“3 أشهر ستهـزّ الشرق الأوسط”
ماذا قصدت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، حين قالت خلال زيارتها قبل الأخيرة لإسرائيل، إن حرب لبنان هي "آلام الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد"؟
إعلان رايس لم يكن صدفة بالطبع، فهو جاء كحصيلة دبلوماسية أولى للحرب العسكرية التي تشنّـها إسرائيل في لبنان وفلسطين.
ماذا قصدت الوزيرة الأمريكية حين قالت خلال زيارتها قبل الأخيرة لإسرائيل، إن حرب لبنان هي “آلام الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”؟
لا توضيحات من واشنطن. لكن ثمة شيء واحد مؤكّـد: الولايات المتحدة تطلّ على حرب لبنان بصفتها جزءاً من حربٍ أشمل أو على الأقل بكونها خطوة مهمّـة نحو إحياء مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الموسّـع، الذي تعثر في العراق أو بالأحرى: نحو تعويض خسائرها النسبية في بلاد ما بين النهرين، عبر ربح دول أخرى، يُـفترض أن يكون لبنان أول حبّـة في عنقودها. كيف؟
الإستراتيجية والتكتيك
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، لابد من الإشارة إلى أن الآفاق الإستراتيجية التي تتطلّـع إليها الولايات المتحدة لحرب لبنان في الشرق الأوسط، تتطابق إلى حد كبير مع آفاق تكتيكية تتعلق بالوضع الداخلي الأمريكي، وبالتحديد بمعركة الانتخابات التشريعية الحاسمة أواخر هذا العام.
فإدارة بوش، كما تؤكّـد العديد من المؤشرات، أعطت نفسها مهلة ثلاثة أشهر لمحاولة ترتيب أوضاع منطقة الشرق الأوسط الجديد، ومن شأن نجاحها في هذا المسعى أن يضمن لها حتماً مواصلة السيطرة الجمهورية على مجلسي الكونغرس من نواب وشيوخ، وبالتالي، على البيت الأبيض في انتخابات 2008.
ويبدو أن الإدارة متفائلة بمثل هذا النجاح. وهكذا، نسبت “واشنطن بوست” إلى مسؤول أمريكي، رفض الكشف عن اسمه قوله: “الناس الآن قد ينزعجون من المشاهد المتدفّـقة من لبنان. لكن، ومع تكشف التطورات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وحين يردّون رد الفعل الدولي، سيرون الفُـرص ويفهمون ما نفعل في الشرق الأوسط الأوسع”.
ما التطورات التي تتوقعها واشنطن؟ الاجتهادات كثيرة هذه الأيام في الشرق الأوسط:
· منها من يرى أن الخطوة التالية بعد لبنان ستكون سوريا، سواء من خلال حملها عبر الضغط الاقتصادي والدبلوماسي، والمصري – السعودي على فك ارتباطها الإستراتيجي بإيران أو حتى عبر عمليات عسكرية، سواء موضعية أو شاملة.
· ومنها من يقول، إن الهدف الحقيقي لحرب لبنان ليس لبنان نفسه أو حزب الله، بل إيران. وهنا، يورِد بعض المحللين تقارير إسرائيلية نُـشرت قبل سنة وتتحدث عن ضرورة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان وتحييد صواريخ حزب الله، قبل أن توجـّه هذه الأخيرة ومعها أمريكا ضربة عسكرية قاصمة لإيران. (هل كان هذا ما قصده دنيس روس، كبير المفاوضين الأمريكيين السابق في الشرق الأوسط، حين قال قبل أيام إنه “إذا ما عالجت إدارة بوش الوضع بشكل صحيح، فهذا قد يساعد في النزاع حول الأزمة النووية الإيرانية، بسبب علاقات طهران مع حزب الله، وإن إيران تغامر الآن، برغم عدم امتلاكها لأسلحة نووية، فماذا تفعل لو امتلكتها؟)
· ثم أخيرا، ثمة من يقول إن الحلول (أو الصفقات) السياسية ستتغلّـب على ما عداها في النهاية بين أمريكا – إسرائيل، وبين إيران – سوريا، وأن هذا أيضاً يُـمكن أن يُـسهِّـل وِلادة الشرق الأوسط الجديد، لكن هذه المرة من دون “آلام الولادة القاسية” التي تحدّثت عنها رايس.
أي الاحتمالات الأقرب إلى التحقق؟ ليس بالوسع الجزم الآن. فكل الأوراق متطايرة في الهواء في ظل الأوضاع الساخنة والمتفجرة راهناً في الشرق الأوسط. لكن هناك شيء واحد واضح: واشنطن وتل أبيب تسيران وِفق خطة موضوعة سلفاً، لم يكن في إطارها خطف حزب الله للأسيرين، سوى المبرّر الذهبي لبدء تطبيقها.
حرب التعويضات
نعود الآن إلى سؤالنا الأول: كيف يُـمكن أن تعوض الولايات المتحدة خسائرها في العراق بأرباح في الشرق الأوسط الكبير؟
بداية، يجب التذكير بأنه كان من المثير للغاية ألا تتحدث الوزيرة الأمريكية في تل أبيب، ثم في روما عن “الشرق الأوسط الكبير”، الذي أطلّـق فكرته الرئيس بوش عام 2002، ولا عن “الشرق الأوسط الموسّـع”، الذي اضطرت واشنطن لتبنيه عام 2004 بفعل الضغوط الأوروبية، بل ذهبت فوراً إلى التعبير نفسه الذي صكّـته إسرائيل، (خاصة في آخر كتاب شيمون بيريز الذي يحمل العنوان نفسه): “الشرق الأوسط الجديد”.
إعلان رايس لم يكن صدفة بالطبع، فهو جاء كحصيلة دبلوماسية أولى للحرب العسكرية التي تشنّـها إسرائيل في لبنان وفلسطين، والتي تستهدف أمرين: استعادة هيبة الرّدع الإسرائيلية، وتغيير موازين القوى (وربما الخرائط) في الهلال الخصيب.
لكن، إذا ما كان شعار “الشرق الأوسط الجديد” يلبّـي تطلُّـعات الدولة العبرية الجديدة، فماذا عن تطلُّـعات الدولة العظمى الأمريكية؟
الأرجح أن لواشنطن استهدافات مُـشابهة لتلك التي تضعها تل أبيب، ولكن على نطاق أوسع بكثير:
1. استعادة هيبة الرّدع الأمريكية، التي تآكلت بسبب حرب المقاومة في العراق، والتي شجّـعت كلاً من سوريا وإيران وحزب الله وحماس على عقد تحالف ضد واشنطن.
2. وقف تدهور المشروع الأمريكي الشرق أوسطي، الذي وضعه المحافظون الجدد، كجزء رئيسي من الإستراتيجية الأمريكية العامة لتأبيد السيطرة على قارة أوراسيا، وبالتالي، على العالم.
3. وأخيراً، استئناف ما انقطع من جهود لدمج الشرق العربي والإيراني بالقوة في منظومة “إمبراطورية العولمة”.
كل من هذه الأهداف يكفي وحده لشنّ غير حرب في غير منطقة في الشرق الأوسط الكبير أو الموسّـع أو الجديد، لا فرق. وكل هذه الأهداف مجتمعة، والتي تريدها الولايات المتحدة أن تكون مجتمعة، تؤكّـد شمولية الأهداف التي تقف وراء الحرب الراهنة، وهذا أمر لا ينفيه حتى الأمريكيون أنفسهم.
فهم يقولون الآن، خاصة في مراكز الأبحاث الإستراتيجية المحافظة، إن ما يحدُث الآن في لبنان وفلسطين (وقريباً على الأرجح في سوريا)، بات امتدادا لما يجري في العراق. وبالتالي، ما يحدث ليس اشتباكات منعزلة ومتفرقة في دول الهلال الخصيب العربي، بل هو حرب واحدة موحّـدة.
بكلمات أوضح: أمريكا صدّرت أزمتها في العراق إلى باقي دول المنطقة، وهي بدلاً من أن تتعرّض للابتزاز من جانب إيران وسوريا في بلاد ما بين النهرين، شنّـت هجوماً مُـعاكساً عليهما في لبنان وفلسطين، ووضعتهما ليس في موقع الابتزاز فحسب، بل أيضاً في موقع التهديد.
استعادة الهيبة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم
إلقاء الأضواء على هذا التوجّـه الأمريكي يتطلّـب العودة القهقرى سنتين إلى الوراء، إلى 2004. ففي ذلك العام نشر “مجلس العلاقات الخارجي الأمريكي”، أبرز مراكز الأبحاث الإستراتيجية في الولايات المتحدة، دراسة مطوّلة ومثيرة، ركّـزت على المحاور الرئيسة الآتية:
1· الأزمة الأمريكية في العراق لم تصل بعدُ إلى مستوى أزمتها في فيتنام، لا على صعيد الخسائر البشرية ولا التكاليف المالية، إضافة إلى أن المتمردين (المقاومين) العراقيين لا يحصلون على دعم خارجي يوازي ذلك الذي حصل عليه الفيتناميون الشماليون من الصين والاتحاد السوفياتي. ثم أن العراق، وعلى عكس فيتنام، مُـنقسم إلى سُـنّة وشيعة وأكراد، الأمر الذي يخلق ميزان عداوات داخلية لا مقاومة موحّـدة، مما يُـغري الولايات المتحدة على مواصلة محاولة حسم الوضع هناك بالوسائل الأمنية.
2· لكن، حتى لو فشل جورج بوش في العراق، فإنه سيُـكرِّر ما فعله ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، حين اكتشفا بأن في وسع أمريكا “خسارة” فيتنام و”ربح” الصين. وهكذا، يستطيع بوش أن يُـعوّض عن العراق بأرباح في ليبيا ولبنان وسوريا وإيران والمغرب ومصر وباكستان والسعودية وتركيا، وخاصة في الصِّـراع العربي – الإسرائيلي، وهذا يعني أن العراق لن يُـصبح، كما فيتنام، العدسة الوحيدة التي تطل فيها واشنطن على الشرق الأوسط والعالم.
3· أصّر بوش على أن العالم لن يكون مستقراً إلى أن تنتشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويجب أن يكون واضحاً الآن أنه كان جادّاً حِـيال هذا الأمر. فهذا ليس خِـطاباً لُـغوياً ولا عباءة لإخفاء أهداف غير معلنة. بيد أن الدمقرطة مشروعاً بعيد المدى. لذا، من المبكّـر قياس الانجازات هنا. ما يمكن قياسه، هو المدى الذي حقّـق فيه الإستراتيجيون نجاحات في المهمّـة العاجلة التي حدّدوها لأنفسهم، وهي الآتي: لتمهيد الطريق أمام الدمقرطة، يجب تمزيق الأمر الواقع الراهن في الشرق الأوسط، الذي لطالما شكّـل تهديداً لأمن العالم.
4· وبالتالي، الأرجح أن تُـواصل إدارة بوش – 2 ما فعلته الإدارة الأولى حِـيال نسف هذا الأمر الواقع في الشرق الأوسط. ولو أن جون كيري وصل إلى البيت الأبيض، لفعل الأمر ذاته، إذ ما كشفته أحداث 11 سبتمبر هو أن الولايات المتحدة لم تعُـد قادرة على عَـزل نفسها عمّـا يحدُث في بقية العالم. وإذا ما فعلت، فإنها تتجاهل بذلك خطراً حاضراً وداهماً.
هذا كان فحوى الدراسة المطوّلة لمجلس العلاقات الخارجية: استعادة الهيبة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم، وتعويض الخسائر في العراق بمكاسب في دوّل عدّة أخرى (بدون أن يعني ذلك تخلّـي واشنطن عن مشروع الهيمنة على العراق).
“لعبة التعويضات” هذه حققت نجاحاً باهراً في ليبيا، بعد أن استسلم العقيد معمر القذافي لكل الشروط الأمريكية، والضرب يتركّـز الآن على لبنان، لكنه على الأرجح، لن ينحصِـر طويلاً فيه، بل سيتمدّد قريباً إلى سوريا وغزة وربما إيران، ومن بعدها إلى بقية الدول الشرق أوسطية، التي حدّدها مجلس العلاقات، سواء عبر آلة الحرب أو بوسائل الصفقات.
هل ستنجح واشنطن في مغامرتها الكبرى الجديدة؟ لديها الآن ثلاثة أشهر لـ “تجرّب حُـظوظها”!
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.