن ضرورة استمرار العقوبات المفروضة على العراق لاعتبارات مختلفة من بينها “إعادة تأهيل الشعب العراقي لكي تتقلص ميوله العدوانية”. كما كانت ثمة تقييمات، عقب نهاية حرب العراق الأخيرة عام1993 بشأن “ضرورة حكم العراق عسكريا، وليس مدنيا، للسيطرة عليه”.
ويبدو أن تلك الصورة النمطية قد استدعيت مرة أخرى عندما بدأ نطاق الفوضى المسلحة والأعمال الوحشية في الاتساع داخل العراق خلال الأسابيع الأخيرة بصورة توحي بفقدان السيطرة على النحو الذي دفع رامسفيلد إلى إطلاق تصريحه المثير، الذي يقرر أن “هذا البلد لم يكن في يوم من الأيام يعمّـه السلام أو مثاليا، ومن غير المرجح، أن يكون كذلك”، وبالتالي، فإنه قد يخرج بقواته من مسرح العراق غير القابل للضبط.
وبدون شك، فإن هذا التقييم الاكتساحي يرتبط بتلك النظريات التقليدية التي لابد وأن وزير الدفاع الأمريكي قد سمعها كثيرا من قبل ولم يكن يقينا يقتنع بها على النحو الذي تشير إليه خطة العمليات التي دفع في اتجاه اتباعها خلال غزو العراق من خلال “جيش صغير”، قبل أن يبدأ بالتفكير فيها بصوت مسموع، كأساس لتبرير إمكانية الخفض المبكر للقوات الأمريكية، حتى وإن لم تحقق أهدافها وفق السياسة الرسمية المعلنة للولايات المتحدة.
التفسير الواقعي
لا توجد حاجة حقيقية هنا لطرح تفسير بديل لأسباب ما يحدث على أرض العراق أو من جانب “أهل العراق” بعيدا عن الصورة النمطية. فهناك داخل الولايات المتحدة ذاتها تيار واسع النطاق من التحليلات يحاول اكتشاف كيف سارت الأمور في الاتجاه الخاطئ، تحت عنوان رئيسي هو: ?What went wrong، وقد أفرزت تلك التحليلات نتائج هامة يمكن فهمها بشأن الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية، وقادت إلى الحالة الراهنة بعيدا عن الصور النمطية للعراقيين.
إن تلك التحليلات تُـشير إلى أخطاء مُـميتة في الطريقة التي اتُّـخذ بها قرار الحرب وفي خطة العمليات ذاتها، والتقديرات الخاصة برد فعل العراقيين، وعدم وجود تصور أو خطة للكيفية التي تُـدار بها مرحلة ما بعد نهاية العمليات الرئيسية، وفشل استخباراتي لا حدود له في الحصول على المعلومات وتحليلها، ثم أخطاء ترتبط بقرارات كبرى، كحل الجيش والحزب دون التفكير في بدائل أو عواقب، وعجز عن التعامل مع ما سمي بأزمة السُـنّـة العرب، وبعض تيارات الشيعة العراقيين، وإدارة سيئة لعمليات التعامل مع المقاومة المسلحة.
وباختصار، فإن التقديرات السائدة في الولايات المتحدة تُـشير إلى أن كل شيء سار منذ البداية في الاتجاه الخاطئ. فحسب العبارة الشهيرة “تم شن حرب خطأ في الاتجاه الخطأ في التوقيت الخطأ”، وربما بطريقة خاطئة، ويتم الاعتراف عمليا بتلك الأخطاء، على طريقة تونى بلير رئيس الوزراء البريطاني، دون الاعتذار عنها أو إبداء الأسف بشأنها، لأنها قادت في النهاية إلى الإطاحة بطاغية كصدام حسين. المهم، أن المشكلة ترتبط بأخطاء فعلية، وليس بـ “طبيعة بشرية”.
فقدان السيطرة
إن ما يحدث داخل العراق في الوقت الحالي يُـمثل مشكلة حقيقية ترتبط بمستوى حاد من فقدان السيطرة بالنسبة للقوات الأمريكية، لكنها مشكلة لها أسبابها التي يمكن تحليل معظمها دونما دلالة حقيقية لذلك، فيما يتعلق بإمكانية استعادة السيطرة أو عدم استعادتها، على نحو يمكن رصد أبعاده العملياتية، بعيدا عن الأخطاء الكبرى المشار إليها، في عدة نقاط:
الأولى، أن ما حدث في العراق بالتعبير الفني هو تدخل عسكري لإسقاط نظام سياسي بالقوة المسلحة، والتدخلات العسكرية، بصرف النظر عن تقييمها الأخلاقي، هي أعقد أشكال استخدام القوة العسكرية، فهي تتم داخل الدول على نحو يحيد تأثيرات موازين القوة المسلحة، كما أنها تؤدّي إلى إقصاء مؤسسة كاملة بقواعدها السكانية عن السلطة، بما يخلق معضلة هيكلية أدت إلى مشكلات حادة من قبل في كل الحالات المشابهة، من كوريا إلى لبنان إلى فيتنام إلى الصومال إلى هاييتي وغرينادا. وقد نجحت التدخلات العسكرية الخارجية أحيانا، وفشل معظمها في الغالب، لكنها في كل الأحوال، كانت تشكّـل مأزقا قاد إلى عقد كما حدث في فيتنام، وما يتشكل حاليا، هو عقدة إضافية ترتبط بحالة العراق.
الثانية، كانت مشكلة عدم السيطرة واحدة من أهم المشكلات التي واجهت كل حالات التدخل العسكري. فقد كانت هناك دائما عمليات مقاومة مسلحة ضد الغزو الخارجي من جانب الجهات التي خرجت أو يستهدف إخراجها من الحكم، وقد اتبعت عناصر المقاومة في العادة استراتيجيات حرب العصابات التي تستند على أسلوب “إضرب وهرب”، على نحو ما وضح في فترة ما بعد الحرب مباشرة في العراق، وفى الحالات القصوى، كانت المقاومة تسيطر على المسرح ليلا، بينما تسيطر قوة التدخل نهارا.
لكن لأن ما سقط في العراق ليس صدام حسين فقط، وإنما مؤسسته التي تتألف من مئات الآلاف وتتمركز قاعدتها السكانية في المثلث السُـنّـي، ولأن مسرح العمليات في العراق هو المدن، وليس الغابات أو الجبال، ولأن مشكلة السُـنة العرب لم تحل، بل كانت تتفاقم مع الوقت تمكّـنت العناصر العراقية العنيفة من السيطرة على الأرض في بعض المدن أو كثير منها، بينما اقتصرت سيطرة القوات الأمريكية على السماء، فقد تزايدت حدة المقاومة لدرجة أصبح يتم الحديث معها عن مدن محررة، أي يمكن محاصرتها فقط، لكن لا يُـمكن دخولها إلا بثمن بشري كبير عبر قتال شوارع، ويمكن استهدافها فقط بالطائرات المقاتلة، وليس الهيلوكبتر المسلحة التي يمكن إسقاطها، كما يحدث في الفلوجة، وكما حدث لفترة في النجف.
الثالثة، أن قدرة القوات الأمريكية على السيطرة كانت تعاني من مشكلة عملياتية حادة منذ البداية. فقد كانت ثمة حاجة لحوالي 250 ألف جندي تقريبا لفرض الاستقرار والحفاظ عليه مع دفع عناصر إضافية لاستعادته وقت الضرورة، وقد كانت التقارير الأمريكية التي صدرت قبل الحرب تتوقّـع وجود مستوى من المقاومة بالفعل، لكنها كانت تتصور أنها ستكون مجرد أعمال عدائية محدودة يمكن تصفيتها خلال ستة أشهر في ظل بيئة مواتية، وفقا لما تم تسويقه في واشنطن من جانب معارضي الخارج العراقيين.
لكن ما حدث كان مثيرا بالمقاييس العسكرية. فلم تكن هناك قوات كافية أصلا لفرض الاستقرار أو الحفاظ عليه، وكانت القرارات الإدارية أو السياسية أو العسكرية تؤدي مع الوقت إلى تفاقم المشكلة، مع عجز عن حل المشكلة سياسيا من جانب القيادة الأمريكية أو الحكومة العراقية، مما أدى إلى “خروج” مناطق عراقية كاملة عن نطاق السيطرة، وامتداد عمليات العنف المكشوفة إلى أحياء محمية جيدا، أو يفترض، داخل العاصمة بغداد، بحيث أصبحت عصابات الجريمة المنظمة، وليس فقط جماعات المقاومة، قادرة على العمل بحرية كبيرة دون اعتراض عسكري أو أمني يُذكر.
وفي ظل تلك الحالة، كانت ثمة حاجة حقيقية من جانب قيادة القوات الأمريكية لاتخاذ قرارات كبرى تتعلق بزيادة عدد القوات أو التفكير، كسيناريو طوارئ، في إمكانية خفض عددها، بصرف النظر عما يمكن أن تصل إليه الحالة الأمنية، وكان الحل السهل هو ما صرح به وزير الدفاع الأمريكي. فالعراق “حالة مستعصية لا يمكن السيطرة عليها، ولم تكن آمنة من قبل، ولن تصبح كذلك” حسب تعبيره.
عقدة العراق
لكن ما صرح به دونالد رامسفيلد كان يعبّـر عن حالة نفسية أكثر منها توجهات عملياتية. فلا تزال مراكز اتخاذ القرار الكبرى في الولايات المتحدة تتصور إمكانية وجود حل لما تعتبره مشكلة أمنية حادة في العراق، على غرار اقتحام “المناطق المحررة” عمليا، لاستعادة السيطرة داخلها من أجل توفير ظروف “معقولة” تتيح إجراء الانتخابات فيها على الأقل، أو تجاوزها تماما في العملية الانتخابية، إذا لم يتم التمكن من ذلك.
ومن هنا يبدأ الجانب الجاد أو الخطر من المشكلة العراقية، والذي يبدو معه أن استمرار البقاء في العراق يمثل مشكلة، كما أن الخروج (المبكر أو الجزئي) منه يمثل مشكلة أيضا. فالعنف المسلح يتفاقم، ومحاولة إتباع عمليات استئصالية في مواجهته سوف يؤدى إلى المزيد من التصاعد، كما أن الانسحاب أمامه سوف يؤدي إلى احتمالات حقيقية لحرب أهلية تبعا لأسوأ تقدير، أو لنشوء “حالة صومالية” على أحسن تقدير.
فالاختيار الحالي هو بين السيئ والأسوأ، وسوف تظل المشكلة قائمة، طالما لم يتم التوصل إلى تفاهمات سياسية في وسط العراق. فقد اعتادت منطقة بغداد منذ القدم على استعمال العنف أو شن الحروب، ولا يبدو أنها يمكن أن تتوقف ببساطة عما اعتادت عليه. فهناك بعض الأسس للصورة النمطية، عندما تتوافر عوامل إخراج المارد من القمقم أو محاولة إدخاله عنوة إليه مرة أخرى بعد خروجه.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.