انهيار مصرف كريدي سويس: العواقب المرتقبة والأسئلة المفتوحة
إن الإعلان عن عملية استحواذ ضخمة على إحدى الشركات شيء، ولكن الخروج من هذه العملية بنجاح شيء آخر، خاصة عندما تكون الجهة المستحوذة هي نفسها في وضع صعب..
SWI swissinfo.ch تسلّط الضوء على العواقب المرتقبة والأسئلة المفتوحة المحيطة بعملية إنقاذ دراماتيكية لمصرف “أكبر من أن يُسمح بانهياره”.
آثار عالمية
تتردد أصداء هذا السقوط المدوّي للمصرف السويسري في جميع أنحاء العالم.
أدى استحواذ يو بي إس على مصرف “كريدي سويس” إلى شطب ما قيمته 16 مليار فرنك من السندات الصادرة عن المصرف المنهار باعتبار أنه لا قيمة لها. وقال أحد حاملي سندات هذا المصرف والذي لم يكشف عن اسمه لصحيفة فايننشال تايمز اللندنية: “هذه العملية ستكون لها عواقب بعيدة المدى على كل مؤسسة استثمارية سويسرية”.
بعبارة أخرى، قد يفكّر المستثمرون الآن مرتيْن قبل إيداع أموالهم في سندات مؤسسات سويسرية في المستقبل.
+ كيف تبلورت عملية الاستحواذ على كريدي سويس خلال عطلة نهاية أسبوع مليئة بالفوضى
كما فرضت الحكومة السويسرية خيارها من خلال دفع يو بي إس إلى الاستحواذ على كريدي سويس من دون الرجوع إلى أصحاب الأسهم. وبعبارة ملطفة، فإن هذا نوع من التحايل على القانون، ومن شأنه إضعاف حقوق الملكية في البلاد.
وتشتهر سويسرا بتمسكها الصارم باليقين القانوني والحوكمة المستقرة، والفصل الواضح بين المجاليْن السياسي والتجاري.
وحتى قبل الخطوة التي اُتُخِذت خلال عطلة نهاية الأسبوع، كان كريدي سويس يواجه دعاوى قضائية في الولايات المتحدة رفعها أشخاص يعتقدون أنهم كانوا ضحية عمليات خداع أقدم عليها هذا المصرف.
وظل البنك الأهلي السعودي وهيئة الاستثمار القطرية هادئيْن بعد تهميشهما خلال عملية الإستحواذ التي باركتها ونسّقت أطوارها الحكومة السويسرية، وهو ما يُشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
لقد كان سهم كريدي سويس يُتَداول بسعر يناهز 4 فرنكات قبل أن تتدفق مليارات المستثمرين من الشرق الأوسط. وأدت صفقة الاستحواذ إلى تسعير أسهمهم عند 0.76 فرنك.
وقال أستاذ القانون السويسري بيتر ف. كونس في حديث أدلى به إلى مجموعة تاميديا الإخبارية: “من الآن فصاعدا، يُمكن للمستثمرين في سويسرا توقّع مصادرة ممتلكاتهم دون أساس قانوني”. وأضاف أن: “الدعاوى القضائية قادمة، بلا ريب”.
تركيب قطع الأحجية
إن الإعلان عن عملية استحواذ ضخمة على إحدى الشركات شيء، ولكن الخروج من ذلك بنجاح شيء آخر – خاصة عندما تكون الجهة المستحوذة هي نفسها في وضع صعب.
وتقول وزيرة المالية السويسرية كارين كيلر سوتر: «هذا حل تجاري وليس خطة إنقاذ”.
لكن دافعي الضرائب السويسريين في مأزق حيث سيدفعون تسعة مليارات فرنك إذا ساءت الأمور. ويلتزم المصرف الوطني السويسري بطباعة ما يصل إلى 100 مليار فرنك للتأكد من أن المصرف الذي ستؤول إليه أوضاع عملية الإستحواذ لديه ما يكفي من السيولة لتمويل العمليات اليومية بالكامل.
+ لماذا ارتكب كريدي سويس كل هذه الإخلالات؟
بالنسبة لكولم كيليهر، رئيس مصرف يو بي إس، فإن عملية الاستحواذ التي نُسِجَت خيوطها خلال نهاية الأسبوع «تُعزز موقع سويسرا كمركز مالي عالمي رائد». وأضاف أن الصفقة توفر «فرصًا هائلة» وأن “يو بي إس سيظل صلبًا للغاية”.
عمليا، سيتم تحقيق ذلك من خلال إدماج الأصول السامة التي كانت لدى كريدي سويس في قسم الخدمات المصرفية الاستثمارية “لمُواءمتها مع ثقافة المخاطر المحافظة لدينا”، يضيف كيليهر.
أما التسعة مليارات فرنك التي تقدمها الدولة كدعم من المحتمل أن يتم اللجوء إليها لتقاسم الاعباء التي قد تنجرّ عن هذه العملية.
المزيد
على المستوى العملي، يواجه يو بي إس مهمّة الجمع بين الخدمات المصرفية للأفراد والاستثمارات وإدارة الثروات في مصرفيْن ضخميْن. ولم يكن أمام يو بي إس الوقت الكافي للإستعداد لهذه العملية.
وسيتولى كيلّهير ورالف هاميرز، الرئيس التنفيذي الحالي ليو بي إس مسؤولية قيادة هذا الكيان المشترك، الذي سيكون في الأساس نسخة أكبر من مصرف يو بي إس.
ويوظّف يو بي إس 72600 موظف وموظّفة في جميع أنحاء العالم. لكن 50000 موظّف في كريدي سويس، بما في ذلك 16000 في سويسرا يُواجهون حالة من عدم اليقين أكبر بشأن وظائفهم.
وطالبت النقابات العمالية السلطات بخطة عمل للتخفيف من عواقب عمليات التسريح التي لا مفرّ منها.
في المقابل، قدمت السلطات السويسرية تأكيدات بأنه سيتم تفكيك كريدي سويس بطريقة منظمة – وأن النظام المصرفي السويسري آمن. لكن هذه التأكيدات لم تتحقق بعدُ من الناحية العملية.
كيف حصل هذا؟
بعد الأزمة المالية لعام 2008، لم يكن من المفترض أن يحدث مثل هذا الانهيار المصرفي الدراماتيكي مرة أخرى.
ومنذ ذلك الحين، أجبرت البنوك في جميع أنحاء العالم على تخزين احتياطياتها لامتصاص صدمات السوق. أما سويسرا فقامت بتطبيق نسخة أكثر صرامة من هذه القواعد وأضفت عليها ما يُسمى بـ “اللمسة النهائية السويسرية”.
من الواضح أن هذه اللوائح فشلت في الحيلولة دون انهيار كريدي سويس. والآن أدى اندماج ثاني أكبر بنك في سويسرا مع يو بي أس إلى ميلاد عملاق “أكبر بكثير من أن يفشل”.
تزيد الميزانية العمومية المُجمّعة لكلا المصرفين عن 1.6 تريليون فرنك مقارنة بإجمالي الناتج المحلي السويسري البالغ 800 مليار فرنك.
تم توجيه أصابع اللوم في اندثار مصرف كريدي سويس إلى سلسلة من المديرين السيئين وإلى ثقافة من الجشع كانت قائمة في البنك.
وعلى الرغم من أن البنك كان لديه من الناحية التقنية ما يكفي من الأموال لمواصلة العمل، إلا أن قائمة الأخطاء والفضائح المتتالية على مر السنين أدت في نهاية المطاف إلى تدمير ثقة السوق في العلامة التجارية.
وقبل عملية الاستحواذ بقليل، قال دانيال لامبرت، كبير الاقتصاديين في الاتحاد السويسري للنقابات، لقناة الإذاعة والتلفزيون العمومية الناطقة بالألمانية SRF: “لقد أخطأوا، وخاطروا بما لم يتمكنوا من السيطرة عليه، وجنوا مبالغ مجنونة من خلال القيام بذلك”.
في الوقت الحاضر، تقود الأحزاب السياسية ذات التوجهات اليسارية في سويسرا زمام المبادرة الداعية للقيام بالمزيد من الإصلاحات في القطاع المصرفي.
وتشمل الاقتراحات المطروحة منح الجهة المسؤولة عن تنظيم وتعديل القطاع المالي مزيدًا من التمويل والقدرة على فرض غرامات على البنوك الفاسدة.
كما تُتداول أيضًا المزيد من المطالب الصارمة من أجل تقديم المديرين التنفيذيين للمصارف إلى المحاكم وإيداعهم وراء القضبان إذا ما انتهكوا القواعد المقررة بشكل صارخ.
صورة سويسرا
في المُحصّلة، توقفت مئة وسبعة وستون عاما من تاريخ مصرف كريدي سويس بشكل مقلق خلال عطلة نهاية الأسبوع التي تخللتها سلسلة من المفاوضات المحمومة من أجل هندسة حزمة إنقاذ في اللحظات الأخيرة.
لقد فقدت سويسرا إحدى علاماتها التجارية الشهيرة، التي أنشأها عام 1856 رجل الأعمال الشهير ألفريد إيشر من أجل تمويل فترة ذهبية من النمو الصناعي للكنفدرالية الناشئة.
هذه الصدمة مُماثلة لانهيار “سويس اير”، الناقل الجوي الوطني السويسري في عام 2001، على الرغم من أن قلة من الناس ربما ينظرون إلى الوراء إلى مصرف كريدي سويس بمثل ذلك الحنين إلى الماضي.
في عام 2008، اضطرت السلطات السويسرية للتدخل من أجل إنقاذ مصرف يو بي أس، لكنه كان حينها مجرد واحد من بين العديد من البنوك الدولية التي كانت تُوشك على الانهيار خلال أزمة مصرفية عالمية.
لقد دخل “كريدي سويس” في طور الاحتضار بسبب انهيار مصرفيْن في الولايات المتحدة، وذلك على الرغم من أن الكيانات الأمريكية لم تكن كبيرة أو مهمة مثل “كريدي سويس”.
أما في هذه المناسبة، فإن سويسرا هي التي تسببت منفردة في حدوث اضطرابات كبيرة في النظام المالي العالمي.
تحرير: مارك ليفينغستون
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي وكمال الضيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.