“مذبحة الجمعة” في اليمن: جريمة مع سبْـق إصرار وترصُّـد السلطة والإعلام
في موكِـب جنائزي مُـهيب وفي أجواء عمَّـها الحزن والغضب، شيّـع مئات الآلاف من اليمنيين يوم الأحد 20 مارس ضحايا يوم الجمعة الدّامي ممَّـن سقطوا قتلى من المُـعتصمين في ساحة التغيير في العاصمة اليمنية على أيدي قنّـاصة مُـحترفين، قيل أنهم جُـلِـبوا من وحدات الأمن والجيش إلى جانب أصحاب سوابق ومنحرفين.
بعد أن أدّى ما يزيد على المليون مصلِّـي في ساحة التغيير، حيث استشهد ما يزيد عن 50 وجرح 200 شابا، وعقب إقامة صلاة الغائِـب في كل المساجد اليمنية، انطلقت جنازات الشبّـان ملفوفة بالأعلام الوطنية مُـحاطين بالإعجاب لما أبدَوْه من استِـبسال ومقاومة تُـجاه مهاجميهم، وبتوعُّـد الجُـناة بالعقاب.
وبقدر ما ترك رحيلهم غصّـة أبكَـت كل من شاهد مناظر المجزَرة المروِّعة، تولّـد إصرار على الوصول إلى الجُـناة من المخطِّـطين والمنفِّـذين وملاحقتهم قضائياً، خاصة بعد أن أصبحوا على قناعة تامّـة بأن مهاجمة اعتِـصامهم السِّـلمي، محصِّـلة لترتيب ما جرى إعداده منذ وقت مبكِّـر وجريمة مع سبْـق الإصْـرار والترصُّـد، شاركت السلطة والإعلام في التهيئة والإعداد والتنفيذ لها.
ووفقاً لاستنتاجات شباب التَّـغيير المتأنِّـية: البداية تعود إلى ارتفاع نبْـرة الحديث الرّسمي عن مُـضايقة سكان الحي المجاور لساحة الاعتصام (حي الجامعة) وما يُـعانونه من جرّاء تواجُـد المحتجِّـين بالقرب من مساكنهم وفي تتبُّـعهم لما يعتبرونه جُـذور التحضير للهجوم عليهم، يرون أن مسؤولين كبار، بينهم الرئيس صالح، عمدوا في الآونة الأخيرة قبل المذْبحة إلى إثارة هذه المشكلة في أكثر من مناسبة. وكرّس الإعلام الرسمي، السمعي والبصري، جُـهده على مدار الأيام التي سبقت الاعتِـداء من أجل تضخيم ما يعاني منه السكان من تضرر مصالحهم.
وانزلق الخطاب الإعلامي في أحيان كثيرة، وهو يعرض لهذه القضية إلى تبرير كلّ ما قد يقدُم عليه أهالي تلك الأحياء من أعمال عنف أو عدوان تُـجاه المحتجِّـين من أجل استرداد السكينة العامة، حسب زعمهم، معتبراً أن ما يقومون به من بناء الجدران وسط الشوارع الرئيسية وسد الطُّـرقات المؤدِّية إلى ساحة التغيّـر، من قبيل حماية مصالح السكان، بل إن ذلك الإعلام والصحافة الرسمية اعتبرت الهجوم الذي نُـفِّـذ ضد المعتصمين في صبيحة الثاني عشر من الشهر الجاري واستخدمت فيه القنابل المُـسيلة للدّموع والرصاص الحيّ من قِـبل رجال الأمن، وأسفر عن سقوط قتيلين وجرح واختناق حوالي 400، مجرّد معركة بين أهالي الحي المستاؤون من المحتجِّـين المُـزعجين، الأمر الذي أعاد طرح الكثير من التساؤلات حول أخلاقيات العمل الإعلامي في البلاد، ليس من قبل المعارضين، ولكن أيضاً من قِـبل صحفيي المؤسسات الإعلامية والصحفية الرسمية، الذين بادرت أعداد كبيرة منهم عقِـب هذه المذبحة إلى إعلان انضِـمامهم إلى المحتجين، مُـعربين عن انزعاجهم من الطريقة التي أمليت عليهم للتّـعاطي مع الأحداث، وأنها كانت مجانبة لأخلاقيات ومقتضيات المهنة.
ترهيب وترويع
والمتابع لمجريات الأمور على الساحة اليمنية منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاط النظام، يلحظ عدم استيعاب للتحوّلات التي يعيشها العالم، خاصة لجهة الانتشار المتسارع للأحداث بالصوّت عبْـر التقنيات الرقمية والتواصل التفاعلي، التي لم تؤدِّ فقط إلى مجرّد سرعة انتشار المعلومات، بل وإلى انتشار الأفكار وتحوّل المواقف والإرادات، كما جسّـدها الشبان اليمنيون الذين لم يكُـن أحد يتوقّـع أن يظهروا بإصرارهم واستبسالهم المُـميت، الذي أذهل الجميع، ابتدأ من ضرورة تحرير أنفسهم من الخوْف كمقدِّمة لتحرير شعوبهم وِفق ما تبادلوه وينشرونه بينهم، كخلاصة قادمة إليهم من تونس ومصر، على شكل تعليمات ثورية قالوا إنها كانت المحفِّـزة لهم أو لِـما عانوه من حِـرمان وتهميش.
تلك الخلفية جعلتهم يواجهون الموْت ببشاعته، ثم يتجاوزون صدمته إلى الإمساك بالمُـجرمين والتحرّي والتدقيق، وصولا إلى كشْـف قواعد اللُّـعبة ولاعبيها، ولعل إمساكهم بكل خيوطها وامتلاكهم زِمام المبادرة حتى الآن، مَـعطىً غاية في الأهمية، له دلالة في كشف ملابسات الهجوم الذي استهدفهم يوم الجمعة الدّامي (18 مارس) وكيف أفشلوه، رغم الحدود الفارقة بين إمكاناتهم وإمكانات السلطة.
حسب ما أكده لـ swissinfo.ch عدد من شباب التغيير، كما يحبُّـون أن ينادون، واستناداً إلى دور شبكات التواصل الاجتماعي والعلاقات الناشئة عنها من ناحية، وما تولَّـد لديهم من قناعات وإصرار على المُـضي بمطالبهم حتى نهايتها من جهة أخرى، فإنهم كانوا على دِراية مُـسبقة بأن سكان الحي المجاوِر للساحة وفي غمرة اهتمام الإعلام الرسمي بسكينة الأهالي وفي جوِّ من التعبئة والتحريض ضدّ المعتصمين، بدأ مسؤولون أمنيون وقيادات في الحزب الحاكم والسلطة وعقال الحارات، بالتحضير المبكّـر للعدوان عليهم، بتوزيع أسلحة على أهالي المنازل الواقعة في تلك الأحياء، كانت عبارة عن بندقية كلاشنكوف، علاوة على ألفيْ طلقة لحماية أسَـرِهِـم من المعتدِين.
وتأكد لاحقاً، وِفق نتائج التحريات والتحقيقات مع المحتجَـزين من منفِّـذي الهجوم، وكما جاء عن سكان الحي، أن تلك المجزرة البشِـعة التي هزّت ضمائر العالم، لم تكن وليدة لحظَـتها أو نتيجة لاحتكاك فجائي بين السكان والمعتصمين، كما ذهبت إلى ذلك السلطات اليمنية في تصويرها للأحداث، وإنما نتيجة لخُـطَّـة معِـدّة بعناية فائقة من وقت مبكّـر، هدفها إخلاء ساحة الاعتصام بالترهيب والترويع، وبطريقة القتل البشعة التي نفّـذوها وطالت حتى الأطفال ممّـن حضروا رِفقة أبائهم لأداء صلاة الجمعة، وترديد الشعارات المحببة إلى قلوبهم “الشعب يريد إسقاط النظام”، “إرحل إرحل يا علي”.
خِـدعة مدبّـرة
ووفقاً لما جاء في بلاغ عن سكان “حي الجامعة” المجاور لساحة التغيير، تُلي أمام المعتصمين أن الأهالي: يبرؤون إلى الله من القتل الذي تعرّض له المعتصمون، مؤكدين أنهم تعرّضوا لخِـدعة مدبَّـرة بإحكام من قِـبل الأمن القومي ومن شخصيات أمنية، نُـفِّـذت بخطّـة ترمي إلى إحداث فِـتنة داخلية وتلفيق تُـهمتها بهِـم، موضِّـحين أمام جموع المعتصِـمين الخطوات التي مرّت بها تلك الخطّـة وهي:
1- حشد وتحريض أبناء الحارات من خلال شخصيات رسمية والزجّ ببلاطجة في صفوفهم لمساعدتهم وإظهارهم على أنهم أُناس متضرِّرين من الاعتصام تحت اسم “لِـجان شعبية لحماية الحارات”.
2- تسليط الإعلام الرسمي عليهم وتوصيل رسائلهم إلى العالم للمُـطالبة بإنهاء الاعتصام.
3- قيام بعض السيارات التابعة للأمن القومي وشخصيات أمنية وفي الحزب الحاكم وبتسجيل أسمائهم وبياناتهم وصرْف أسلحة، بدعوى تمكينهم من حماية أنفُـسهم مع الطلب منهم عدم استخدامها إلا في حالة الاعتداء على منازلهم، وأوردوا أرقام اللَّـوحات المعدنية لبعض سيارات الشرطة التي قامت بذلك.
4- قيام شخصيات أمنية كبيرة بشراء منازل في الحارات من أصحابها وإيواء مسلّـحين فيها، منذ يوم الثلاثاء 15 مارس الجاري.
5- شوهِـد هؤلاء المسلحين (القنّـاصة) يصْـعدون إلى أسطح تلك المنازل متنكِّـرين بلباس نساء، فيما يبدو أنه الاستعداد والتمركز في أفضل الأماكن وإيجاد طُـرق للهروب.
6- يوم الجمعة الدامي (18 مارس) وقُـبيل الصلاة، صعد المسلحون إلى أسطح المنازل وتمترسوا في أماكنهم.
7- بعد الصلاة، قاموا بإحراق الإطارات كي تحجب سُـحب الدخان أماكن تواجدهم ثم باشروا بأعمال القنْـص وارتكاب المجزرة.
نقمة وغضب
وعلى الرغم من تساقُـط العشرات من الشبان بالتتابع بنيران القنّـاصة، استطاع البعض منهم الوصول إلى الأماكن التي كان يتمركز فيها المهاجمون والقَـوا القبض على 19 منهم، تبيّـن حسب صحيفة “صوت الثورة” الصادرة عن شباب ساحة التغيير من التحقيقات معهم، أن بعضهم جلبوا بالأجْـرة من أحياء مختلفة في العاصمة صنعاء وآخرون ينتمون إلى مؤسسة الجيش والأمن، وتحديداً الحرس الخاص “اللواء الأول ” وقوات الأمن المركزي.
وذكرت الصحيفة أن المعلومات التي أدلى بها المهاجمون، كشفت عن جوانب في غاية الخطورة تُـدين الرئيس صالح شخصيا، علاوة عن فضحها لعدد من الخُـطط المُـعدّة لاستهداف المعتصمين مستقبلا، كما كشفوا عن قائمة بـ 16 شخصا من المندسِّـين يتواجدون بشكل دائم داخل ساحة التغيير بأسمائهم والخيام التي يتواجدون فيها.
إجمالا، تأكد جلياً أنه مع كل محاولة لإسكات أصوات المحتجين بالترغيب أو بالترهيب، تتزايد النِّـقمة وينفجر الغضب أكثر فأكثر، واتّـضح أنه كلّـما استنشق الشباب رائحة الغاز والبارود وكلما شاهدوا مناظر دِماء رفاقهم المنهمِـرة، تفجَّـر غضبهم واتّـسعت قاعدة المناصرين لمطالبهم، ولعل تهافت كبار المسؤولين في الدولة ممّـن توالت استقالاتهم تباعا على أمل اللحاق بركب الشباب، مؤشر على أنهم أصبحوا يمثِّـلون قوة لها دلالتها المجتمعية والقِـيمية، ويتوفرون على قدرات تستطيع أن تُـعيد التوازن المختلّ داخل المجتمعات العربية، لاسيما إذا ما تُـركوا في حالهم من قِـبل راكبي الموجات الثورية الذين أفرغوا كل حركات التغيير من مضمونها على مدار الثلاثة عقود الأخيرة ، كما أن مساهمة الإعلام الرسمي في التهيئة والتّـحفيز على العدوان ضد المحتجين سِـلميا، هو الآخر أعاد طرح وظيفة الإعلام الرسمي على مِـحك الاختبار والمسؤولية.
عشرات القتلى والجرحى
أدت مجزرة” الجمعة 17 مارس 2011 إلى مقتل 52 متظاهرا واصيب اكثر من 120 بجروح في صنعاء برصاص قناصة ومسلحين قال المتظاهرون انهم “بلطجية” مناصرون للسلطة.
واعلن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حالة الطوارىء في البلاد لثلاثين يوما، معبرا عن “اسفه” لمقتل المتظاهرين، قبل ان يعود ويعلن الاحد 19 مارس يوم حداد وطني على ارواح الضحايا. وقد اكد صالح الاحد لسفراء دول الاتحاد الاوروبي التزامه حرية التعبير عن الراي”، بحسب ما افادت وكالة الانباء اليمنية الرسمية.
واعتبر المتظاهرون المعتصمون في صنعاء ان على “السفاح الذي سقطت شرعيته ان يعرف ان اساليبه القديمة التي مارسها في الكذب والمغالطة لا يمكن ان تنطلي على ابناء الشعب اليمني”.
واضافوا في بيان موقع باسم “الشباب المعتصمين في صنعاء” تلقت فرانس برس نسخة منه ان “عمليات القمع والإرهاب (…) لن تثنينا عن هدفنا السامي وهو اسقاط النظام بالطرق السلمية”.
وتقول منظمة العفو الدولية ان العدد الاجمالي للقتلى منذ بدء التظاهرات ضد النظام بلغ “80 شخصا”.
استقالات متتالية
استقالة وزيرة حقوق الانسان هي الثالثة من الحكومة اليمنية منذ بدء حركة الاحتجاجات بعد استقالة وزيري السياحة نبيل الفقيه الجمعة ووزير الاوقاف حمود الهتار.
كما أعلن رئيس مجلس ادارة وكالة الانباء اليمنية الرسمية ناصر طه مصطفى استقالته على خلفية احداث الجمعة، التي دفعت السفير اليمني في بيروت فيصل امين ابو راس ايضا الى تقديم استقالته. وتقدم ايضا نائب وزير الشباب والرياضة حاشد الاحمر باستقالته من منصبه.
قدم 23 نائبا حتى الآن استقالاتهم من الحزب الحاكم، علما ان حزب المؤتمر الشعبي العام يملك 230 مقعدا في البرلمان من بين 301.
اعلن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية ان مندوب اليمن لدى الامم المتحدة عبد الله الصايدي تقدم ايضا باستقالته من منصبه “احتجاجا على استخدام العنف ضد المتظاهرين”. كما تقدمت جميلة رجى وهي سفير مفوض في وزارة الخارجية اليمنية مرشحة لتولي منصب السفير في المغرب كذلك باستقالتها من منصبها، بحسب ما ابلغت وكالة فرانس برس.
اتساع دائرة المعارضين
ذكر بيان صادر عن “كافة علماء ومشايخ اليمن” ان على الرئيس علي عبد الله صالح “الاستجابة لمطالب الشعب”، في اشارة على ما يبدو الى الحركة الاحتجاجية التي تطالب باسقاط النظام ورحيل الرئيس.
وطالب البيان الذي تلقت وكالة فرانس برس نسخة منه “وحدات الجيش والامن بعدم تنفيذ اي اوامر تصدر لهم من اي كان للقتل والقمع”. ووجه العلماء والمشايخ “التحية الى شباب التغيير”، داعين اياهم الى “الاستمرار على هذا النهج”. ودانوا بشدة “المجزرة الجماعية التي تم ارتكابها بعد صلاة الجمعة”، معتبرين ان “ما تم عيب اسود وفقا للاعراف القبلية”.
وحملوا “السلطة ممثلة برئيس الدولة المسؤولية الكاملة عن الدماء التي سفكت”، رافضين “اعلان حالة الطوارىء في البلاد لعدم وجود قانون منظم لحالة الطوارىء”.
وصدر البيان بعد اجتماع لكبار العلماء وشيوخ القبائل في منزل صادق الاحمر، الشيخ البارز في قبيلة حاشد النافذة التي ينتمي صالح الى احد فروعها.
واعلن شيوخ من قبيلتي حاشد وباكيل اليمنيتين في فبراير انضمامهم الى الحركة الاحتجاجية المستمرة منذ نهاية يناير 2011 .
وانضم “القطاع الخاص” في اليمن ممثلا بالاتحاد العام للغرفة التجارية والصناعية الى الحركة المطالبة باسقاط النظام. وفي تحول لافت، دعا الاتحاد العام للغرفة التجارية والصناعية اليمنية السلطات الى “الاستجابة لمطالب الجماهير وتنفيذها دون ابطاء”. وشدد في بيان تلقت فرانس برس نسخة منه على ان “القطاع الخاص يرى ان التغيير اصبح ضرورة لانتشال البلاد من الوضع المتردي، وايجاد نظام عادل يكون فيه كل ابناء اليمن سواسية، خال من الفساد والظلم”.
كما دعا “اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين” الى التكاتف “للوقوف في وجه النظام الذي افقدته ممارساته شرعيته”.
(المصدر: وكالات الأنباء بتاريخ 20 مارس 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.