هُـدنـات في المنطقة: تمهيداً للسلام.. أم للحرب؟
ماذا يجري في الشرق الأوسط هذه الأيام؟ وهل نحن بصدد انقلاب دبلوماسي كبير (أو حتى تاريخي) تنجح بموجبه دُول المنطقة العربية والإسلامية، إضافة للدولة العبرية في إقامة نظام إقليمي أمني – اقتصادي – سياسي - جديد؟ أم أن ما يحدث هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟
ثمة نظريتان هنا. الأولى، تقول إن عمليات التهدئة الجارية على قَـدم وساق، هي جُـهد حقيقي لمحاولة الوصول إلى تسويات وحلول وسط، بعد الفشل الذي ضرب مشروع المحافظين الجدد الأمريكيين التغييري في الشرق الأوسط الكبير، مما خلق فراغاً دولياً تحاول الدول الإقليمية الآن ملأه بالطُّـرق الدبلوماسية.
والثانية، تعترف بوجود كلٍّ من الهدنات والفراغ، لكنها لا تزال ترى على الطاولة أدلّـة ومؤشرات وخرائط تَـشي بأن الحرب لا تزال خِـياراً مطروحاً بقوة، بخاصة من الجانب الإسرائيلي، وأن الهدنات الراهنة ربّـما لا تكون بالفعل سوى هدوء ما قبل العاصفة.
أي الطرفين على حق؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنستعرض حيثيات كل نظرية.
نظرية الفراغ
تنطلق نظرية ملء الفراغ من تضاؤل ما تتمتّـع به الولايات المتحدة من نفوذ على سياسات الدول الصديقة لها، بما في ذلك حتى الدول التي فيها قواعد عسكرية أمريكية أو تلك التي تتمتّـع بحماية المظلّـة الأمنية لواشنطن.
فقد باتت هذه الدول ترفُـض علناً إتـّباع نهج الولايات المتحدة في التعامل مع إيران وسوريا ومع الصراعات الدائرة بين “حماس” و”فتح” أو بين حزب الله وقِـوى 14 مارس في لبنان.
ولا تبدو هذه الحيوية الدبلوماسية الجديدة حتى الآن مستندة إلى توّجه عام في المنطقة، بل إلى رغبة في تخفيف المخاطر الدّاهمة ومستوى الصراع، كما لم تتوجّه الدبلوماسية الجديدة نحو إقامة إطار أمني إقليمي جديد للشرق الأوسط أو نحو الترويج لحلول عامة كبرى. ولعلّ المبادرات الأكثر نجاحاً حتى الآن كانت تلك التي عالجت قضايا محدّدة على غِـرار انتخاب رئيس وتشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان، فضلاً عن اتفاقٍ أوّل وربما اتفاق ثانٍ بين “حماس” و”فتح”، بينما لم تتكلّل المشاريع الأخرى الأكثر طموحاً، مثل الاقتراح السعودي بتأسيس مؤسسة مشتركة مع إيران لإنتاج الوقود النووي، بالنجاح.
لقد انتقل مركز الثقل في العالم العربي شرقاً نحو الخليج في نُـقلة قد تكون دائمة على الأرجح، على الأقل في المدى المنظور، وليس اللاعبون البارزون في الدبلوماسية الجديدة سوى دول الخليج، فالمغرب العربي غائب كلياً في حين يشكّل المشرق مصدر المشاكل التي يجب حلّها على غرار الصراع في لبنان وإعادة دمج سوريا في الصف العربي وقضية فلسطين، وهو ليس بالتالي مصدر الحلول.
ليس انتقال مركز الثِّـقل وليد الساعة، بل هو أمرٌ أدّت إليه آثار زيادة الثروة النفطية في الخليج وتفاقم المشاكل في المناطق الأخرى، غير أن التداعيات السياسية لم تصبح جلية إلا نتيجة للإخلال بميزان القوى الإقليمي الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي للعراق وما تلاه من صعود نجْـم إيران.
ويشير أصحاب نظرية ملء الفراغ إلى أن واشنطن حاولت حتى الساعة تجاهُـل تداعيات الدبلوماسية الإقليمية الجديدة ومعها خسارة شيء من نفوذها في المنطقة، ولذلك، عانت هزائم متكرّرة، فهي فشلت في بناء التحالف المعادي لإيران (الاصطفاف الإستراتيجي الجديد) الذي سعت إليه ولم تكن قادرة على وقف المبادرات الإقليمية التي تقوّض سياساتها، هذا لا يعني أن الدول الصديقة للولايات المتحدة لم تعد صديقة لها أو أنها ستنقلب قريباً على تحالفها معها، كل ما يعنيه أن الدول الإقليمية رأت من مصلحتها إطلاق الحوار والبحث عن حلول دبلوماسية للمنطقة تجنّـبها مخاطر اللاإستقرار الإقليمي في غياب أي توّجه أمريكي لحسم الأمور عسكرياً.
لكن، في حال استمر هذا المنحى (والكلام لا يزال لأصحاب هذه النظرية)، فلا يُـستبعد أن يؤدّي نضجه إلى بدء تبلور نظام إقليمي جديد.
هدنات الحرب
أنصار النظرية الثانية لا ينفون لا وجود هدنات حقيقية ولا حرية حركة أكبر حظِـيت بها دول المنطقة، لكنهم يلاحظون أن كل مبادرات التهدئة في المنطقة (بما في ذلك ضمناً حتى اتفاق الدوحة اللبناني)، كانت ولا تزال تتمحور حول إسرائيل ولأهداف تتعلّـق أساساً بعملية المجابهة مع إيران.
ففي سوريا، انتقلت الأوضاع فجأة من شفير الحرب، بعد القصف الجوي الإسرائيلي لدير الزور، إلى شفير السلام، بعد أن أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لتركيا لتمضي قُـدماً في مبادرتها السلمية.
وفي لبنان، كان صُـدفة ملفتة أن يولد اتفاق الدوحة في ساعة واحدة مع الجنين التفاوضي الجديد في إسطنبول بين سوريا وإسرائيل وأن تنطلق بزخم مفاوضات الأسرى بين تل أبيب وحزب الله لتصل بعد ذلك إلى خواتيمها الناجحة.
وفي غزة، لم يكن المصريون ليكثّـفوا جهود التهدئة التي يقومون بها لولا أنهم تلقّـوا إشارات ضوئية خضراء قوية من إسرائيل.
وفي مصر ذاتها، وللمرة الأولى منذ اتفاقات “كامب ديفيد” عام 1979، انطلقت أصوات إسرائيلية تدعو إلى تحويل “السلام البارد” معها إلى “سلام حار” عبر إجراء حوار إستراتيجي جديد بين الطرفين بإشراف واشنطن.
ما أهداف هذه الإغارات الدبلوماسية الإسرائيلية؟ المسألة تبدو واضحة مع سوريا وتركيا: تعميق ما تدّعي إسرائيل أنه بِـدايات توتّـر بين دمشق و”حزب الله” وتباعد بين دمشق وطهران وتشجيع تركيا على الدخول إلى قلب سياسات الشرق الأوسط لموازنة النفوذ الإيراني.
وهكذا الأمر مع اقتراح الحوار الإستراتيجي مع مصر الذي يخدم أيضاً، وإلى حدٍّ كبير، لُـعبة التوازن مع إيران، ومع جهود التّـهدئة في لبنان وغزة التي يمكن أن تُـفرمِـل مشروع المقاومة الذي تطرحه طهران على الشعوب العربية.
لكن مهلاً، ليس كل ما يلمع في سماء المنطقة الآن هو ذهب دبلوماسي إسرائيلي صاف هدفه في النهاية الوصول إلى حلول سلمية صافية. فالسلام مع سوريا ممكن، لكنه ليس قريبا لاعتبارات داخلية إسرائيلية، وأيضاَ لحسابات سورية تتعلّـق بانتظار طبيعة وتوجّـهات السكان الجُـدد في البيت الأبيض.
والحوار الإستراتيجي مع مصر هدفه التحضير لمجابهات إقليمية ساخنة، وليس لنظام إقليمي جديد معتدل ومتوازن. والهدنة في غزة ولبنان، ليست أكثر من ذلك: أي مجرّد هُـدنة.
والحصيلة؟
يفترض أن تكون واضحة: الدولة العِـبرية تستخدم الدبلوماسية كأداة للحرب، تمهيداً ربما لاستخدام الحرب كامتداد للدبلوماسية.
في الحدّ الأدنى، يُـمكن أن تساعد هذه الحملة الدبلوماسية على بلورة “الاصطفاف الإستراتيجي الجديد” الذي تريده كوندوليزا رايس بين “المعتدلين والمتطرفين” في الشرق الأوسط. وفي حّدها الأقصى، قد تمهِّـد الأجواء أمام حرب فاصلة مع إيران، سواء قبل نهاية عهد الرئيس بوش (وهذا ما تفضّـله إسرائيل) أو بعد نهايته (كما يفضّـل بوش)، وفي كلا الحالتين، قد تخرج إسرائيل بمكاسِـب محدّدة.
هذه المُـعطيات تدفع العديد من المحلِّـلين إلى اكتشاف شَـبه غريب بين ما يحدُث على الجبهات العربية – الإسرائيلية الآن وبين ما حدَث في أواخر أربعينات القرن العشرين.
في 24 فبراير 1949، وقّـعت مصر مع إسرائيل “اتفاقية الهدنة” وتبعها في العام نفسه لبنان في 23مارس، ثم شرق الأردن في 3 أبريل وسوريا في 20 يوليو، هذه الاتفاقات لم تكُـن معاهدات سلام ولا تمهيداً لمعاهدات سلام، ولم تضع حدوداً نهائية لكل من الدولة العبرية والدول العربية المجاورة، كانت مجرد إجراء لمراقبة وقف إطلاق النار بإشراف حفنة من مراقبي الأمم المتحدة.
الآن يتكرّر المشهد نفسه تقريباً، لكن من دون جنود القبّـعات الزرقاء (حتى الآن على الأقل). فثمة هدنة أبرِمَـت قبل أيام بين تل أبيب وبين غزة الحماسية، سبقتها اتفاقية هدنة من نوع ما بين مصر وإسرائيل تتضمّـن قيام الأولى بإغلاق الأنفاق الحدودية في رفح وضبط الأمن هناك، وعلى الطريق اتفاقية هدنة أخرى بين لبنان وإسرائيل، إذا ما سار كل شيء على ما يرام في مفاوضات مزارع شبعا بعد إطلاق الأسرى.
أما على الجبهة السورية – الإسرائيلية الهادئة أصلاً، فالهدنة التي يجري العمل عليها في إسطنبول، تتعلق أساساً بـ “أمن المصالح الإقليمية”، أكثر منها بالسلام الثنائي، لكنها في النهاية هُـدنة.
بيد أن أوجه الشَّـبه لا تقتصر على الشكل، المضمون أيضاً يبدو متطابِـقا. فكما أن هدنات 1949 ولِـدت بسبب حاجة القوى المتحاربة إلى حِـقبة هدوء تعيد فيها ترتيب أوضاعها وتنظيم قواتها وتقييم حساباتها، كذلك هدنات 2008 برزت على إثر حروب مُـنهكة لكل الأطراف، خاصة حربي لبنان (2006) وغزة (2007-2008) أملت على كل الأطراف الحاجة إلى التقاط الأنفاس.
وبالطبع، حين تكون المقدّمات متشابهة، تميل النتائج إلى أن تتشابه أيضاً، فلا أحد، على سبيل المثال، يعتقد أن الهدنة على جبهة غزة ستدوم طويلاًُ، لا “حماس” ستكون في وارِد تحويل الهدنة المؤقتة إلى سلام دائم، ولا “فتح” ستقبل بأن تحل حماس مكانها في قمرة التفاوض الشرق أوسطي ولا إسرائيل ستستطيع التعايش طويلاً مع قوة صاروخية تنمو باستمرار على حدودها الجنوبية.
لا أحد، على سبيل المثال أيضاً يفكِّـر مجرّد تفكير، بأن لبنان قادر على تحويل هُـدنته المرتقبة مع إسرائيل إلى سلام، حتى ولو تمّ تجريد المقاومة من سلاحها، بدون موافقة سوريا.
أما في سوريا نفسها، فالمؤكّـد أن الهدنة “الإقليمية” التي يجري العمل عليها الآن، ستكون معلّـقة دوماُ بخيط رفيع يربطها بموازين القِـوى بين إيران وأمريكا، وقطع هذا الخيط ليس وارداً قطعاً في ذِهن القيادة السورية طالما بقيت هذه الموازين في وضعيتها الراهنة.
كل ما يجري إذن، مجرّد هدنات مؤقتة، لكن، وعلى عكس هدنات 1949، قد لا يكون وقف النار الراهن تمهيداً لحروب جديدة في الهلال الخصيب وحده، بل أيضاً لمواجهات عنيفة لاحقاً أيضاً في الخليج العربي، فليس صدفة أن يترافق بدء توقيع الهدنات مع التدريبات الجوية الضّـخمة التي أجراها السلاح الجوي الإسرائيلي فوق المتوسط، والتي حاكت عملية قصف إيران، وليس صُـدفة أيضاً أن يبلغ إيهود باراك صحيفة فرنسية بأن عمليات التهدئة في الهلال هي في الواقع جزء من عملية التصعيد ضد إيران، إنه التاريخ يعيد نفسه في الشرق الأوسط: هدنات تليها حروب تليها هدنات.
فهل ثمة ضرورة بعد ذلك للتساؤل عن أي النظريتين (ملء الفراغ أو التبريد تمهيداً للتصعيد) ستكون له اليد العليا؟ لا نعتقد!
سعد محيو – بيروت
شهدت منطقة الشرق الأوسط في الأسابيع القليلة الماضية سلسلة من التطورات، دفعت بالمراقبين إلى استخلاص نتائج متباينة.
مع مرور كل يوم، يعتبر الإيرانيون أن احتمالات شنّ هجوم عسكري على منشآتهم النووية من طرف الولايات المتحدة أو إسرائيل، يتراجع في ظل إعلان طهران عن استعدادها لمناقشة العروض الغربية الجديدة ونزوع قادتها إلى نوع من التهدئة.
على العكس من ذلك، تتوالى تصريحات مسؤولين إسرائيليين مباشرين أو متقاعدين وعدد من كبار الساسة في الولايات المتحدة، المحذَِرة من “تفويت الفرصة” والتهاون مع المشروع النووي الإيراني وانعكاساته الكارثية على أمن إسرائيل والدول الحليفة لأمريكا.
في لبنان، تمكّـن الفرقاء المنقسمون بين معارضة وموالاة، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في أعقاب اتفاق الدوحة، لكن استمرار التجاذبات حول مضمون البيان الوزاري للحكومة العتيدة واستمرار الاقتتال الطائفي في طرابلس بين علويين وسُـنّـة، يثير المخاوف والقلق حول مستقبل “السلام الهشّ”، الذي يعيشه لبنان.
في الأراضي الفلسطينية، تتراوح الأوضاع بين التبريد والتسخين ومن يوم لآخر، يتحول الحديث عن عودة الحوار بين غزة ورام الله إلى مواجهات واعتقالات في صفوف الطرفين، ورغم نجاح الوساطة المصرية في إقرار هُـدنة حقيقية بين إسرائيل وحماس، إلا أن استمرار الحِـصار على غزة يُـنذر بإحباط الجهود التي بُـذلت إلى حد الآن.
في سوريا، مثّـلت مشاركة الرئيس بشار الأسد في القمة التأسيسية للاتحاد من أجل المتوسط في باريس ومشاركته في العرض التقليدي يوم 14 يوليو في مناسبة اليوم الوطني الفرنسي، نقطة فارقة أكّـدت إقرار أوروبا وفرنسا بالدور الإقليمي لسوريا وانتهاء مرحلة التهميش والعزلة التي وّضِـعت فيها من طرف الولايات المتحدة وحلفائها في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق اللبناني رفيق الحريري.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.