استلام دفة القيادة من أفضل طـاهٍ في العالم
لا يُمكن إغفال صوت النقر المستمر الصادر من مطبخ مطعم ‘أوتيل دو فيل’. ويستغرقني الأمر بعض الوقت لتحديد موقع هذا الصوت، حتى أدرك في النهاية أن مصدره هو... كبير الطهاة فرانك جيوفانيني.
هذا النَقر المحموم أحيانا، والصادر من الضغط المتواصل على نهاية قلم حبر جاف هو الدلالة الوحيدة على إرتفاع مستوى الأدرينالين الذي يُخفيه المظهر الخارجي الهادئ لهذا الطاهي الصبياني الملامح، البالغ من العمر 42 عاماً. واليوم، يدير جيوفانيني تقديم وجبة الغداء في المطعم الواقع في بلدة ‘كريسّييه’ القريبة من مدينة لوزان، الذي تزينه ثلاث نجوم ميشلان والحائز على 19 نقطة في دليل “غولت وميلو”رابط خارجي للمطاعم. وفي شهر ديسمبر 2015، توِّج المطعم بوصفه الأفضل في العالم في موقع “لا ليسترابط خارجي” (La Liste)، الفرنسي الجديد الذي يضطلع بصياغة الترتيب المثالي لأفضل المطاعم في العالم.
ولكن ما الذي يتطلبه إرتداء عباءة كبير الطهاة العالميين في مطعم توفي فيه اثنان من الطهاة الحاملين لنجمتي ميشلان على نحوٍ سابق لأوانه؟
انتحار غامض
عند سؤالهم عن السبب الذي يكون قد دفع بـ بينوا فيولييه إلى الإنتحار، أجابت أرملة فيولييه وآندريه كودلسكي، أحد المساهمين في المطعم مرارا وتكرارا بأنهما لا يملكان أي فكرة. كما دحض الإثنان بشدةرابط خارجي مزاعم مجلة ‘بيلان’ الإقتصاديةرابط خارجي التي أشارت إلى أن فيولييه كان ضحية عملية نصب واحتيال واسعة تركت المطعم في مواجهة ديون ضخمة. في ديسمبر 2015، وقبل وفاة فيولييه بفترة وجيزة، كان مطعمه قد تصدر قائمة “لا ليست” الفرنسية الجديدة لأفضل ألف مطعم في العالم. ويضم هذا التصنيف الجديد الذي استحدثته وزارة الخارجية الفرنسية ردا على التصنيف البريطاني “فيفتي بيست رابط خارجي” (أفضل خمسين مطعما في العالم) الذي يثير جدلًا ويتعرض للإنتقاد بسبب نهجه الذي يُعتبر غامضًا ويُهمل الطهاة الفرنسيين.
ولكن كيف استقبل فيولييه هذا الخبر؟ “كان اختيار المطعم الأفضل في العالم هو بمثابة المباركة الكبرى، بالنظر إلى عدم وجود هذا اللقب من قبل”، على حد قول بريجيت فيولييه، التي تضيف :”كان هذا حصيلة 20 عاماً من العمل. منذ عمله في مجال فن الطهو أراد يبنوا الوصول إلى هذا المستوى دائماً. ولحسن الحظ حصل على ذلك في الوقت المناسب، وكتب له أن يكون على قيد الحياة ليعيش هذه اللحظة”.
في وقت مبكر من هذا العام، أثار إنتحار بينوا فيولييه الذي كان يُعدّ من أفضل الطهاة في العالم صدمة عنيفة عند متذوقي الطعام، وقلقاً متزايداً لحدوث حالة وفاة أخرى في هذه المهنة المتسمة بضغوطها العالية. ولعل خليفة فيولييه – مع ما يظهره من قدرة في التحكم بعمله كطاه مرموق والإجهاد الذي تفرضه مثل هذه الوظيفة في نفس الوقت – يمثل حالة شاذة هنا.
بكل روية، يتنقل جيوفانيني بين التفحص الدقيق للأطباق، والتوقف لالتقاط الصور مع الزوار، والدردشة بهدوء مع صف لتعلم الطهي في إحدى الزاوايا.
ولا يُزعج الطاهي المعروف البتة وجود صحفي جالس في طرف مائدة الخدمة يتناول عينات من وجبة تذوق مُذهلة مكونة من 9 أطباق، ومتابعة كل ما يجري في المطبخ في نفس الوقت. كذلك تبدو ملامح السعادة واضحة على الطهاة المساعدين العاملين معه، وهم يتقاذفون ويلتقطون قبعاتهم العالية بين الفينة والأخرى، وحتى زجاجة إيفيان بتصميمها الشاذ.
ولم تمض سوى بضعة أشهر على يوم الأحد الصادم الموافق لـ 31 يناير 2016، عندما استخدم بينوا فيولييه البالغ من العمر 45 عاماً بندقية الصيد الخاصة به ليُقدم على الإنتحار في شقته الواقعة فوق المطعم. ويأتي انتحار الشيف الفرنسي – السويسري بعد 7 أشهر فقط من وفاة الشيف السويسري فيليب روشا – سلفه ومعلمه في المطعم – بسبب وعكة إختناق أصابته خلال ركوبه دراجة في المنطقة.
وحتى حصول هذا الحادث، لم يكن طعم الفاجعة الأول الذي يتذوقه موظفوا المطعم، حيث كانت زوجة روشا، فرانشيسكا روشا – موزَر، وهي إحدى بطلات الجري للمسافات الطويلة والتي كانت تدير المطعم بالإشتراك مع زوجها، قد لاقت حتفها هي الأخرى في انهيار جليدي أثناء تسلقها جبال الألب السويسرية في عام 2002.
ولا يزال اسم فيولييه ثابتاً في مكانه على واجهة المبنى، كما يمكن العثور على كتب الطهي الخاصة به في مدخل المطعم. وتشتمل إحدى هذه الكتب حول حيوانات الصيد البرية – حيث كان فيولييه شغوفاً بالصيد وخبيراً في إعداد أطباق تستند على الطرائد – على 1086 صفحة. وباستطاعة الزائر أيضاً رؤية أدلة ميشلان التي لقبت مطعم ‘أوتيل دو فيل بـ “معبد فن الطهي”.
وقد نجح مطعم ‘اوتيل دو فيل’رابط خارجي في الحصول على تصنيف 3 نجوم من دليل ميشلانرابط خارجي من خلال فيولييه وكل من فيليب روشا وفريدي جيراردي، الطاهيين الكبيرين المعروفين دوليا، اللذين سبقاه في العمل في هذا المكان. ولهذين الأخيرين مكانة أسطورية في المطعم الذي لا يزال يقدم أطباقاً قاما بابتكارها.
“أحاول أن أكون متوازناً”
بالرغم من مظاهر عدم الإرتياح البادية عليه بعض الشيء وهو يجلس في منطقة انتظار الضيوف بملابسه البيضاء ويتحدث عن نفسه، إلّا أنَّ جيوفانيني يجيب على الأسئلة الموجهة إليه بكل رحابة صدر. وفي حديثنا، نحاول تجنب التطرق إلى الأسباب التي دفعت بـ فيولييه إلى الإنتحار، ونناقش بدلاً عن ذلك الضغوط التي تفرزها وظيفة الأوعية والمراجل هذه بما أنه يعيشها يومياً الآن.
ويبدو أن نهج جيوفانيني المتوازن وروح النكتة الحاضرة لديه تساعده في ذلك. وعلى عكس فيولييه الذي كان يسكن في شقة تقع فوق المطعم، يعيش جيوفانيني في الريف مع زوجته وطفليه، على بعد نصف ساعة من مكان عمله. وهو يبدأ يومه في الساعة الثامنة صباحاً ويستمر في عمله حتى منتصف الليل خلال أيام الأسبوع. لكن عطلة نهاية الأسبوع تظل مقدسة في المقابل، وهي تمثل لديه وقتا للإسترخاء وإقامة حفلات الشواء مع الأصدقاء.
“لقد كنت هنا منذ 21 عاماً، ولا أشعر بأنني أخضع لضغوط أكثر من اللازم. أنا أفعل الأشياء وفق معرفتي، والجميع سعيد جداً بذلك في الوقت الراهن. كما أحاول أن أكون متوازناً جدا مع حياتي الشخصية”.
ولكن قوله هذا لا يعني عدم معاناته من ضغوط في الماضي.
الكثير من الصياح
كان كل من جيوفانيني وفيولييه قد بدءا عملهما في مطعم “أوتيل دو فيل” في نفس الوقت تحت رعاية جيراردي وروشا، وأصبحا يعملان جنباً إلى جنب “كالاخوة”، لمدة 20 عاماً.
“كنت أريد دائما أن أحظى بمكانة في عالم الغذاء”، كما يقول جيوفانيني. وحيث لم تتحقق أحلام والده بأن يُصبح هو نفسه كبير طهاة، فقد شجَّع ابنه على دخول معترك هذه المهنة. وبعد العمل لفترة تحت إمرة الشيف السويسري غراي كونتس في نيويورك، عاد جيوفانيني إلى سويسرا ليُعَيَّن كطاه مبتدئ يعمل في تقطيع الخضار في مطبخ مطعم “أوتيل دو فيل”.
“لم أكن أرغب بالمجيء إلى هذا المكان حقاً لأنني كنت قد سمعت عنه قصصا مُروّعة بالفعل”، كما يقول جيوفانيني ضاحكاً. وهو يصف جيراردي بـ “العبقري في مجال النكهة والطعام”، مضيفا بأنه علمه الإتقان. “لقد كنت محظوظا بالعمل معه مدة عام ونصف العام، على الرغم من أن ذلك لم يكن سهلا لأنني كنت في العشرين من عمري حينئذٍ، وكانت هناك أجواء صعبة. كان عليك تحمّل الكثير من الصياح”.
“نحن لا نلجأ إلى الصياح اليوم. الناس يفاجأون بأن المطبخ هادئ جدا. أعتقد شخصياً بأننا نحصل على نتائج أفضل اليوم، لأن بوسع الأشخاص أن يتحدثوا إليك عندما تكون لديهم مشكلة. عندما كانت لدينا مشكلة في السابق، لم يكن بوسعنا الذهاب إلى السيد جيراردي لأنك كنت ستفكر ‘يا إلهي سوف أتعرض للضرب’”، كما يقول وهو يضحك مرة أخرى.
وفي الواقع، فإن جيوفانيني محق تماماً. فالمطبخ هاديء باستثناء هتافات الخدمة وجلبة المقالي.
حقبة جديدة
اشتغل جيوفانَيني بشكل وثيق تحت إمرة فيولييه، وعندما تولى الأخير إدارة مطعم “أوتيل دو فيل” مع زوجته في عام 2012، كان جيوفانيني هو من يدير المطبخ عملياً.
وبالنسبة لأرملة فيولييه التي تدير العمل بعد وفاة زوجها، كان جيوفانيني الخيار الواضح كرئيس طهاة. “لقد كان فرانك أول شخص فكرت به”، كما تقول بريجيت فيولييه. كما كانت أسرتا فيولييه وجيوفانّيني قريبتين جداً على الدوام. “بعد بينوا، كان جيوفانيني أكثر شخص أعرفه في المطعم”.
ومع تولي جيوفانيني إدارة ألوية مطبخ ‘أوتيل دو فيل’، يبرز السؤال حول احتفاظ المطعم بتصنيفه العالمي في هذه الحقبة الجديدة. وفي حين سيُعلَن عن نقاط دليل المطاعم غولت وميلو في شهر أكتوبر المقبل، سوف تصدر مراجعة دليل ميشلان في فبراير من العام القادم. “سنعمل كل ما بوسعنا لضمان عدم فقدان النجوم”، كما تقول بريجيت فيولييه. ولو أصبح الأمر خلاف ذلك “فقد نلجأ إلى إتخاذ تدابير مختلفة كنتيجة”، كما تقول متأملة.
وعندما أقدم فيولييه على الإنتحار في موفي يناير المنصرم، قورنت وفاته بعد اختياره كأفضل طاه، بوفاة الشيف الفرنسي برنار لوازو، الذي أطلق النار على نفسه ببندقية صيد في عام 2003 بعد خسارته نقطتين في دليل غولت وميلو. وكما إتضح لاحقاً، كان لوازو يعاني من الإكتئاب.
وكما يقر جيوفانيني، فإن خطر فقدان التصنيفات تشغل باله على الدوام بالطبع. “لا بد لي أن أعترف بأني لا أريد أن أكون الطاهي الأول الذي لا يتوفر سوى على نجمتين فقط. نحن لا نطهو لـ ميشلان أو غولت وميلو، ولكننا نفكر في التصنيف بالطبع لأنه جزء من كل هذا، ونحن نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على هذه النجمة. نحن نتبع معايير الجودة ذاتها، ولو أنهم قرروا سلبنا نجمة، فالمسألة لن تتعلق بالجودة حينئذٍ، ولكنها قد تعود للسياسة”.
ولكن كيف سيتعامل جيوفانيني مع فقدان المطعم لنجمة في التصنيف؟ “لا يسعك إلّا أن تقوم بعملك بالشكل الأكمل كل يوم، وهذا ما نفعله مرتين يومياً”. ومع القلق الذي يشوب الفترة المقبلة، يبرز السؤال حول ما إذا كانت براغماتية جيوفانيني سوف تعود عليه بالفائدة في المستقبل.
أفضل المطاعم السويسرية
يعتمد المطعم الأفضل على نظام التصنيف المُتَّبع. ويُعتبر دليل ميشلان هو الأقدم والأكثر شعبية، وهو يرتكز على المطبخ التقليدي الراقي [مع تعليقات حول الخدمة، السعر، أو جودة المطعم على حدة]، في حين يميل دليل ‘غولت وميلو’ نحو المطبخ الحديث ويستند في تصنيفه كليا على نوعية الطعام.
حصلت ثلاثة مطاعم سويسرية على تصنيف ميشلان الأعلى المكون من ثلاث نجوم، والذي يشير إلى أن المطبخ “إستثنائي”، و19 نقطة من دليل غولت وميلو. وحتى عام 2004، كان أعلى تقدير يمنحه هذا الدليل هو 19 نقطة. وهذه المطاعم الثلاثة هي: ‘أوتيل دو فيل’ (Hôtel de Ville) و‘شاوَنشتاينرابط خارجي’ (Schauenstein) للشيف أندرياس كامينادا في بلدية ‘فورستناو’ (كانتون غراوبوندَن) ومطعم ‘شوفال بلان’ (Cheval Blanc) في بازل، للطاهي الألماني بيتر كنوغل.
تتوفر 6 مطاعم سويسرية على 19 نقطة من دليل ‘غولت وميلو’ وهي: ‘أوتيل دو فيل’ (Hôtel de Ville) و‘شاوَّنشتاين’ (Schauenstein) و‘أرميتاج دو رافي’ (L’Ermitage de Ravet) و‘دوماين دو شاتوفيو’ (Domaine de Châteuvieux)، ومطعم فندق ‘ديدييه دو كورتان’ (Hotel-Restaruant Didier de Courten) و‘شيفال بلان’ (Cheval Blanc).
هل تُعاني من الضغط أو الإجهاد في عملك؟ وكيف تتعامل معه؟ شاركنا تجربتك في القسم المخصص للتعليقات بالأسفل.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.