هموم أمريكا في إعادة إعمار العراق
ظنت الولايات المتحدة أن عملية إعادة بناء الدولة في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين ستستلهم من تجاربها السابقة في ألمانيا واليابان والبوسنة وكوسوفو وغيرها.
لكن السفير جيمس دوبنز، المبعوث الأمريكي السابق لإعادة بناء أفغانستان كشف النقاب عن حقيقة الهموم الأمريكية في العراق
جاءت أحدث دراسة لتجارب الولايات المتحدة في بناء الأمم بعد الحروب، من ألمانيا عام 1945 إلى العراق عام 2003، لتجسّـد الصعوبات الجمّـة التي تواجهها إدارة بوش حاليا فيما يتعلّـق بإعادة الاعمار وبناء الدولة في العراق.
هذه الدراسة أعدتها مجموعة من الخبراء من مؤسسة راند للأبحاث برئاسة السفير جيمس دوبنز، المبعوث السابق للرئيس بوش إلى أفغانستان، لفائدة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ووكالات المخابرات الأمريكية والحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة.
وتمثّـل الدراسة خلاصة للتجارب المستفادة من عمليات إعادة الاعمار الناجحة في ألمانيا واليابان وللتجارب المستمرة في البوسنة وكوسوفو، وأيضا للتجارب الفاشلة في الصومال وهاييتي وأفغانستان، وصولا إلى ما تواجهه الولايات المتحدة في تجربة إعادة بناء العراق بعد الحرب التي شنتها على نظام صدام حسين.
وفي مقابلة أجرتها سويس انفو مع السفير جيمس دوبنز الذي يرأس حاليا مركز الأمن الدولي والسياسة الدفاعية بمؤسسة راند الأمريكية للأبحاث، أوضح أن الولايات المتحدة نجحت نجاحا مبهرا خلال تجربة احتلال ألمانيا واليابان في تحويل مجتمعات الدولتين إلى مجتمعات مستقرة ومعتدلة ومسالمة تتمتع شعوبها بالديموقراطية والرخاء.
وبذلت الولايات المتحدة في التجربتين الكثير من المال والجهد والوقت، بينما فشلت فشلا ذريعا في محاولة بناء مؤسسات الصومال، ومُـنيت بخيبة الأمل في تجربتها في هاييتي، لكنها حققت تقدما مطردا في تدخلها في كل من البوسنة وكوسوفو على عكس الإخفاق الذي تتعرض له تجربة إعادة بناء أفغانستان حاليا. أما العراق، فالتجربة لازالت في بدايتها، ولكنها لا تسير وفق الآمال المعقودة عليها.
وفسّـر السفير دوبنز ما يجمع بين التعثر في أفغانستان والتعثر في العراق بأن عملية التحول اللازمة في المجتمعات في أعقاب الصراعات والحروب تأخذ وقتا طويلا وتلزمها اعتمادات مالية ضخمة، وغالبا ما يسيء الرؤساء الأمريكيون تقدير الوقت اللازم.
فبينما كان الرئيس هاري ترومان يعتقد أن مهمة الولايات المتحدة في إعادة بناء ألمانيا واليابان ستحتاج إلى عام واحد، استمر الاحتلال الأمريكي لهما سبعة أعوام. وكان الرئيس كلينتن يقدر فترة بقاء القوات الأمريكية في البوسنة بعام واحد، ولازالت تلك القوات متواجدة هناك بعد مرور ستة أعوام.
وأعرب السفير دوبنز عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة لم تخصص ما يكفي من الموارد والجهد للقيام بمهام إعادة البناء في كل من أفغانستان والعراق، وضرب مثالا على ذلك بأنه في حالة التدخل في كوسوفو وصل مستوى متوسط ما وصل للمواطن في كوسوفو من المساعدات الدولية بعد 11 أسبوع من الصراع إلى 25 ضعفا لما وصل إلى المواطن الأفغاني بعد 20 عاما من الحرب.
ولذلك، تسارعت خطى إعادة البناء في كوسوفو، خاصة وأن نسبة عدد جنود حفظ السلام فيها مقارنة بعدد المواطنين فاقت بخمسين ضعفا مثيلتها بالنسبة لأفغانستان. وبفضل ذلك، تحسّـن الوضع الأمني وأصبح مستقرا فيما تعثـر استقرار الأمن في أفغانستان.
وبالمثل، فرغم ما أنفقته الولايات المتحدة في العراق بعد الحرب لم يصل مستوى نصيب الفرد العراقي من تلك المساعدات ونسبة عدد جنود حفظ السلام إلى عدد المواطنين العراقيين إلى المستوى الذي أمكن تحقيقه في البوسنة أو كوسوفو.
ونبّـه السفير دوبنز إلى أن التجارب السابقة في مهام إعادة بناء الدول تشير إلى ضرورة توفير قوات لحفظ الأمن بعد الصراعات والحروب تصل نسبتها إلى 20 جنديا لكل ألف مواطن، فإذا طبقنا تلك النسبة على العراق، سنجد أن الأمر يحتاج إلى انتشار ما يقرب من نصف مليون جندي لتوفير الاستقرار الأمني في العراق. وقال السفير دوبنز إن أمام الولايات المتحدة بديلين مثيرين للجدل:
أولا، أن تزيد من حجم القوات الأمريكية في العراق، وهو بديل غير قابل للتنفيذ نظرا لعدم توفر قوات كثيرة يمكن تكليفها بمهام الأمن في العراق بسبب انتشار معظم المتوفر من القوات الأمريكية في مهام أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
ثانيا، أن تُـوسِّـع نطاق المشاركة الدولية في مهام حفظ الأمن وإعادة بناء العراق، ويقتضي ذلك الدخول في مصالحة مع الدول التي عارضت الحرب مثل فرنسا وألمانيا وغيرها، وكذلك السماح لحكومات الدول الراغبة في المشاركة بأن يكون لها دور وصوت في عملية إدارة جهود إعادة الإعمار يتناسب مع مساهمتها في تلك الجهود
“خرافة” إشراك العرب في الاحتلال!
وحول تفسيره رفض جامعة الدول العربية المشاركة بقوات لحفظ النظام وتوفير الأمن في العراق، قال السفير جيمس دوبنز إن فكرة دعوة قوات من دول الجوار العربية للمشاركة في احتلال العراق كانت فكرة سيئة لأنه ما من شعب يقبل أن تحتل أراضيه قوات من دولة مجاورة. فقد جرت العادة أن تكون قوات الاحتلال قادمة من دول أقوى وأغنى ومن منطقة جغرافية أبعد.
ولذلك، فإن فكرة دعوة قوات عربية للمشاركة في جهود حفظ السلام التي يتطلبها الاحتلال الأمريكي للعراق كانت نوعا من الخرافات ينطوي على إشعار العراقيين بقدر أكبر من الإذلال أن يشارك جنود عرب يتحدثون اللغة العربية في احتلال بلادهم.
كما أن بعض الدول العربية أبدت استعدادها للمساهمة بشكل أو آخر في جهود إعمار العراق، ولكن بشرط صدور قرار جديد من الأمم المتحدة يعطي المجتمع الدولي صلاحيات أوسع في تلك الجهود. ولذلك، بدأت إدارة الرئيس بوش جهودا جديدة في الأمم المتحدة لاستصدار مثل ذلك القرار لكن مع الإصرار على تقليص حجم التنازلات الأمريكية ومواصلة التقيد بموقف أمريكي يقوم على أساس عدم الاستعداد للتخلي عن أي صلاحيات في العراق.
شجون الوضع في العراق
وتطرّق السفير دوبنز للمشاكل الأخرى التي تواجه الولايات المتحدة في العراق، بالإضافة إلى مشاكل الأمن والاستقرار وإعادة الاعمار، فقال إن الهدف الأمريكي المعلن بإقامة نظام ديمقراطي في العراق يتطلب، إضافة إلى توفير الأمن والاستقرار، عددا من المقومات الضرورية التي ستحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت مثل إقامة مؤسسات للإعلام الحر، وتوفير عناصر نشطة في نطاق مؤسسات المجتمع المدني، وتدريب الكوادر السياسية على تنظيم صفوفها وفقا لما تنتمي إليه من انتماءات عرقية وقبلية ودينية، بالإضافة إلى جماعات المصالح الأخرى التي ترغب في المشاركة في العملية السياسية على أن يتوفر الشعور بأن الخلاف في الرأي، حتى داخل الانتماء الواحد، ينبغي ألا ينطوي على الشعور بالخوف أو التهديد من أحد.
كما أن التحول الديموقراطي في العراق يحتاج إلى صياغة دستور جديد للبلاد ونظام سياسي يوفر المساءلة والتوازن بين السلطات وتوفير ضمانات تحُـول دون أن تؤدي الممارسة الديموقراطية إلى إساءة استغلال الأغلبية لحقوق الأقليات، خاصة في مجتمع يتسم بالتعددية العرقية والدينية مثل المجتمع العراقي، بحيث لا تؤدي الممارسة الديمقراطية على سبيل المثال في حال فوز الشيعة بالأغلبية إلى حرمان السنة أو الأكراد من حقوقهم.
وستحتاج كل تلك المقومات إلى وقت طويل، وقدّر الفترة التي ستستغرقها عملية صياغة الدستور والترتيب لإجراء انتخابات في العراق وتشكيل حكومة عراقية مسؤولة أمام الشعب العراقي، وإقامة نظام قضائي مستقل بحوالي 18 شهرا.
كما أعرب السفير دوبنز عن اعتقاده بأن القوات الأمريكية ستبقى في العراق لمدة تصل إلى 7 أعوام قبل أن تتمكن حكومة عراقية من تولي المسؤولية الكاملة عن إدارة شؤون العراق والتكفل بمهام الأمن الداخلي والدفاع عن أمن البلاد.
واستبعد الخبير الأمريكي في شؤون إعادة بناء الدول بعد الحروب أن تؤدي الخسائر اليومية في صفوف القوات الأمريكية إلى حالة مشابهة لفييتنام، حين أدت مساندة فييتنام الشمالية للعمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية إلى خسائر ضخمة قررت معها الولايات المتحدة الانسحاب من فييتنام.
وأقر السفير دوبنز بوقوع الكثير من الأخطاء في الحسابات الأمريكية لسيناريو ما بعد الحرب في العراق بعدم التخطيط للمجموعة الصحيحة من العواقب والظروف المتوقعة التي ستعقب العمليات العسكرية، مثل انهيار النظام العراقي ومؤسساته، وكيفية التعامل مع الفراغ الناتج من انهيار تلك المؤسسات، خاصة الأمنية منها، وكذلك كيفية مواجهة الفراغ الإداري الذي أعقب جهود التخلص من كوادر حزب البعث العراقي التي كانت تتحكم في مواقع هامة في النظام السابق.
وأعرب السفير دوبنز عن اعتقاده بأن رئيس الإدارة المدنية الأمريكية في العراق، السفير بول بريمر أدرك إلى حدّ كبير ما وقع من أخطاء، وبدأ في صياغة مجموعة جديدة من الخطط، لكن المشكلة هي أنه لا يريد أن يتخذ بمفرده كثيرا من القرارات، ويرغب في أن تشارك قيادات العراق ممثلة في المجلس العراقي الانتقالي في مناقشة تلك الأفكار مع الشعب العراقي ليتوفر التأييد الشعبي لها.
وخلص السفير دوبنز إلى أن المشكلة الأساسية التي تواجه جهود إعادة بناء العراق هي الافتقار إلى الموارد المالية اللازمة، ولذلك عاد السفير بريمر ليطالب الإدارة الأمريكية بتخصيص المزيد من الاعتمادات لتلك المهمة التي سيطول أمدها وستحتاج في القريب العاجل إلى المشاركة الدولية بالمال والجهد والقوات أيضا.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.