“اللقمة السهلة ما طيّبة”
"من كانت طريق الوصول إليه صعبة، دليل على أنه من الطيبين"، هكذا تقول حكمة القدامى، وهكذا كانت الطريق إلى لقاء ماهر النعيمي، الشاب السوري من أصل فلسطيني، الذي يقيم ويعمل بكانتون سولوتورن، غرب سويسرا، والذي كان حلمه الأوّل والأخير منذ الصغر الخروج من أسوار مخيم اليرموك لدراسة هندسة الطيران في إحدى البلدان الأوروبية.
أما محدثنا الذي كان اللقاء معه بطلب منه والذي جاء إلى سويسرا طالبا اللجوء في عام 2014، سالكا خطا طويلا أجبره المهربون على سلوكه للوصول إلى سويسرا قادما من تايلند، فيقول: “ما شجّعني على طلب هذا الحوار معكم هو الصورة المشوّهة للعرب في أوروبا وفي سويسرا خاصة، والتي تربطنا بمسألتيْن: الإرهاب والاحتيال”.
طفل المخيّم
ولد النعيمي في مخيم اليرموك “عنوان الشهامة والرجولة” كما يقول، جنوب غرب دمشق، المدينة التي يتعايش فيها القديم والحديث، وتجاور فيها المهن العصرية نسيجها الحرفي التقليدي. “وأنت تتجوّل في دمشق، تشاهد الحداد والنجار اللذان توارثا حرفتهما عن الأجداد بجوار مكاتب شركات عالمية مشهورة”، يقول النعيمي بلسان شاهد العيان وبراعة المرشد السياحي، مهنة ليست غريبة عنه، لأنه بالفعل درس علوم السياحة، وكل ما يتعلّق بالطيران وحجوز السفريات وغيرها مباشرة بعد انتهاء المرحلة الإعدادية في مدارس الأونروا، والثانوية في مدارس مدينة دمشق.
ولكن قبل ذلك، وبالتزامن مع دراسته الثانوية، اشتغل في محل صيانة وإصلاح الحواسيب، ومارس أنشطة تطوّعية لصالح المحتاجين داخل المخيم. وهذا مفهوم لأن هذا الشاب في الأصل من عائلة بدوية، وان تمدنت مع الوقت، والطفل في هذا الصنف من الاسر لا ينتظر التخرّج للإلتحاق بسوق الشغل.
حلم طفل المخيّم ظل معلقا بشيء آخر، ويشرح ذلك: ” كان حلمي الأوّل والأخير الخروج لدراسة هندسة الطيران. لكن أهلي كانوا يعارضون هذه الفكرة لأنها تستوجب السفر إلى بلدان أخرى، وما كان متاحا هي روسيا وأوكرانيا، وعموما بلدان أوروبا الشرقية. ولأنها أيضا أقل تكلفة مقارنة ببلدان أوروبا الغربية”.
لكن لتحقيق ذلك كان على النعيمي السفر إلى لبنان للعمل من أجل جمع المال الضروري لتغطية تكاليف السفر للدراسة. وفي بلد الأرز، كانت الحياة صعبة و”الأشقاء اللبنانيون لم يقصروا في التضييق علينا. لقد عاملونا نقيض ما عاملناهم به في تموز 2006. وكانت حجتهم أن لبنان لا يحتمل هذا الكم الكبير من اللاجئين”. وفي بلد الجوار، اشتغل ماهر النعيمي بالطبخ وغسيل الصحون.
سويسرا بدلا من السويد
ما عايشه النعيمي في لبنان، خلص منه إلى القول: “للأسف نحن العرب وصلنا إلى مرحلة صرنا فيها نحلم ببلاد القارة العجوز لأنها صارت أرحم بنا من أبناء عمومتنا”.
وفي احدى الأيام من شهر فبراير في عام 2014، أقلعت طائرة النعيمي وثلاثة رفقاء آخرين من مطار بوكيت التيلاندي إلى زيورخ، وقد أعلمهم المهرّب بمقصدهم الجديد ساعات قليلة قبل الإقلاع. يقول النعيمي: “كنت أنا ورفاقي الثلاثة نتهيأ للذهاب إلى المطار، والهواتف بأيدينا من اجل التعرّف عن سويسرا. وفي لحظتها فقط، عرفنا أن سويسرا تتكلم أربعة لغات، وأن زيورخ ليست عاصمة الكنفدرالية،…”.
رغم ذلك لم يخب أمل هذا الشاب السوري الفلسطيني. فبعد سنة ونصف من حلوله بسويسرا، تحصل على حق اللجوء، وتحوّل إلى لاجئ معترف به.
رحلة اندماج شاقة وطويلة
ظلّ ماهر النعيمي متمسكا بطموحه الأوّل المتمثّل في دراسة هندسة ميكانيكا الطيران، لكن المسؤولين عن ملف تدريب اللاجئين في كانتون سولوتورن أفهموه ومنذ قدومه إلى المنطقة أن “هذا النوع من الفرص ليس متوفرا للسويسريين أبناء البلد، فما ظنك بطالب لجوء”.
وعندما قرّر متابعة تدريب في مجال علوم الكمبيوتر مستفيدا من تجربته السابقة في سوريا، عادوا إليه وأخبروه بأن “علوم الكمبيوتر لا توجد ضمن قائمة التخصصات المتاحة، فاقترح عليهم إلحاقه بمهنة التمريض، فلم يختلف الجواب عن سابقه”.
وظل النعيمي على هذه الحال، يرسل مطالب التشغيل، فيتلقى ردودا سلبية، إما بسبب نوعية الإقامة (ترخيص N، الذي يمنح إلى طالبي اللجوء)، أو بسبب الإسم العربي ربما، وأيضا انعدام أي اثباتات على تلقي تدريب مهني في سويسرا.
وفي يوم من الأيام، يقول محدثنا: ” استدعتني بلدية سولوتورن وأعلموني بوجد برنامج تدريب وأنهم يرشحوني للمشاركة فيه”. والبرنامج عبارة عن ورشات موجهة للعاطلين عن العمل في ميادين مثل المطاعم، والتنظيف، وبعض الحرف،”. والغرض منه تهيئة اللاجئ في انتظار عروض من الشركات”. وعندما رفض الإنخراط في هذا البرنامج، اقترحوا عليه تدريب مهني خاص باللاجئين المعترف بهم يتعلمون من خلاله كيف يكتبون السيرة الذاتية ومطالب التشغيل”. ومرة ثانية لم يكن ماهر متشجعا لهذا التدريب لأنه رأى أن في هذا “ارتداد إلى الوراء ولا يتقدم به”. ويقول: “برنامج يسحب صاحبه إلى الورى ولا يحسن من امكانياته”.
الإصرار مفتاح النجاح
واصل النعيمي ارسال طلبات التشغيل إلى كل الشركات، وفي كل المجالات، ولم يستثن من ذلك كما يقول “وسائل الإعلام ومنها.swissinfo.ch”.
ويضيف: ” بلغ بي الحال أني كنت أجوب الشوارع وأتطلّع للحيطان وكلما وقع بصري على إسم شركة أعود إلى البيت وأرسل لها مباشرة طلب تشغيل”.
“مفتاحك للعمل هو اللغة، ولكن مفتاحك للمجتمع هو العمل”
إلى أن أمسك بيده في أحد الأيام أحد المسؤولين على ملف التدريب المهني للاجئين بكانتون سولوتورن، وقال له: “ما دام اسمك عربي، وأنت فلسطيني، ومادمت لاجئا، ومن سوريا، عليك ان تفكّر مليا وتتواضع لتجد حلا لنفسك. فما تحلم به لن يتحقق لك يوما ما بسهولة. إذن إبحث لك عن طريقة أخرى تلج منها”.
قال سألته : “ما المطلوب؟” أجابه “غيّر اسمك”. مثلا بدلا عن “ماهر النعيمي” ضع “ماريو شنايدر”. ثم استدرك قائلا: “اتبع طريقة ثانية أفضل”. وبدلا من ارسال مطالب التشغيل أطرق أبواب الشركات مباشرة، وتحدّث إلى أرباب العمل، فأنت بارع في التواصل والمخاطبة”.
كما أعلمه أيضا أنه “لن يظفر بشركة تدرّبه ومن ثم توظفه إلا بعد جهد جهيد، وبعد تعب مضني”. و”بالفعل “كنت لم أترك متجرا او شركة أو مصنعا إلا طرقت بابه بحثا عن عمل، أو قدمت لها طلب شغل، لكن النتيجة كانت هي هي”. إلى أن كان الإسثناء مع شركة ألدي الألمانية الناشطة في مجال تجارة التجزئة.
يقول ماهر: “كنت راكبا في القطار في طريقي لزيارة احدى الشركات في إطار بحثي عن فرصة تشغيل، فكتبت رسالة بريدية بسيطة إلى متجر ليدل، أطلب تمكيني من فترة تجريبية، وأرفقت الرسالة بسيرتي الذاتية ورسالة أشرح فيها حوافزي للعمل”. وقبل ولوجي لباب الشركة التي كنت أقصدها، تلقيت رسالة من شركة ألدي – سويسرا، تدعوني فيها إلى مقابلة في اليوم الموالي”.
وبالفعل يقول “التقيت المسؤول الإقليمي الذي لم يتوان عن تقدير الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها بإرسال طلب الفترة التجريبية، وشكرني على اتقاني للغة الألمانية رغم حداثة وجودي في سويسرا”. وكذلك “عبّر لي عن اعجابه لكوني لم أضع وقتا منذ قدومي إلى سويسرا”. ثم أخبرني انه يؤمّن لي تجربة لمدة أسبوع واحد، وهو ما حدث بالفعل.”.
استمرت الفترة التجريبية لاحقا ثلاثة أشهر انتهت بإبرام عقد عمل. واليوم يواصل ماهر النعيمي ومنذ سنة أو يزيد قليلا عمله في إحدى فروع متاجر ألدي لتجارة التجزئة يقع في ضواحي مدينة سولوتورن على مقربة من الطريق السيارة. وبالموازاة مع ذلك، يتابع دروسا بإحدى المدارس المتخصصة في مجال التجارة الغذائية.
واليوم ينظر ماهر النعيمي إلى هذه الشركة الألمانية على أنها كانت المنقذ له. ورغم حصوله لاحقا على فرص توظيف مغرية نسبيا، لكنه رفضها جميعها لأن “ألدي كانت بمثابة يد المساعدة الأولى التي امتدت إليه”.
الدروس المستفادة
خلص النعيمي من هذه التجربة الشاقة إلى بعض الدروس القيمة نوردها هنا لعلها تفيد قراءنا:
– مهما كان الطريق مظلما، لا يجب على الشخص أن يصاب بالإحباط، فقد تكون فرصة العمل بجوار سكناه، وهو يبحث عنها على بعد أميال وكيلومترات.
– أنت قادم إلى مجتمع منغلق، ويحق له لأن ما نراه من ظروف حواليه، لابد من ان يحموا جنتهم. لقد اكتشفت أن سويسرا جنة. حاول أنك تثبت نفسك، لأنه دون اثبات نفسك لن يمد لك أحد يد المساعدة.
– المهارات التي تحتاجها في عملك: اللسان وحسن التواصل، وإذا مزجنا بين طريقة عملنا في سوريا، وطريقة العمل هنا في سويسرا، نصبح مبدعين ومتميّزين.
– للإندماج في سوق العمل: الإنفتاح أهم من الخبرة، لأنه من السهل هنا تعلم ومراكبة الخبرة. ولأننا نأتي من عالم متحضر علينا ان نوظّف قيمنا في الإندماج في هذا البلد الجديد. + لابد من تجاوز شعور الضحية+ لابد من الاقدام على خوض التجربة والمخاطرة “لأن اللقمة السهلة ما طيبة”.
– “لا أحد سيأتي يأخذ بيدي ويقول لي تعالى ندمجك في المجتمع، علىّ انا أن آخذ المبادرة وافرض نفسي في هذا المجتمع”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.