هيمنة الصقور على الإدارة الأمريكية الجديدة
خلال وعوده الانتخابية عام 2000، رسم الرئيس جورج بوش خطوطا استراتيجية تتبنّـى الخط المعتدل بين المحافظين وسياسة خارجية تتسم بواقعية تُـماثل سياسة والده جورج بوش.
ولكن الرئيس بوش سرعان ما اتبع خلال فترته الأولى سياسة محافظة اتّـسمت بالراديكالية، واستهدفت إقصاء كل السياسات الليبرالية على الصعيدين المحلي والخارجي.
بعد أن كان صقور اليمين المحافظ يحاولون إقناع الرؤساء الأمريكيين في الماضي بتبنّـي سياساتهم، وجدوا في عهد الرئيس بوش الفرصة الكاملة، ليس لوضع سياساتهم موضع التنفيذ فحسب، وإنما بالاشتراك الفعلي في تنفيذها، خاصة من خلال وزارة الدفاع والتعاون والتنسيق مع نائب الرئيس ديك تشيني، وسرعان ما انضم البيت الأبيض إلى جانبِ من يعتقدون بأن قيم المسيحية اليهودية ينبغي أن ترشد وتوجه السياسة الخارجية والمحلية الأمريكية.
كما تخلّـت إدارة الرئيس بوش في الفترة الأولى عن تعهّـدها بالتشاور مع الحلفاء، وتخلّـت عن عدد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي رأت فيها قيودا على الرغبة في التحرك الأمريكي المنفرد، وشن الحروب الاستباقية واعتناق أيديولوجية اليمين المحافظ التي تقوم على هيمنة الولايات المتحدة، استنادا إلى انفرادها بزعامة العالم الأحادي القطب.
وبرحيل كولن باول كصوت معتدل وحيد في إدارة بوش الأولى، واختيار مستشارة الأمن القومي كوندواليسا رايس لتحُـلّ محلّـه، يكون التوجه الأرجح أن يسود اتجاه واحد بلا معارضة، وهو اتجاه اليمين المحافظ.
فما الذي يريده المحافظون الجدد من إحكام قبضتهم على الإدارة الجديدة؟ يجمع الخبراء على أنهم يريدون تحقيق الأهداف التالية:
1- استخدام القوة العسكرية الأمريكية في مواجهة التحديات الجديدة التي لم يعد احتواؤها كافيا، وانتهاج سياسة الضربات الاستباقية كلما أمكن ذلك.
2- السعي لاستخدام القوة الأمريكية التي لا يقوى أحد على مواجهتها في عالم اليوم لنشر القيم الأمريكية في أنحاء العالم.
3- زيادة ميزانية الدفاع تحسّـبا لأي تهديدات تُـواجه انفراد أمريكا بزعامة العالم، مع التركيز على الأسلحة الذكية لحسم الضربات الاستباقية، وعدم الاعتماد على المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة في تحييد مثل تلك الأخطار.
4- الاستمرار في مساندة وتأييد إسرائيل أمر ضروري ومكمّـل للقوة العسكرية الأمريكية في منطقة بالغة التوتر مثل الشرق الأوسط، كما أنه أمْـر هام للمساعدة في عودة السيد المسيح ليُـعيد السلام إلى الأرض، كما أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
5- تحويل دول الشرق الأوسط إلى دول ديمقراطية بعد أن ثبت أن النظم الشمولية والتوجّـه نحو حُـكم رجال الدين، سمح بانتشار واسع النطاق لتوجّـهات معادية للولايات المتحدة في المنطقة وبانتشار الإرهاب.
6- تحقيق السلام العالمي والسلام في الشرق الأوسط بزعامة أمريكية مستندة إلى قوة لا تقهر.
ماذا يقول الخبراء؟
يرى الدكتور إبراهيم كروان، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة يوتا أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستُـواصل خط إدارة بوش الأولى مع الاستفادة من دروس الفترة الأولى، وخاصة فيما يتعلّـق بضرورة التحقق من المبررات والعواقب والمضاعفات قبل الانغماس في المزيد من المغامرات العسكرية، وعلى عكس ما يتصور الكثيرون، فإن مواقف كونداليزا رايس السابقة كانت تنطلق من موقعها كمستشارة للأمن القومي، وبوصفها مُـقرّبة جدا من الرئيس بوش، ولن تكون في موقع يُـتيح لها الكثير من الحرية المطلقة في اتخاذ مواقف تتعلّـق بالسياسة الخارجية عندما تتعامل مع بيروقراطية وزارة الخارجية الأمريكية، حيث ستضطر إلى أخذ اعتبارات الرشد الدبلوماسية في الاعتبار، وستخضع للمقاومة من مساعديها في الدبلوماسية الأمريكية الذين سيقدمون اعتبارات تستدعي التفكير.
وضرب الدكتور إبراهيم كروان مثالا على ذلك بأنه إذا رغب الرئيس بوش توجيه ضربة استباقية لإيران مثلا، فإن أكبر مقاومة في فترة بوش الرئاسية الثانية ستصدر من وزارة الدفاع لأنها ستحتاج للتأكّـد من توفر قوات كافية لمواجهة عسكرية مع إيران التي تختلف صلابتها العسكرية عن حالة العراق وسوريا.
كما أن خبراء وزارة الخارجية من الدبلوماسيين الملمين بالانعكاسات الدبلوماسية والسياسية لمثل هذا الإجراء العسكري، سينصحون وزيرتهم الجديدة بعدم الإقدام على تلك الخطوة، ولن تستطيع كوندوليزا رايس تجاهل هذه النصائح. ومن الطبيعي أنها ستأتي بعناصر جديدة لتساعدها، ولكن ليس بوسعها أن تَـقدم على عملية تطهير في وزارة الخارجية على طريقة ستالين، وتأتي بكل من هم على شاكلتها من حيث التفكير.
وقال الدكتور إبراهيم كروان لسويس إنفو: “إن أهم ما ستشهده فترة بوش الثانية من تغيير، هو إعادة التفكير في استراتيجية الضربات الاستباقية بعدما ثبت أنها مكلّـفة بشريا وماليا وسياسيا، والاستعاضة عنها بأسلوب الضربات الجوية المؤثرة، والتي لا ينتج عنها إلا أبسط الخسائر في أرواح الأمريكيين، كما حدث في التسعينات، ولا تتكلّـف نفقات الحروب الاستباقية مثل عملية غزو العراق، والتي كبّـدت الميزانية الأمريكية نفقات باهظة وارتفعت فيها الخسائر البشرية الأمريكية”.
ودلل الدكتور كروان على ذلك بأن دولا أخرى كانت على قائمة الحروب الاستباقية، مثل إيران شعرت بأن بوش في فترته الثانية سيكون أقل استعدادا لشن تلك الحروب. ولذلك، تتصرف حاليا بجسارة وإقدام في التعامل مع قضية التسلح النووي الإيراني في ضوء تقلص مصداقية مبدإ بوش في شن الحروب الاستباقية بعد تجربة العراق، والتي يرى الدكتور كروان أن الولايات المتحدة لن تخسرها، لا عسكريا ولا سياسيا، خاصة مع الالتزام العربي الإسلامي بالصمت المُـطلق إزاء ما يحدث في الفلوجة، وبشكل جعل الشعب الإيطالي من خلال مظاهرات الاحتجاج أكثر تضامنا مع سكان الفلوجة من العرب والمسلمين، كما أن تأثير ذلك المبدأ بدأ يقل بمرور عدة سنوات على هجمات سبتمبر الإرهابية التي شجّـعت إدارة بوش الأولى على انتهاجه.
ولا يتفق الدكتور كروان مع ما ذهب إليه البعض، من أن اليمين المسيحي في أمريكا يتطلّـع إلى عودة مبكّـرة للمسيح من خلال التعجيل بإعادة بناء هيكل سليمان في القدس، واحتفاظ إسرائيل بها وبالضفة الغربية كأرض اختارها الله لليهود. ويرى أن اليمين المسيحي الأمريكي أعاد انتخاب بوش لأسباب أخرى، مثل رفضه الإقرار بزواج الشواذ جنسيا، وهي قضية يُـساندها فيه العرب الأمريكيون، مسلمين كانوا أم مسيحيين.
وقال، “إن موقف بوش من عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي انحصر في تأييد إسرائيل وإلقاء اللّـوم على الزعامة الفلسطينية في عدم إحراز تقدم، كان مرجعه عدم تِـكرار ما اعتبره خطأ والده عندما خسر إعادة انتخابه جزئيا بسبب وقوفه ضد ضمانات القروض الأمريكية لإسرائيل، وكذلك انتهاز الفرصة لاقتناص أكبر قدر ممكن من أصوات اليهود الأمريكيين لصالحه من بين الناخبين اليهود الذين يصوتون تقليديا لصالح المرشح الديمقراطي. ولذلك، فإنه بمجرد أن فاز بفترة ثانية، قرّر دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، وتعهّـد بإقامة دولة فلسطينية مستقلة بنهاية فترته الرئاسية الثانية.
غير أن الدكتور إبراهيم كروان لا يتوقع أن تنتعش عملية السلام في الشرق الأوسط في فترة بوش الثانية، لأن الوضع التفاوضي العربي السيئ لن يمكّـن الطرف العربي من الحصول على ما يراه تسوية عادلة، ولا يوجد دعم عربي محسوس للقضية الفلسطينية ولا للشعب الفلسطيني، ولن تمارس الولايات المتحدة ما يحلُـم به العرب لعقود من ضغط أو لي ذراع إسرائيل لكي تَـقدِم على تقديم التنازلات المطلوبة لكي تكون التسوية عادلة ودائمة وشاملة.
استكمال سياسات الفترة الأولى
من جهته، يرى الدكتور جيمس زغبي، مدير المعهد العربي الأمريكي في واشنطن أن تشكيل الإدارة الأمريكية الجديدة انطوى على مبدإ واضح، وهو التخلّـص من كل الأصوات المعارضة أو حتى التي لديها أي تحفظات على ممارسات السياسة الأمريكية في فترة بوش الأولى، وحلول كوندوليزا رايس محلّ باول سيضَـعها في موضع من يُـنفّـذ رؤية الرئيس بوش للسياسة الخارجية، وليس من يرسم تلك السياسة.
ويتفق وزير الخارجية الأمريكية الأسبق لورانس إيغلبرغر مع الدكتور زغبي في أن تشكيل الإدارة الجديدة يستهدف أن يتحدث كل أعضائها اللغة ذاتها.
أما الدكتور ليث كبة، مدير برنامج الشرق الأوسط في “الصندوق الوطني الأمريكي من أجل الديمقراطية” فقال لسويس إنفو: “إن تشكيل الإدارة الأمريكية الجديدة يشير إلى اعتزام بوش استكمال خطّـه السياسي المتشدد في فترته الثانية، ولا يمكن التكهن بما إذا كانت الإدارة الأمريكية قد تعلّـمت شيئا من درس العراق، أم أنها ستواصل مبدأ الضربات الاستباقية وتختار لها محطّـة أخرى بعد العراق، خاصة وأن كوندوليزا رايس لن تَـقوى في موقعها الجديد كوزيرة للخارجية على التصدّي لقوة ونفوذ نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفلد، مهندسي سياسة استخدام القوة العسكرية لبسط نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة، ولدى الاثنين وجهات نظر محددة إزاء كيفية التعامل مع كل من سوريا وإيران”.
وذهب الدكتور ليث كبة إلى القول: “إن استمرار سياسة بوش بالطاقم الحالي في وزارة الدفاع يُـراد منه أن يكون العراق محطّـة يتم منها ممارسة نفوذ أمريكي مؤثر في المنطقة، وسيتسبّـب هذا في عدد من التبِـعات والمضاعفات، لأن ممارسة ذلك الدور الأمريكي انطلاقا من العراق سيشكل إزعاجا رئيسيا للدول المجاورة للعراق، مما قد يدفعها إلى نوع من ردود الأفعال غير المباشرة بالضغط، ليس على واشنطن، ولكن على بغداد، وفي النهاية سيدفع العراقيون ثمن هذه السياسة الأمريكية” على حد قوله.
“المفروض .. مرفوض”؟!
أما عن فرص فرض الديمقراطية على دول الشرق الأوسط خلال فترة بوش الرئاسية الثانية، فيقول الدكتور كروان: “للسياسة الأمريكية في ظل الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء سِـجِّـل طويل في التعامل مع نظم سُـلطوية، بل وفاشية، مقابل ضمان الاستقرار والأمن دون الاهتمام بالمشاركة السياسية للشعوب العربية”.
صحيح أنه بعد أحداث 11 سبتمبر، أصبح هناك في المجتمع السياسي الأمريكي من يَـرون أن نظم الحكم السُـلطوية والشمولية في العالم العربي تُـسهم في تفريخ الإرهابيين الذين يستهدفون الأمن الأمريكي، ولكن عندما دعا الرئيس بوش إلى التحوّل نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط من خلال ما وُصف بمبادرة الشرق الأوسط الكبير، سارعت الأنظمة العربية إلى استخدام مبررات الاختلافات الثقافية وظروف المجتمعات العربية في عرقلة التحرك نحو الإصلاح الديمقراطي، متعلّـلة بأن التحول الديمقراطي يجب أن يتم من الداخل، ولا يمكن فرضه من الخارج، وبالتدريج وعلى فترة طويلة.
لذلك، ستلتزم الأنظمة العربية خلال فترة بوش الثانية بإعادة التركيز على التمييز بين التغيير من الداخل والتغيير من الخارج، وأن ما يأتي من الداخل مشروع وله مصداقية، وما يأتي من الخارج لن يحظى بتلك المصداقية، هذا في الوقت الذي تُـسيطر فيه تلك الأنظمة بشكل محكَـم على الداخل، بحيث لن يقوى صوت من الداخل على رفع عقيرته بالمطالبة بالتغيير، وإلا تعرض للسجن والاعتقال مثلما حدث لداعية الحقوق المدنية والتحول الديمقراطي في مصر الدكتور سعد الدين إبراهيم.
وقال الدكتور إبراهيم كروان: “إن الأنظمة العربية سترفع في ولاية بوش الثانية شعار أن “المفروض مرفوض”، وأن من الأفضل الأخذ بالمنهج الفرنسي الذي يركّـز على البدء بالتغيير الاقتصادي. وأشار إلى أن بعض الأنظمة العربية ستواصل مقاومة الضغط من أجل التحول الديمقراطي بالاعتماد على علاقاتها الوثيقة بوزارة الدفاع وما تقدمه من تسهيلات أمنية ودفاعية للولايات المتحدة، والمشاركة في مناورات عسكرية مشتركة مثل “النجم الساطع” و”نسيم البحر”.
كما ستواصل أنظمة عربية أخرى مقاومة الضغط من أجل الإصلاح السياسي من خلال التحالف مع أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية، وتقديم معلومات المخابرات المفيدة في مكافحة الإرهاب، فتصبح بذلك حليفا لأمريكا يجب غضّ الطرف عنه فيما يتعلق بالضغط من أجل التحول نحو الديمقراطية.
وقال الدكتور كروان لسويس إنفو مازحا: “لعل أوضح تنسيق عربي جماعي أمكن تحقيقه في الآونة الأخيرة، هو ذلك التنسيق بين عدد من الأنظمة العربية لتبنّـي نفس المواقف المعرقلة للتحول الديمقراطي الذي تسعى إدارة الرئيس بوش إلى تحقيقه في الشرق الأوسط”.
أما الدكتور ليث كبة، فأعرب عن اعتقاده بأنه لو كانت إدارة الرئيس بوش جادّة بالفعل في السعي من أجل التحول الديمقراطي في العالم العربي، لما سارعت إلى الترحيب بالنظام الليبي لمجرد أنه سلّـم ملف أسلحة الدمار الشامل وتخلّـى عن السعي لاقتنائها، وغضّـت واشنطن الطرف تماما عن سوءات ذلك النظام الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد نظام صدام حسين من الممارسات القمعية والابتعاد عن أي شكل من أشكال المشاركة الديمقراطية.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.