“المؤسسة العلمية السويسرية للبلدان النامية”.. شراكة من أجل المستقبل
من رحم فكرة العودة، نبت بذرة الإندماج، ومن الشعور بهشاشة الموقف، انبعثت مبادرة إنشاء "المؤسسة العلمية السويسرية للبلدان النامية" على يد ثلّة من الكوادر والأطر العربية المقيمة بسويسرا، لتحقيق أهداف وطموحات غاية في النبل والجدّية.
وفي قطيعة كاملة مع أدبيات نزيف الأدمغة وهجرة العقول، يحاول القائمون على هذه المؤسسة تدشين وضع جديد يتحوّل فيه الشعور بما يسميه الدكتور جواد الزيررابط خارجي، رئيس هذه المؤسسةرابط خارجي في حديث إلى swissinfo.ch “عدم التكامل الإندماجي” إلى نقطة قوّة تستغلّ في تحقيق المصالح المشتركة لسويسرا والبلدان النامية.
والمقصود هنا بالدول النامية بحسب الدكتور خالد أبو حديدرابط خارجي، أستاذ الكيمياء بجامعة زيورخ، والعضو المؤسس لهذه الهيئة “ليس الدول الفقيرة، بل البلدان المنخرطة في جهود التطوير لكن ما تزال في بدايات ذلك المشوار”.
ومن الأكيد أن الكثير من العقول العربية المهاجرة في الغرب لها طموح قوي للمشاركة في الإرتقاء بأوطانها الأصلية بفضل ما كسبته من علوم وتجارب وخبرات. ومن الممكن أن توفر مؤسسة من هذا القبيل الإطار الامثل لاحتضان الذين لا يستطيعون منهم العودة أو الإستقرار في بلدانهم الأصلية.
أهداف متنوعة ومتوازنة
إنجاح هذا التعاون المرجو بين سويسرا والبلدان النامية، بحسب الدكتور الزيير تطلّب “وضع أهداف مشتركة، ومصالح متوازنة، ومفاهيم متفق عليها”. وفي الواقع، تبدو كل هذه الشروط متوفّرة: فسويسرا أبدت بأكثر من طريقة وفي أكثر من مناسبة رغبتها في مساعدة البلدان السائرة في طريق النموّ على المستويات العلمية والإقتصادية والاجتماعية. في المقابل، فإن البلدان النامية، والعربية منها بوجه خاص، في حاجة ماسّة إلى هذه المساعدة.
التعليم هو البوابة الرئيسية لتغيير الأوضاع في البلدان النامية، ومن المؤكّد أن التبادل العلمي بين سويسرا وبلدان العالم الثالث سيكون مفيدا للطرفيْن
الدكتور خالد أبو حديد
لهذه الأسباب مجتمعة، حدّدت هذه المنظمة غير الحكومية كأهداف رئيسية لها: تشجيع نقل المعارف والعلوم والخبرات من البلدان المتقدمة إلى البلدان النامية، وبناء شراكات قوية والتشبيك بين الهيئات العلمية والمؤسسات الصناعية والتجارية على الجهتيْن، ووضع مستشارين وفنيين متمكنين من تخصصاتهم على ذمّة المستثمرين وأصحاب المشروعات الراغبين في الإنتقال للإستثمار في بلدان الجنوب.
كما يعمل القائمون على “المؤسسة العلمية السويسرية للبلدان النامية” من أجل انشاء هيئة محايدة وموثوقة تتكفّل بتيسير التواصل وعمليات التفاوض، وإزالة أي عوائق أمام تدفّق الإستثمارات، وإرساء مناخ من التفاهم يمنع أي تنازع ويحقق أهداف الطرفين. وهنا بالذات سيكون لهذه المنظّمة دور حيوي نظرا للإزدواج الثقافي الذي تتمتع به الكوادر المشرفة عليها.
ويشرح الدكتور جواد الزير أهمية هذه الميزة فيقول: “عموما هناك حساسية في التواصل بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة، فالبلدان النامية تتوجّس خيفة من البلدان المتقدّمة للشروط التي تضعها عند تقديم أي مساعدة، ولأن أعضاء مؤسستنا لهم القدرة على فهم العقلية الأوروبية، ومن ضمنها العقلية السويسرية، وفي نفس الوقت لديهم إحاطة وتمثّل لثقافة البلدان النامية التي ينحدرون منها، فهم الأقدر على لعب دور التجسير بين الطرفيْن”.
كذلك من الاهداف الرئيسية المرجوة من إنشاء هذه المؤسسة “تسهيل اندماج أعضائها الذين هم من ذوي الكفاءات العلمية والخبرات العالية وجعلهم منتجين على كلا الجانبيْن”.
مجالات تحظى بالأولوية
رغم الطابع العام والشامل لأهداف هذه المنظمة، والسبب بسيط برأي المسؤول الأوّل بها “باعتبار أن المعنيين بها لا يمكن حصر كفاءاتهم في مجال دون آخر، وهم موجودون في كل الجامعات، ويغطون كل التخصصات، ويعملون في كل الشركات، وترك الأهداف هكذا عامة يترك المجال مفتوحا امام أي كفاءة تريد الإنخراط فيها”.
لكن هذا لم يمنع منح الأولوية، على الأقل في هذه المرحلة، إلى المجال الصحي، وخاصة مسألة مكافحة الأمراض الفتاكة، وفي مرحلة ثانية القضايا البيئية.
المؤسسة العلمية السويسرية للبلدان النامية
التسمية المختصرة لهذه المؤسسة هي SSSDC، وقد تأسست في عام 2014 من قبل مجموعة من الخبراء السويسريين من أصول مختلفة، بهدف الإستفادة ودمج المهارات العلمية مع خلفياتهم الثقافية الشرقية بقصد تعزيز الإتصال بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة، ومن أجل تشجيع المبادلات التجارية والبعثات العلمية وتطوير البحوث في مجالات كثيرة على رأسها الصحة والتعليم.
يتسم أعضاء هذه المؤسسة بدرجة عالية من المهنية، بالإضافة إلى ما يتمتعون به من تنوّع ثقافي، ما يجعل من هذه الهيئة، التي تحرص على الحيادية والموثوقية، إطارا جيّدا لحل النزاعات إن وُجدت، والتقليل من احتمالات حصول سوء فهم، وتسهيل التفاوض بين الشركاء من أجل الوصول إلى حلول معقولة، ومن أجل تضييق الفجوات، وتمتين العلاقات بين سويسرا والعالم النامي.
يوجد المقرّ القانوني لهذه المؤسسة في دوبندورف، التي تعتبر أكثر المدن كثافة سكانية، بعد زيورخ، عاصمة الكانتون الذي يحمل نفس الإسم. وهي اليوم تخطط لإقامة ندوات ولقاءات سنوية لمساعدة أعضائها على الحصول على المزيد من المعارف والخبرات، وتحديد الفرص المتاحة ذات القيمة العالية في مجال التبادل بين الشمال والجنوب.
(المصدر: SSSDCرابط خارجي)
وبرأي الدكتور الزير، المتخصص في التكنولوجيا الحيوية وفي علاج مرض السرطان، فإنه “في الوقت الذي تشكو فيه البلدان النامية من نقص حاد في المجال الصحي، تمتلك سويسرا امكانيات هائلة، ويكفي أننا نجد فيها شركتيْن عملاقتيْن في مجال صناعة الأدوية مثل “لاروشرابط خارجي” و”نوفارتيسرابط خارجي“، وما أحرز من تقدّم في سويسرا في هذا المجال قلّ نظيره”.
أما المجال الثاني، ذي الأولوية برأي الدكتور خالد أبو حديد، فهو مجال التكوين، ويشدّد هنا على أن “التعليم هو البوابة الرئيسية لتغيير الوضع ككل في البلدان النامية، ومن المؤكّد أن التبادل العلمي بين سويسرا وبلدان العالم الثالث سيكون مفيدا للطرفيْن: مفيد للطرف السويسري أوّلا، لأنه سيسمح له باستقطاب أناس من ذوي الكفاءة سيساعدون في تطوير الإنتاج وفي الإرتقاء بالأبحاث العلمية. في نفس الوقت هؤلاء سيستفيدون من الخبرة السويسرية، وينفعون بها بلدانهم الأصلية”.
أما المجال الثالث والمهمّ، فهو مجال الإدارة والحوكمة الرشيدة. وهذه من المعضلات الكبرى في البلدان النامية. فقد يكون لبلد ما ثروات هائلة وميزانيات كبيرة جدا لكن لن تنتفع بها إذا كانت عاجزة عن استخدامها بطريقة فعالة ومجدية وسليمة. و”هنا ايضا، وبفضل الخبرة السويسرية يمكن أن ننقل إلى تلك البلدان مناهج التخطيط وأساليب الإدارة العلمية والعصرية”، على حد قول الدكتور أبو حديد، المصري الأصل، الذي يقيم في سويسرا منذ عقود.
سويسرا المكان المثالي لهذه الشراكة
وضوح الفكرة والإقتناع بها لا يكفيان إذا لم تتوفّر البيئة المناسبة والمشجّعة، وفي الواقع قد تكون سويسرا المكان المثالي لنمو وتطوّر هذه الشراكة وذلك لأسباب عدّة.
السبب الأوّل هو الموقع الجغرافي، حيث تقع سويسرا في قلب أوروبا، وتحدّها خمس دول أوروبية هي إمارة ليختنشتاين، وألمانيا، وفرنسا، والنمسا، وإيطاليا. وثلاث من هذه الدول (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) من أكبر الإقتصاديات في أوروبا والعالم. فالموقع متميز من الناحية الإستراتيجية.
كذلك تمتلك سويسرا نسيجا ثقافيا تتميّز به عن جميع الدول الأخرى، إذ توجد فيها أربع لغات معتمدة رسميا، وبالتالي فهي متقدمة عن غيرها في فهم أهميّة التنوّع الثقافي.
وثالثا، على المستوى القيمي، فهي مثال الوسطية والحياد في تعاملها مع كل الدول بلا استثناء، وليس لهذا البلد أطماع استعمارية أو تاريخ عدواني تجاه أي بلد آخر.
ثمّ أخيرا هي من البلدان الرائدة في مجال البحوث والمعارف العلمية وهي من أكثر بلدان العالم حرصا على توظيف العلم في تطوير مشاريع صديقة للبيئة. ولهذه الأسباب كلها، تبدو سويسرا مؤهّلة أكثر من غيرها لرسم هذه العلاقة بين الدول المتقدمة والدول النامية.
وهكذا تبدو “الفكرة راقية جدا والإقتناع بها واسع”، بحسب رأي الدكتور جواد الزير، لكن ما ينقصها، يضيف، هو “تفاعل أصحاب القرار على مستوى الحكومات والشركات والمؤسسات الجامعية، بما يساعد على وضع القاطرة على السكة، والإنطلاق في إنجاز مشروعات فعلية وميدانية”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.