واشنطن تطلق مجددا “حرب المورّثات”
أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها جولة جديدة من الحرب التي تخوضها ضد سياسة أوروبا في مجال استيراد المواد الزراعية المُحوّرة وراثيا.
وطلبت واشنطن رسميا من جهاز تسوية الخلافات التابع لمنظمة التجارة العالمية في جنيف الحسم في الإجراءات الأوروبية التي تعتبرها تمييزية بحقها.
من السهل أن ينظر المرء إلى الخطوة الأمريكية الأخيرة على أنها مجرد فصل من فصول الحرب التجارية المتعددة الأبعاد التي لا تكاد تتوقف بين العمالقة الإقتصاديين في العالم حول اكتساح الأسواق وتحقيق المكاسب.
لكن أهمية النزاع الذي اندلع منذ فترة بين الأمريكيين (وحلفائهم في كندا والأرجنتين) والأوروبيين حول ملف المواد الزراعية المحورة وراثيا تكمُن أساسا فيما يكتنفه من أبعاد مالية هائلة تقدر بمليارات الدولارات وفي المخاوف الجدية التي لا زال يثيرها في أوساط عريضة من المستهلكين والمدافعين عن البيئة.
أصل المشكلة
وتتمثل القضية في مطالبة الأمريكيين بفتح غير مشروط للأسواق الأوروبية بوجه جميع منتجاتهم الغذائية المشتملة على مكونات مُحوّرة وراثيا. وترى واشنطن أن الإجراءات الجديدة التي أُقرت في بروكسيل في مفتتح شهر يوليو الماضي “تمييزية” بحقها وتتعارض مع قواعد التعامل التي حددتها منظمة التجارة العالمية.
وبعد سلسلة من المشاورات الجانبية غير المثمرة بين الجانبين، سلمت الولايات المتحدة إلى جهاز تسوية الخلافات في منظمة التجارة العالمية في جنيف (وهي هيئة تحكيمية) طلبا رسميا يدعو إلى تعيين لجنة تحكيم للحسم في الممارسة الأوروبية التي تعتبرها واشنطن – مدعومة هذه المرة بأوتاوا وبيونس أيرس- مخالفة للقواعد المتفق عليها ضمن منظمة التجارة العالمية وتمييزية بحقها.
وتصر الدول الثلاث على الحصول على حق دخول منتوجاتها الزراعية المحورة وراثيا إلى أسواق بلدان الإتحاد الأوروبي بدون قيود من أي نوع.
وفي أول رد فعل على هذه الخطوة، قال السفير كارلو تروجان ممثل الإتحاد الأوروبي لدى منظمة التجارة العالمية في جنيف: “لقد رخّصت بروكسيل بعدُ في استيراد 15 منتوجا غذائيا (مُحورا جينيا) و18 آخر من الأصناف المنتجة عبر الهندسة الوراثية.” وأشار إلى أن البرلمان الأوروبي صادق مؤخرا على اعتماد نظام “معلومات ومتابعة” لمسار المنتوجات المحوّرة وراثيا من أجل تعزيز ثقة المستهلكين وإضفاء أقصى قدر من الشفافية على الموضوع.
السفير الذي ذكّـر بما أبداه الجانب الأوروبي من انفتاح واستعداد للحوار، أعرب عن خيبة أمل الأوروبيين الشديدة واندهاشهم من التغير الذي طرأ على موقف الولايات المتحدة تُجاههم وما أبدته من معارضة لسياسة الإتحاد في مجال توريد وترويج المنتجات المحورة وراثيا.
وكانت بروكسيل قد فرضت تجميدا استمر أربعة أعوام (من 1999 إلى 2002) على المطالب الجديدة المتعلقة بتسجيل منتوجات زراعية محورة وراثيا. ومن المنتظر أن يُـستعاض عن هذا التجميد بتشريع جديد يُقرّ إنشاء “نظام معلومات ومتابعة لمسار هذه المواد” يبدأ العمل به في موفى هذه السنة.
“حمائية” أم “تضارب مصالح”؟
هذه الحجج الأوروبية لا تقنع بتاتا الولايات المتحدة وكندا والأرجنتين التي تتهم بروكسيل باللجوء إلى ممارسات حمائية في مجال لا زالت بلدان الإتحاد متخلفة فيه عن منافسيها في القارة الأمريكية.
فالولايات المتحدة توفر 70% من إجمالي المنتوجات المحورة وراثيا الموجودة في السوق العالمية وتبلغ قيمة صادراتها من الحنطة والسويا والقطن المحورة وراثيا إلى آسيا وروسيا والشرق الأوسط 12 مليار دولار سنويا.
وفيما لا تزيد خسائر الشركات الأمريكية الناجمة عن الحواجز الأوروبية القائمة حاليا عن نصف مليار دولار سنويا (حسب تقديرات مؤسسة تمثل المزارعين في الولايات المتحدة)، تثير المساعي الأوروبية الرامية إلى إقناع المزيد من الدول برفض استيراد المنتوجات الزراعية المُحوّرة وراثيا انشغال كبار المزارعين الأمريكيين الذين يطمحون إلى ترويج فائض إنتاجهم من الحبوب في شتى أنحاء العالم وخاصة من خلال المساعدات الغذائية.
ويبدو أن كبار منتجي الحبوب في الولايات المتحدة لم يستسيغوا بالمرة التحرك الأوروبي الذي دفع العام الماضي بلدانا إفريقية إلى رفض قبول مساعدات غذائية من الحنطة المحورة وراثيا على الرغم من المجاعة التي كانت تعاني منها!
“صراع الجبابرة”
من الناحية الإجرائية، اعترض الإتحاد الأوروبي – طبقا لما يتيحه القانون – على الطلب المقدم من جانب الولايات المتحدة وحليفيها إلى منظمة التجارة العالمية. في المقابل، قررت واشنطن تجديد الطلب قبل موفى شهر أغسطس (وعندها لن يكون هناك مجال للإعتراض) وهو ما سيفتح الطريق بوجه مدير المنظمة لتعيين ثلاثة “قضاة” يُمنحون مهلة بعام كامل قبل إصدار حكمهم(القابل للإستئناف) في الخلاف.
وفي انتظار نتيجة التحكيم، استنكر العديد من كبار المسؤولين الأوروبيين الخطوة الثلاثية. وفيما عبر باسكال لامي مفوض التجارة عن ثقته في رفض خبراء منظمة التجارة العالمية للشكوى الأمريكية، حذرت مارغو فالشتروم مفوضة الشؤون البيئية في الإتحاد من أن “التمشي الأمريكي سيؤدي إلى تسميم النقاش حول المواد المحورة وراثيا داخل الإتحاد”.
وبين اتهامات أمريكية لبروكسيل بإعاقة تطوير الهندسة الوراثية التي تمثل “تكنولوجيا يمكن أن تساعد في مكافحة الفقر في العالم”، ومخاوف الأوروبيين من غزو المنتوجات الأمريكية لأسواقهم ومن المشاكل الصحية أو البيئية الناجمة عنها، يظل جوهر الصراع القائم بين كبار مصدري المنتجات الزراعية في العالم متمثلا بالأساس في ضمان مصالح مزارعيهم ومنتجيهم.
والملفت هنا أن “صراع الجبابرة” هذا يتم في ظل تهميش مخيف لبقية بلدان العالم والفقيرة منها على وجه الخصوص.
كمال الضيف – سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.