“حلب. صورة من الغياب”
ماذا يبقى من مدينتك عندما تضطرّ إلى تركها؟ يجيب الكاتب والمخرج المسرحيّ محمد العطّار في مسرحيّته "حلب. صورة من الغياب" المشارِكة في مهرجان زيورخ للمسرح، على هذا السّؤال، بطريقة إبداعيّة تهتمّ بكلّ التّفاصيل وتكسر حواجز المسرح التّقليديّ وتجعل من المشاهد نفسه جزءً من العمل الفنيّ.
تمّ عرض مشاركة العطّار في دورة هذا العام لمهرجان زيورخ للمسرحرابط خارجي على مدى ثلاثة أيام بين يومي 17 و 20 أغسطس، وهو عمل من إنتاج المهرجان بالتّعاون مع “بيت ثقافات العالمرابط خارجي” في برلين، وقام ممثّلون أوروبيون بلعب أدوار المسرحيّة التي دارت الحوارات فيها باللّغة الألمانيّة، كما شارك فنّانون عرب في التّصميم والبحث والإخراج.
تنطلق المسرحيّة بمشهد مثير للدّهشة، يندر أن ترى له مثيلا في قاعة عرض.. إنه مشهد تدركه وأنت تفصيل من تفاصيله، يقف فيه المتفرجون – وليس الممثّلون – أمام خريطة مثبتة على حائطٍ خارج قاعة المسرح.. إنها خريطة مدينة حلب الواقعة في الشّمال السّوريّ حيث كلّ شيء مكتوب باللغة العربيّة، أسماء المدن والشّوارع والحارات، إلّا أنّك تلاحظ مباشرة أنّ هناك مُجسّمات عشرة أحياء بارزة فوقها بشكل يُتيح لك انتزاعها من مكانها وأخذها معك.
بالفعل تطلب المسؤولة عن تنظيم دخول المتفرجين من كلّ واحد منهم اختيار أحد هذه الأحياء ونزعه عن الخريطة وحمله معه. وبعد ذلك يُطلب من الجميع الذهاب إلى طاولة أمام مدخل قاعة العرض، تتوزع فوقها أجهزة تسجيل صوتيّة، وبحسب الحيّ الذي تحمله في يدك تحصل على المُسجّل المناسب، الجدير بالذكر هنا أن من يعطيك كلّ تلك التّعليمات، يقوم بذلك بأسلوب مسرحيّ تمثيليّ أيضاً.
داخل قاعة العرض خفيفة الإنارة، انتشرت عشرُ طاولات، وعلى كلّ واحدة منها جزء من خريطة مدينة حلب منقوش في الخشب الذي صُنعت منه، لكن ينقصه الحيّ الذي تحمله في يديك. بعد ذلك يُطلب منك البحث عن الطاولة المناسبة بحيث تكمّل الخريطة بذلك الجزء، وبينما يبحث الجميع عن طاولته تستمع من خلف الكواليس إلى صوت فتاة وهي تقصّ حكايتها عن حيّها في مدينة حلب، وتتحدّث عن نفسها وذكرياتها هناك.
إلى هذه اللحظة، لم تر الممثّلين الأصليّين بعدُ، ومع ذلك تكون قد دخلت مسبقاً في أجواء تُشعرك بالقرب من المكان المعني بالمسرحيّة، مدينة حلب، حيث تكون قد مشيت إلى المدينة ووقفت أمامها، ومن ثمّ اخترت أحد الأحياء المرسومة على خارطتها، وتكون قد ذهبت إلى أحد سكّان الحيّ ورافقته إلى بيته، وهناك تجلس معه على طاولة ويحملك في جولة في حارات حيّه وبين أبنيته، ويقصّ عليك حكايته مع هذا الحيّ وفيه.
بعد أن عثر المتفرجون العشرة على طاولاتهم وجلس كل واحد منهم إليها ووضع آلة التسجيل أمامه، يأتي الممثّل المختصّ بطاولتك، يحيّيك ويجلس أمامك ويقوم بصمت بتشغيل الجهاز، فتستمع لمدة قصيرة لشخص يتحدّث باللّغة العربيّة وباللّهجة الحلبيّة تحديدا، دون أي تدخّل من طرف الممثّل. وبعد دقيقتين أو ثلاث، يبدأ الممثّل في لعب دوره. علماً أنّه لا يُوقف آلة التسجيل بل يكتفي بتخفيف الصوت الصادر عنها، بشكل تستطيع معه الإستماع إلى اللّغة العربيّة في خلفية المشهد.
إثر ذلك، تأتي القصّة المؤثّرة لأحد أفراد هذا الحيّ، مع ذكرياته وتجاربه، عن الحيّ وسكانه وأبنيته وشوارعه وأشجاره.. قصّة تنقلك إلى الحيّ وتُطلعك على تفاصيل لا يدركها إلّا مَن عاش فيه طوال حياته، كما تكشف لك عن أسرار لا يصل إليها الزّوّار العابرون ولا السّياح، ولا تلتقطها الكاميرات، بل هي تفاصيلُ لا تمحيها حتّى الحرب القائمة هناك منذ ثمانية أعوام. لم ينته الأمر عند هذا الحدّ، حيث يضع الممثّل آلة التسجيل في يد مُشاهده (أو مشاهدته) الوحيد ويطلب منه ترك رسالة لصاحب القصّة التّي مثّلها.
بهذا الأسلوب المبتكر، يُمكن القول أن محمد العطّار كسر كلّ الحواجز القائمة في فنّ المسرح ونقله إلى مستوى آخر، يكون المتفرجون فيه ممثلين والممثّلون متفرجين، بل ينخرط الجميع في العمل الإبداعي بدءًا بالشّخصيات الحقيقية التي استندت إليها المسرحيّة، ومرورا بمنظمي المهرجان ووصولا إلى مراقبي بطاقات الدخول. بذلك نجح المخرج السوري المقيم في ألمانيا في جعل مسرحيّته نافذة بل باباً يدخل من خلاله المتفرجون إلى بيوت أحياء مدينة حلب وعقول سكّانها فتبقي تلك الأماكن حيّة حتّى بعد تدميرها أثناء المعارك العنيفة التي كانت مسرحا لها.
هكذا تسنّى للعطار أن يُجيب عن سؤال البداية! فهو يرى أن ما يبقى من مدينة ما بعد أن يُجبر المرء على تركها هي الحكايات بشتى أصنافها.. حكاياتُ وذكرياتُ تجاربه فيها، وحكاياتٌ عن ما فقده المرء من أحلام وآمال كان قد ربطها بها، وكلّ ذلك يشكل برأيه طوبوغرافيا تلك المدينة بعد مغادرتها والإضطرار للإبتعاد عنها.
لمحة عن المهرجان
في بداية الأمر، تأسّس مهرجان زيورخ للمسرح في عام 1980 كملتقى دوليّ للمسرح الحرّ، ولكن سرعان ما أصبح حدثا ثقافيا يحظى بجاذبية دولية، حيث يُعتبر اليوم واحدا من أهمّ المهرجانات الأوروبية بالنّسبة للفنون المسرحية المعاصرة.
بمرور الوقت، تميّز المهرجان بحسن التنظيم وباختيارات رفيعة الذوق وبأجواء فريدة وبجمهور غفير منفتح على العالم ومهتمّ بقضاياه، وأصبح مقصدا للكثير من الفّنانين والمبدعين من شتى أنحاء العالم.
يستمر المهرجان لمدة 18 يوماً في موقعه المعتاد في لانديفيزا “Landiwiese”رابط خارجي، وهي منطقة تشبه الحديقة تقع على ضفاف على بحيرة زيورخ وتضم داخلها ثمانية أماكن متقاربة وأبنية بأحجام مختلفة تحتضن مختلف فعاليات المهرجان، بالإضافة إلى العروض في الهواء الطلق، والمنشآت المفتوحة والمطاعم والحانات.
لا يقتصر مهرجان زيورخ للمسرح على العروض المسرحيّة بل يشتمل على فنون متنوّعة من بينها الرقص والمسرح الموسيقي والسّيرك والرّسم والفنون التّشكيلية، إضافة إلى السّجال والنّقاش. كما يحرص منظموه على تنويع برمجته لتشمل بالإضافة إلى الأعمال السّويسريّة والأوروبية مُشاركات من مختلف أنحاء العالم.
في دورة هذا العام، تمثلت المشاركة العربية بمسرحيّة المخرج السوري محمد العطّار المقيم في ألمانيا وفي عمل “The Architects” لكل من يونس عطبان ويونس بولعقول من المغرب الذي يمزج بين الرقص والموسيقى والتمثيل، إضافة إلى معرض لأعمال الفنان التشكيلي اللبناني وليد رائد.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.