في زمن تهريب الأطفال والطفلات عبر الغوتهارد
شهد القرن التاسع عشر نقل الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات بعد الولادة من داخل سويسرا إلى ميلانو. ولقد أثارت تلك الصفقات المربحة ضجة في جميع أنحاء أوروبا.
في الرابع من ديسمبر عام 1807، ذاع فجأة صيت قرية فلويلن ذات الخمسمائة نسمة، ليتعدى حدود سويسرا. “إن البلدة التي يقطنها بعض ممن عملوا.ن في تجارة الأطفال من الجنسين تدعى فلويلن، وهي قرية تقع بالقرب من مدينة ألتدورف في كانتون أوري”، هذا ما جاء في مستهَل المقال الافتتاحي بجريدة “شفايتسربوتن” (كانت تصدر بالألمانية من لوتسيرن ثم من آراو، ما بين 1798 و1878).
آنذاك، سلط التقرير الذي حمل عنوان “حول إساءة مرعبة تجري في سويسرا، أو حول تجارة الأطفال والطفلات”، الضوء لأول مرة على ذلك النموذج المشبوه من الصفقات التي كانت تتم في كانتون أوري؛ فعلى مر حوالي عقد من الزمن كان الأبناء والبنات غير الشرعيين.ات ينقلون.ن من سويسرا عبر ممر الغوتهارد الجبلي، إلى ملجأ لمجهولي.ات النسب في ميلانو.
ومع إنشاء مؤسسة “بيا كازا ديغلي إسبوستي إيه ديله بارتورينتي” (Pia Casa degli Esposti e delle Partorienti) المعنية بالنساء والولادة عام 1780، أتيحت ممارسة ليبرالية فريدة من نوعها على مستوى أوروبا، لإيواء الأطفال إناثاً وذكوراً. وبينما لم يكن في جميع أنحاء الكنفدرالية حينها ملجأ أيتام ويتيمات واحد، يقبل بإيداع أطفال أو طفلات غير شرعيين.ات، فإن ذلك الملجأ الذي أسسته امبراطورة النمسا ماريا تيريزيا، أتاح للجميع فرصة تسليم المواليد من الجنسين، والعودة في أي وقت لاستلامهم.هن، بدون التعرض لعقوبة.
أثار تقرير جريدة “شفايتسربوتن” زوبعة عارمة، فسرعان ما نشرت صحف تصدر في فيينا وأوغسبورغ مقالات تتناول صفقات “تجارة الأطفال والطفلات”.
من هنا اضطرت السلطات في كانتون أوري إزاء الضغط الذي مورس عليها، إلى تتبع تلك الاتهامات. أما كيف كانت تجري تلك الصفقات بالضبط، ومن كان متورطاً بها، فهو ما نعرفه اليوم من خلال هذه الاستقصاءات.
صحيح، أن قرية فلويلن لم تكن المكان الوحيد الذي كان يتم عبره نقل الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات إلى إيطاليا في القرن التاسع عشر. بل كانت هناك صفقات مشابهة تُجرى أيضاً في مدن كوسناخت، ورابرسفيل، وسانت-غالن. إلا أن كانتون أوري الذي يضم طرق التجارة التقليدية مع إيطاليا، شهد انطلاق هذه الظاهرة.
فهناك شرعت أواخر القرن الثامن عشر أسرتا القابلة ماريا هوبر، والمدرس السابق فرانس يوزف كيمف، في نقل أطفال وطفلات غير شرعيين.ات في سن الرضاعة إلى خارج الكنفدرالية. فما بين عامي 1803 و1807 فقط، عبر.ت حوالي 60 طفلاً وطفلة على يد أسرتي هوبر، وكيمف.
تورط الكاهن
من بين هؤلاء، كان طفلا السيدة جوزيفا ماتيس، من بلدة فولفنشيسن بكانتون نيدفالدن. فقد حملت الشابة بتوءمين، إلا أن والد الطفلين رفض الزواج منها.
وفي عام 1808، خضعت السيدة جوزيفا للتحقيق من قِبل سلطات كانتون أوري بشأن تلك الوقائع. حيث ورد في محضر التحقيق: “وبما أن الطفل غير مرغوب فيه، فقد نصحها كل من القاضي والكاهن، بتسليمه إلى مكان ما يكون أجدى له”.
هكذا وضعت طفليها سراً لدى أسرة هوبر. وقد تكفل الوصي على الأب الشاب بإقامة ونقل الطفلين إلى إيطاليا. إلا أن الطفلين لم يصلا إلى ميلانو أبداً. فقد توفيا في الطريق ببلدة بوديو. بل إن بعض من الأطفال والطفلات الرضع توفوا.ين في نفس مكان ولادتهم.ن. لذلك فقد تورط في تلك الصفقات بخلاف القابلات اللاتي كن يساعدن في الولادة، أيضاً بعض الكهنة والشمَّاسين. وتمثلت مهمتهم في تعميد الرضع والرضيعات، ودفن من ت.يتوفى سراً في إحدى المقابر.
يذكر أن دفن تلك الجثث الصغيرة كان يتم في المقابر حديثة العهد ـ “حتى لا تثير الريبة، قدر المستطاع”، مثلما ورد في أقوال الشمَّاس ميغنيت من قرية فلويلن، في التحقيق الذي أجري معه في الثاني والعشرين من ديسمبر 1807. أما من بقي من الأطفال والطفلات على قيد الحياة، فكان يتم نقلهم.ن على نقالة ويحمل عبر ممر الغوتهارد الجبلي سيراً على الأقدام، إذ كان يجري نقل العديد من هؤلاء، الذكور والإناث، دفعة واحدة. ولإسكات هؤلاء الرضع والرضيعات، كان جوزيف كيمبف يقوم بإعطائهم.هن جرعة كبيرة من مادة الترياق، وهي خلاصة متعددة الاستعمالات، كانت تُعزز في مطلع القرن التاسع عشر، بإضافة الأفيون.
وفي ميلانو كان يتم إيداع الأطفال إناثاً وذكوراً في ملجأ لمجهولي.ات النسب. إلا أن ناقلي.ات الأطفال القادمين.ات من سويسرا لم يكن في مقدورهم.ن تسليم الأطفال بصورة رسمية، إذ لم تكن خدمات تلك المؤسسة متاحة إلا لأهل إمارة ميلانو آنذاك.
ولإيصال الأطفال إناثاً وذكوراً إلى هناك، كان النقل يتمّ عبر نافذة الإيداع الدوَّارة، أو التعاون مع قابلات من ميلانو. وكثيراً ما كان يتمّ اعتماد شهادات مزوّرة من المستشفيات. لذلك فإنه من المستحيل معرفة العدد الحقيقي للرضع الذين واللواتي وصلوا.ن بالفعل إلى ميلانو، أو قضوا.ين نحبهم.نّ في الطريق إليها، أو أودعوا.ن ملاجئ أخرى للأطفال والطفلات مجهولي.ات النسب.
قرن مجهولي.ات النسب
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن القرن التاسع عشر يعتبر هو الأبرز من حيث أرباح صفقات “نقل الأطفال والطفلات”. ففي كافة أرجاء أوروبا، ارتفعت على مدار هذا القرن “معدلات الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات” بشدة، لذلك كثيراً ما يطلق عليه “قرن مجهولي.ات النسب”.
كذلك كان الحال في كانتون أوري، وسائر أنحاء سويسرا، حيث ارتفعت معدلات المواليد إناثاً وذكوراً، خارج إطار الزواج ـ ففي كانتون أوري ارتفعت هذه النسبة من 0،3 % حوالي عام 1800، إلى 5،7% حوالي عام 1858.
أما أسباب هذا الارتفاع الشديد، فإنها غير واضحة تماماً. لكن بالتأكيد ساهم فيها النمو السريع للكثافة السكانية في ذلك الوقت. كما أن الانتقال نحو الحداثة والثورة الصناعية، قد أدى إلى تغير جذري في أنماط العمل والحياة. فالشباب من الجنسين بصفة خاصة أصبحوا.ن أكثر حركة، وانتقلوا.ن في سن مبكرة من المحيط الاجتماعي المعتاد، للبحث عن عمل في أماكن أخرى.
لم يتسبب هذا الوضع فقط في انحسار الرقابة الاجتماعية، بل نجمت عنه ظروف عمل تعرض الشابات بصفة خاصة للأذى. لذلك لم يكن حمل إحدى الخادمات سفاحاً من مخدومها، بالأمر غير المعتاد.
فضلاً عن ذلك، فقد وضعت على مدار القرن التاسع عشر الكثير من العوائق القانونية التي حالت دون الزواج. حيث أدرج كانتون أوري في عام 1810 قانوناً خاصا بالفئات الفقيرة، يحظر الزواج على الأشخاص “الذين واللواتي قضوا.ين حياتهم.ن في فسق وخلاعة، وعدم استقرار، أو عاشوا في تسّول كسول، أو في تشرّد”. وكان من شأن هذه القوانين الحيلولة دون توريث الفقر. لكنها في الواقع، جاءت بنتيجة عكس الهدف المنشود منها.
فإذا كان المعتاد قبل سن تلك القوانين، أن تكون العلاقات الجنسية السابقة على الزواج، مقدمة للزواج نفسه، فإن هذا الأمر لم يعد متاحاً للطبقة الأفقر من الشعب بسبب تلك القوانين. من هنا ولد.ت أطفال وطفلات خارج إطار الزواج، ودخلت النساء في دائرة مفرغة من الوصم الاجتماعي والعوز الاقتصادي.
الإقصاء الاجتماعي
في مطلع القرن التاسع عشر، كان الحمل خارج إطار الزواج مرتبطاً بعواقب قانونية واجتماعية وخيمة بالنسبة للمرأة. وكان ينتظر منها الإبلاغ عن نفسها والبوح باسم الأب. فإذا ما لم تُرِد ذلك، أو لم تتمكن من فعله، فإنه كان يطبق أثناء الولادة ما يعرف باسم “تحقيق الولادة والنفاس”. حيث كان يفترض ألا تتمكن المرأة أثناء آلام المخاض من التفوه بما ينافي الحقيقة.
بالنسبة للنساء كانت هذه الممارسة التي تشبه التعذيب سلاحاً ذو حدين. فمن ناحية كان الإدلاء بأقوالها أثناء الولادة يمثل عبئاً نفسياً هائلاً. ومن ناحية أخرى حصلت النساء بموجب ذلك على فرصة لمحاسبة الأب، والذي كان يتوجب عليه بعدها الاعتراف بالطفل والتكفل به.
جدير بالذكر، أنه كان يتم في أعقاب الولادة توقيع العقوبة على والدي الطفل.ة غير الشرعي.ة، بينما كانت العقوبة تتراوح بين الغرامة المالية، والعقوبة الجسدية والتشهير بهما، وقد تصل إلى حد السجن. صحيح أن الأمهات العازبات كن يظللن بعد ذلك تحت مراقبة السلطات. لكن الآباء بدورهم، كانوا يخشون أيضاً تضرر سمعتهم.
لذلك لم يكن من المستغرب أن يتحول الأمر في مطلع القرن التاسع عشر إلى تجارة في كانتون أوري، لولادة الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات سراً ثم إخراجهم.ن خارج الكنفدرالية. وصحيح أن الضجة الإعلامية التي أعقبت تلك الوقائع، أسفرت عام 1807 عن سن حظر مؤقت على نقل الأطفال من الجنسين.
إلا أن هذا الحظر رُفع مجدداً في الثامن والعشرين من مايو عام 1814.
لاحقاً، وبالتحديد في عام 1820، تقدم مجلس الشرطة بكانتون لوتسيرن بشكوى مطالباً فيها كانتون أوري بـ “وضع حد نهائي لهذه الممارسات غير الأخلاقية”. بعدها تمكنت السلطات في كانتون أوري من فرض حظر نهائي، ووضعت نقل الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات تحت طائلة عقوبة السجن.
لكن عدم المساواة القانونية التي عانى منها الأطفال والطفلات غير الشرعيين.ات وبذلك وصمهم.ن اجتماعياً أيضاً، استمرا بعدها لمدة قرن كامل. فقط، عام 1976 وبموجب تعديل قانون الأطفال إناثاً وذكوراً، الصادر آنذاك، تحققت المساواة بين الأطفال والطفلات الشرعيين.ات وغير الشرعيين.ات، فيما يخص حق الميراث، وحق المواطنة، والحق في حمل اسم العائلة.
ترجمة: هالة فرّاج
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.