“السّنونوه”.. أو فنّ وضع الإصبع على الجرح
في فيلمه الجديد "السنونوه"، اختار مانو خليل سينما الطريق ليأخذنا في رحلة من أحياء مدينة برن العتيقة إلى كردستان العراق الخضراء، بحثا عن جذور بطلته السويسرية الشابة التي ستصطدم بالإرهاب، وجرائم الحرب، والإفلات من العقاب، ولكن بالحب أيضا. هذا العمل يتناول وضع الأكراد، وأيضا وضع الإنسان أينما كان، بأسلوب يعتمد على جمالية المشاهد وشاعريتها دون إغفال أحكام الواقع ومقتضياته. swissinfo.ch ذهبت للقاء هذا الفنان الكردي السوري الذي لجأ قبل عشرين عاما إلى سويسرا، حاملا حقيبة يُدرك أنها لن تعود أبدا إلى أيّ وطن..
بعد الدراما الوثائقية “طعم العسل” التي انتزعت عام 2013 الجائزة الأولى لمهرجان السينما الوطنية السويسرية بسولوتورن، بالإضافة إلى العديد من الجوائز العالمية، يعود مانو خليل إلى قاعات السينما بـالشريط الروائي “السنونوه” الذي يحكي قصة شابة سويسرية من أب كردي تعيش في برن، اعتقدت لسنوات طوال أن والدها توفي بطلا شجاعا دفاعا عن حريته ضد نظام صدام حسين، لكنها ستكتشف فجأة أنه لازال حيا يُرزق في كردستان العراق. وبين عشية وضحاها، تقرر الفتاة مغادرة سويسرا الهادئة لخوض مغامرة زاخرة بالأحداث والمفاجآت في أربيل ودهوك..
swissinfo.ch زارت المخرج مانو خليل في مقر عمله رابط خارجيببرن لمعرفة المزيد عن هذا العمل الذي لا يحصر نفسه في واقع أكراد العراق. فبتطرقه إلى ثقل الماضي وجروحه، وإلى عواقب الخيانة والنزعات الإنتقامية، وإلى الحقد والعفو، وإلى الصداقة والحب… يكون قد أنجز فيلما عن الإنسان أينما كان، بكل بساطة.
swissinfo.ch: ألم يكن التصوير في كردستان العراق مجازفة في منطقة غير بعيدة عن الحرب المشتعلة في المنطقة؟
مانو خليل: هذه النقطة بالذات كانت أصعب شيء واجهتُه قبل تصوير الفيلم: كيف أقنع الأوروبيين بأن كردستان العراق منطقة آمنة؟ كيف أقنعهم بأن أربيل ليست الفلوجة، ودهوك ليست الرمادي، والسليمانية ليست بغداد؟
كثيرٌ من الناس لا يعرفون حقيقة الوضع لأنهم يعتمدون في الغالب على ما تتداوله وسائل الإعلام، لذلك كان عليّ أن أشرح لهم أن أربيل مدينة عصرية يعيش فيها حوالي مليون نسمة، وأصبحت تُشبه بمبانيها الضخمة مدن منطقة الخليج. فمنذ سنتين، وقع انفجار واحد فقط في أربيل، ما يجعلني أقول إن مثل هذا حصل في لندن وباريس وبروكسل أيضا. فبسبب الضغط على كردستان العراق من كل الدول التي تحيط بها، والوسائل الأمنية التي تعتمدها حكومتها، أصبحت هذه المنطقة عصيّة على الإرهابيين، وتحوّل كل كردي إلى عين للشرطة، بحيث يكفي أن تمشي دقيقتين في الشارع حتى يُعرَف أنك أجنبي ويتمّ تفتيشك.
swissinfo.ch: وكيف كانت ظروف التصوير هناك مع طاقم العمل القادم من سويسرا وألمانيا؟
مانو خليل: ما ساعدني هناك بطبيعة الحال الحكومة الكردية التي قدمت لنا المساعدة اللوجستية، وبعض المعارف الشخصية. فعندما درست السينما في تشيكوسلوفاكيا السابقة قبل أكثر من تسعة وعشرين عاما، التقيت بعدد كبير من الشباب الأكراد الذين كانوا معارضين لنظام صدام حسين، وعندما تم تحرير كردستان العراق عام 1991، عادوا إلى المنطقة وأصبحوا يشغلون مناصب عليا، فمن بينهم وزراء ورؤساء بشمرغة (قوات أمن محلية – التحرير). وهذا سهّل علينا المأمورية، بحيث حصلنا على حق الإقامة لمدة شهرين، وكل شيء سار على ما يُرام.
هو مُـخرج كُـردي، ولِـد في سوريا عام 1964.
في الأعوام من 1981 وإلى 1986، دَرَس خليل التاريخ والقانون في جامعة دِمشق.
وفي الأعوام من 1987 إلى 1994، دَرَس في صفٍّ مُتخَصِّـص في الإخراج الروائي في أكاديمية السينما والتلفزيون في تشيكوسلوفاكيا السابقة.
من عام 1990 إلى عام 1995، عمِـل كمُـخرجٍ في التلفزيون التشيكوسلوفاكي، وفي وقت لاحق في التلفزيون السلوفاكي.
من عام 1990 وإلى عام 1995، قام بتمثيل أدْوار ثانوية في العديد من الأفلام الرِّوائية المُـختلفة في تشيكوسلوفاكيا السابقة.
منذ عام 1996، يعمَـل خليل كمُـخرج ومُـنتج ومصوِّر في سويسرا.
swissinfo.ch: الممثلة السويسرية الصاعدة مانون بفروندر أدت دور “ميرا” بمصداقية مُلفتة. كيف نشأ التعاون معها ومع الممثل الكردي الألماني إسماعيل زاغروس الذي شاركها البطولة؟
مانو خليل: لم يكن سهلا العثور على فتاة سويسرية بملامح شرقية تمنحها هذه المصداقية. لقد تقمّصت الدور بشكل جيد، علما أنه أول فيلم لها. فهي لم تكن مُحترفة وكانت هذه ميزتها. هناك ممثلون محترفون يفقدون عفويتهم. لكن مانون كانت خام، وأعتقد أنه سيكون لها مستقبل جيد في سويسرا. ومن جانبه، كان أداء الشاب الكردي ممتازا جدا. وكان من الصعب أيضا الحصول على ممثل يتمتع بمظهر وسيم ويتقن الحديث بالألمانية والكردية. لقد كانت فترة الكاستينغ الدولي طويلة، لكن النتيجة استحقت كل ذلك العناء. وكُللت الجهود بعرض الفيلم في افتتاح “أيام سولوتورن السينمائيةرابط خارجي” لهذا العام، أبرز موعد بالنسبة للفن السابع السويسري، و95% من ردود الفعل كانت إيجابية.
swissinfo.ch: قصة الحب بين “ميرا” و”رامو” تمنح الأمل في الإنسان، لكن واقع المنطقة ووضع الأكراد فيها يزرعان التشاؤم في موضع ذلك الأمل…
مانو خليل: حاولت أن أربط عملا دراميا بقضية إنسانية تهمني: أيُّ إنسان ارتكب جريمة في أيّ مكان من العالم يجب أن يدفع ثمن جريمته. لا يجب العفو ببساطة عن سفاكي الدماء. فهناك جنرالات لُطخت أياديهم بدماء الأبرياء ويتمتعون حاليا باللجوء وبالملايين في بلدان أوروبية. هذا عيب وعار على اللجوء وعلى الإنسانية. أنا أحاول في أفلامي الروائية أو الوثائقية إثارة قضايا مُعينة ووضع الأصبع على المكان الذي يؤلم.
إن تاريخ الأكراد مليء بالمجازر والمآسي. وفي هذا الفيلم، أردت تسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبها “سيروك جاش”، وهي العبارة الكردية الدّالة على “قادة الجحوش”، وهم رؤساء عشائر كردية جنّدهم صدام حسين لقتل شعبهم مقابل الملايين لحراسة منطقة كردستان العراق حيث كان البشمرغة يحاولون إزاحة صدام، وبذلك خلق حربا بين الكردي والكردي، وكان أولئك الجحوش أسوأ من أي رجل مخابرات بعثي. العربي البعثي لم يكن بحاجة إلى إثبات ولائه لصدام حسين، خلافا للكردي الذي كان يقوم بجرائم مضاعفة الحجم لينال رضاه. ولكن رغم العفو الذي صدر في حق قادة الجحوش عام 1991، لم ينس الناس ما رأوه بأعينهم، لم ينسوا كيف رُدم الإنسانُ الكردي حيّا في الصحراء، وكيف قُتل الرّضع على يد هؤلاء الجحوش. هنا نتحدث عن الأكراد، ولكن الإفلات من العقاب قضية عالمية مع الأسف.
swissinfo.ch: لماذا اخترت “السنونوه” عنوانا للفيلم؟
مانو خليل: لأن السنونوه طائر يرمز إلى البحث عن الجذور والعودة إليها، ولأنه يعيش مع الإنسان ويستأنس به حتى إن كان منزله خرابا. إن السنونوه يبني عشه، ويحنّ إليه، ويعود إليه ولا يغيّره إلى أن يموت. وبطلة الفيلم “ميرا” شعرت في بداية الفيلم أنها مثل طائر السنونوه الذي يجب أن يعود إلى عشه، لكن ما وجدته كان مخالفا للتوقعات، وكانت شاهدة فقط على الواقع الذي يعيشه الناس في كردستان العراق.
swissinfo.ch: في تصريح لسويس انفو عام 2010، قلتم “إن مأساة الأجانب تتمثل في أنهم يعتقدون أنهم سيعودون إلى أوطانهم كما يعود طائر السنونو إلى عشه”. واليوم تؤكدون هذه القناعة من خلال استخدام نفس الصورة في فيلم “السنونوه”، هل أنتم ضد فكرة العودة؟
مانو خليل: إن مسألة العودة حلم مزيف وكاذب يلازم كلّ من ترك وطنه، حرّا كان أو مُرغما. إن المهاجر يحاول التأقلم مع العش الجديد، ولكن من المستحيل أن يصبح عشه. إنه يحن لدفء ونعومة العش القديم، ويكُذِّب أحاسيسه الداخلية، ويحاول بناء أحلام تُوهمه بأنه يعيش في وطنه هنا (في الغربة). هذا مستحيل. أنا، مانو خليل، أقول في برن إنني لست في وطني، أنا لاجئ وسأبقى لاجئا كرديا حتى لو صرت رئيسا لسويسرا.
لقد أجبرت على ترك وطني وجئت إلى سويسرا حيث أعيش وأعمل بطريقة جيدة. أعيش الديمقراطية السويسرية، وأتنفس الهواء النظيف السويسري، وأنا مُمتنّ لأنني موجود في هذا البلد، ولكن سويسرا لن تكون في يوم من الأيام بلدي الذي اخترته أنا، ووطني الذي اخترته أنا. هذا الحنين مستحيل أن يكون لسويسرا، وفي وطني الأصلي، لن أكون مانو خليل الذي كان يعيش في كردستان سوريا، لم تعد هي كردستاني التي عشتها قبل ثلاثين عاما، ولو عدت إلى كردستاني، سأظل هناك ثلاثة أيام فقط، وسأنفجر ضجرا اليوم الرابع لأنه مستحيل أن أتأقلم مرة ثانية في ذلك العش، لقد تطوّرت حياتي في مكان آخر، بينما بقي عُشي الذي هجرته كما هو. هذا هو الضياع، أنا أتيت والحقيبة فُتحت، هي ليست عند الباب وكأنني سأعود من حيث أتيت، حقيبتي فُتحت بالتأكيد، ولكنني لم أجد العش، ولن أجده. ربما سيجده أطفالي. أما نحن فنشعر بحنين لا يفهمه أحد.
swissinfo.ch: يقول رامو في بداية الفيلم:”نحن الأكراد لا نحب التعليمات”، أهذه ميزة أم عيب؟ ألا يُساعد العيش ضمن إطار معين على الشعور بالإستقرار؟
مانو خليل: إن الكردي لم يحكُم نفسه بنفسه إلى اليوم، والتعليمات دائما تأتي من فوق، من أنظمة تتحكم بمصير الكرد وتمنع عنهم ممارسة إنسانيتهم، لذلك فإن الكردي حر وعنيف الطابع، ولا يريد أن تُفرض عليه الأشياء، وهو يحارب دائما القوانين المناهضة للوجود الكردي. والسؤال، من أين تأتي تلك التعليمات؟ إن كانت تصدر عن شخص متعلم فمرحبا بها، ولكن إن كانت من شخص جاهل، فسأكون سخيفا وساقطا إن وافقتُ عليها. نحن نرفض التعليمات الخاطئة. لقت قيلت العبارة في الفيلم بشكل رمزي، وهي محاولة لكسر السلاسل التي يحاولون بها تكبيل الشخصية الكردية.
swissinfo.ch: عانيت شخصيا من قمع الأكراد في سوريا. كيف تنظر إلى الوضع اليوم؟
مانو خليل: نحن لم نرضع الثقافة الإنسانية في منطقتنا. لم نرضع احترام الآخر ووجود الآخر، لم نحترم اختلافه جنسيا، وإنسانيا، واجتماعيا، واقتصاديا، ودينيا، وعقائديا. إذا ما لم نتعلّم هذا مع نقطة حليب الأم الأولى، فمن المستحيل أن تتغير مجتمعاتنا. نحن نبدأ بالعنف، الأم تعيش تحت العنف الذكوري، والطفل يعيش تحت العنف الذكوري والأنثوي، الطفل يشرب الكره والحقد والمعاناة مع نقطة الحليب الأولى. الطفل يغضب، يقتل الحشرات ويكسر الورود لأنه مضطهد. عندما كنت طفلا عمري ست سنوات، نطقت بكلمة كردية وضربني المعلم على يدي إلى أن تورمت. ضربني لكي يكسر إرادتي. إنها أنظمة تكسر حتى إرادة شعبها العربي ليعيش خادما وكمطية للظالم وللدكتاتور. لقد سُجنتُ لمجرد أنه كُتب عني في مقابلة في تشيكوسلوفاكيا السابقة أنني كردي سوري، قيل لي: “كيف علموا أنك كردي؟ لماذا قلت أنك كردي؟ ألا تعلم أنه لا يوجد أكراد في سوريا؟”.
عندما أعلن أكراد سوريا قبل بضعة أسابيع مطلبهم بإقامة نظام فدرالي، اعترض على ذلك ليس فقط النظام البعثي، بل ومعارضون ينادون أيضا بإقامة سوريا حرة وتعددية وديمقراطية، إنهم سوريون يعيشون في سويسرا وبلدان أوروبية، وحتى في أمريكا. هم يتنعّمون بالديمقراطية ويستفيدون من جميع مزايا الفدرالية في سويسرا ولكنهم يحاربون قيام نفس النموذج في بلادهم. أي منطق هذا؟ سويسرا دولة كنفدرالية تعترف بأربع لغات، لكن نفس النظام يصبح معاديا عندما يتعلق الأمر بالأكراد الذين يصفهم هؤلاء المعارضون السوريون بالقردة والغجر، وحتى يطالبون بقتلهم. لماذا؟ كيف أطالب بحريتي كإنسان وأمنع عنك حريتك؟
من أبرز أفلام مانو خليل
2016: السنونوه.
2013: طعم العسل.
2009: جنّان عدن.
2006: ديفيد تولهيلدن.
2005: الأنفال – “باسم الله، والبعث وصدّام”.
1998: انتصار الحديد.
أفلام قصيرة :
2003: أحلام مُـلوَّنة
1995: سينما العين
1993: المكان الذي ينام فيه الله
1992: يا إلهي
1991: أبي
1990: السفارة
1989: ألمي وأملي
1988: أيها العالَـم
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.