رحلة إثبات الذات من منطقة الصخور الرملية إلى درّة الهضبة السويسرية
مثلما تحدّت الكهوف والمنازل البربرية بمنطقة مطماطة القديمة بجنوب شرق تونس عوامل التعرية والتحوّلات المناخية وحافظت على طابعها المعماري الذي يكشف قدرة الإنسان على التكيّف مع الظروف القاسية، نجح آدم المعرفي، أصيل تلك المنطقة، في شق طريق النجاح والحصول على لقب "المهندس" في أحد أعرق المعاهد العلمية السويسرية، والعمل بأحد أهمّ الشركات في هذا البلد. لكن الطريق إلى تحقيق ذلك لم تكن معبّدة ولم تخل من عراقيل.
قبل ثلاثة عقود، حصل آدم المعرفي على شهادة ختم الدروس الثانوية بأحد المعاهد التونسية في تخصص الرياضيات والعلوم التطبيقية، فقرّر خوض سنة تحضيرية استعدادا للإلتحاق بالمعاهد العليا للتكنولوجيا والهندسة بمدينة نابل الساحلية. لقد كان حلمه الاوّل والأخير أن يصبح مهندسا، في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية.
لكن الظروف الاجتماعية الصعبة التي واجهت هذا الشاب المتطلع إلى غد أفضل، وخيبة أمل من سبقوه من المتخرجين في الفوز بفرص عمل، وانعدام أي آفاق مشجّعة، قاداه إلى طريق الهجرة بمجرّد أن أتيحت له فرصة الإلتحاق بإيطاليا حيث سبقه إلى هناك العديد من أبناء بلدته. ومن المعروف أنه تكاد لا توجد أسرة في منطقة مطماطة التونسية لم يهاجر أحد أفرادها للعمل في إيطاليا أو فرنسا بسبب انعدام فرص العمل في أغلب المناطق الداخلية في البلاد التونسية.
تعطّش إلى العمل
يقول آدم: “عندما وصلت إلى إيطاليا، اشتعلت في قطاعات متنوعة: في البناء وفي معمل لصناعة الجلد، وفي شركة متخصصة في الطباعة على القماش، ولقد تعلمت هذه المهنة على عين المكان في إيطاليا”.
استمرّ آدم في مزاولة العمل في مجال الطباعة على القماش إلى سنة 1995. لكن اشتداد حدّة المنافسة من المصانع الهندية والصينية أدى إلى تراجع هذه الصناعة حيث “بات جزءًا كبيرا من العمل الذي كنا نقوم به مثل تصميم الأشكال، واختيار الألوان، وحتى جزءً من الطباعة يتم في الهند وفي الصين لرخص اليد العاملة. فلم يبق لنا سوى الترويج لهذه المنتجات التي تأتي جاهزة بالكامل تقريبا”، يقول آدم.
“لماذا لا أجرّب سويسرا؟”
بعد أن فقد عمله، قرر آدم، الذي كان لا يزال شابا مغامرا، مغادرة إيطاليا إلى سويسرا عملا بنصيحة من أحد أصدقائه.
يقول آدم: “كانت سويسرا تعني بالنسبة لي جنيف، ركبت القطار من ميلانو قاصدا هذه المدينة. كان ذلك في مارس 1996. وبمجرد وصولي علمت بوجود مطبعة بمنطقة كرسييه في ضواحي لوزان، عاصمة كانتون فو، وتسمى تلك الشركة Lornic S.A. ركبت القطار ذات صباح وذهبت لمقابلة المسؤولين هناك”.
هكذا، تمكّن هذا الشاب حديث العهد بسويسرا من الفوز بأوّل عقد عمل في مجال سبق أن خبره في إيطاليا. وفي شركة كانت تتعاون في مجال الطباعة والإشهار مع مهرجانات وتظاهرات ثقافية كبيرة مثل مهرجان باليو بنيون، والجاز بمونترو، واحتفالات البحيرة بإيفردون، واحتفال جني الكروم بفوفي. وتواصل عمل آدم بهذه الشركة إلى نهاية التسعينات.
في الأثناء تعرّف هذا الشاب المغترب على زوجة المستقبل، فطلب يدها من أسرتها ثم تزوّجا. فمن المعلوم أن المهاجر عندما يكون في ديار الغربة ومن دون أسرة تكون غربته مضاعفة.
سريعا أدرك المعرفي أن العمل الذي يشغله لم يكن ليفي بمتطلبات الحياة الأسرية التي يريد تأسيسها. فما هي إلا أشهر وسيحلّ ضيف جديد، وربما يليه شقيقه أو شقيقته، والحكيم من استشرف المستقبل. ومن الطبيعي أن يطمح الإنسان إلى ما هو أفضل!
مدرج الصعود الحقيقي
عندها عادت إلى آدم الرغبة في مواصلة الدراسة. فالطريق الملكي لأي عمل مستقرّ ومُجز في سويسرا يمرّ عبر التعليم والإرتقاء بالكفاءة والمهارات المهنية. وبعد التشاور مع صاحب العمل، استقر رأي المعرفي على الإشتغال في شركة الطباعة بنصف دوام وتخصيص النصف الثاني للدراسة. لكن قرار العودة إلى مقاعد الدراسة “شابه نوع من التردد بعد انقطاع عن الدراسة دام سنوات”، يقرّ المعرفي.
دروس مُستفادة
هذه بعض الدروس التي استفادها آدم المعرفي من تجربته المهنية الطويلة في العمل في السوق السويسرية:
حتى تجد شغلا في سويسرا لابد أن تكون تشتغل أصلا.
البحث عن عمل باستمرار، وعدم الإطمئنان لدوام العمل الذي تزاوله.
لابد من التوفّر على خطة عمل بديلة (Plan B) مهما كان وضعك الوظيفي.
الإستعداد المستمر للتكيّف مع المتطلبات الجديدة لسوق العمل.
التكوين المستمر ومواكبة تطورات الإختصاص الذي تزاوله.
تعلّم أكثر ما يُمكن من اللغات.
الحفاظ على تواصل مستمر مع زملاء المهنة والإختصاص، والإحاطة المستمرة بواقع المؤسسات المشتغلة في مجال التخصّص.
طرق آدم أبواب كل من جامعة لوزان، والمعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان، فهو متحصّل على شهادة ختم الدراسات الثانوية منذ بداية التسعينات، وطموحه – كما يردد – هو أن يتخرّج مهندسا في مجال علوم الإتصال. فلم لا يجرّب حظّه، خاصة وأنه تلقى ردّا إيجابيا من المعهد التقني الفدرالي بلوزان لاستكمال دراسته بشرط نجاحه في نهاية سنة دراسية تمهيدية في مادة الرياضيات.
هنا تبدأ رحلة أخرى في حياة هذا المهاجر، ومعها صنف آخر من التحديات.
منحة جامعية لا تفي بالغرض
اجتاز آدم امتحان آخر السنة الدراسية التمهيدية بنجاح مما خوّله الترسيم بالسنة الأولى شعبة وسائل الإتصال بالمعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان (EPFL)، وبدأ الدراسة بكل عزيمة واجتهاد. ولكن، بمجرّد التحاقه بالدراسة، وامتلاكه لصفة طالب، خسر آدم الحق في الشغل بسوق العمل المحلية، إلا لساعات قليلة ومحدودة على هامش برنامجه الدراسي المكثّف، فالتجأ إلى مكتب المنح بكانتون فو، حيث أسندت إليه منحة جامعية، كانت كافية لتغطية جزء من المصاريف مثل الإيجار ومعلوم التنقل. اما بقية النفقات فكان عليه تغطيتها عبر أعمال تكميلية هنا أو هناك بالإضافة إلى عمل زوجته التي كانت تشتغل برعاية أطفال بعض الأسر خلال ساعات العمل بالنهار.
من الأعمال التي كان يؤديها آدم على هامش الدراسة، والتي كانت تتطلب جهدا ووقتا كبيريْن، صيانة الحافلات التابعة لشركة النقل بمدينة لوزان بعد انتهاء جولانها في المساء وتهيئتها للعودة للخدمة في الصباح. هذا العمل كان يمتدّ لساعتيْن كل مساء من الساعة التاسعة وحتى الحادية عشر مساءً، وقد يستغرق ساعات أطول في نهاية الأسبوع.
كذلك مارس آدم بعض الاعمال الموسمية كتوزيع المطويات الإشهارية والصحف وأجهزة إلتقاط الذبذبات ( récepteurs) على البيوت، ومقار الشركات، والفنادق والمطاعم في المدن الرئيسية بسويسرا الروماندية مثل جنيف ونيوشاتيل وفريبورغ. يقول آدم: “ساعدني هذا العمل على التعرّف على مناطق نائية في سويسرا مثل لا شو دو فون، وديليمون،..”.
من الأعمال غير القارة أيضا، اشتغال هذا الطالب في أحد متاجر ميغرو في أيام الآحاد وأيام العطل الرسمية. وكان هذا العمل يتواصل إلى حدود العاشرة مساءً. وعن هذا النشاط بالذات، يقول: “سمح لي هذا العمل بالتعرّف عن قرب عن فئات سكانية مختلفة كانت تؤم المتجر”.
التوجه التدريجي نحو التخصص
مع تقدّم سنوات الدراسة وبالتحديد في تخصص نظم الإتصالات (systémes de communication)، بدأ آدم يتعرّف شيئا فشيئا عن المعلوماتية عموما وعن التكنولوجيا المرتبطة بها في الواقع إلى جانب دراستها في جوانبها النظرية: فقد كان يعرض خدماته في مجال صيانة أجهزة الكمبيوتر، والطابعات، وإصلاح ما عطب منها، وانشاء مواقع إلكترونية للراغبين، وتقديم دروس مسائية في المعلوماتية في مدارس متخصصة. كذلك اشتغل بدوام جزئي في قسم الارشفة الإلكترونية بالمعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان حيث كان يدرس.
يقول آدم: “فضلا عما كنت أحصل عليه من مقابل عن هذه الخدمات، سمحت لي هذه الأعمال بممارسة المعلوماتية والتعرّف عن تقنياتها ميدانيا. فتعلمت كيفية التشبيك معلوماتيا بين عدة خوادم حاسوبية، وكيف يمكن تصميم مواقع إلكترونية لهذه الشركة أو تلك، .. وكانت هذه الأعمال بمثابة الدروس التطبيقية لما كنت أتلقنه نظريا في المعهد التقني بلوزان”.
لكن ما سرّ هذه القدرة على التوفيق بين متطلبات الدراسة ضمن اختصاص معقّد وفي مؤسسة تعليمية تصنّف ضمن أفضل المؤسسات التعليمية في العالم، وجميع هذه الأعمال الجانبية؟
الجواب بالنسبة لهذا المهاجر العربي، الذي سنلقبه بـ “المهندس” منذ الآن هو الآتي: “يتعلّق الأمر بالنسبة لي بحلم كان يراودني منذ مراحل تعليمي الاولى. كنت شديد الإعجاب بموضوع الاتصالات السلكية واللاسلكية على السواء. ومنذ أن رأيت لأوّل مرة شاشة حاسوب، ظلت الكثير من الأسئلة تشغلني. ومن ذلك الفرق بين الحاسوب والتلفزيون والراديو والهاتف؟ إلى درجة أن تملكني طموح في أن أصبح يوما ما مهندسا متخصصا في تكنولوجيا الاتصالات”. هذا هو الدافع الأوّل.
أما الدافع الثاني، يضيف المهندس: “هو ما توفّره سويسرا من إمكانات لا يمكن حصرها لمن أراد النجاح من مؤسسات تعليمية متخصصة، ومنح جامعية، ومناهج دراسية ومكتبات..”، أما “الأهم من كل ذلك فهو تشجيع زوجتي لي من أجل إكمال الدراسة”، يقول آدم.
2006 .. انفتاح آفاق جديدة
بعد تخرجه وحصوله على الماجستير في الهندسة في تخصص نظم الإتصالات من المعهد التقني الفدرالي العالي بلوزان، أصبحت فرص العمل المتاحة أكثر وفرة واستقرارا. واستفادة من بحث التخرّج الذي كان عبارة عن تطوير برنامج معلوماتي logiciel في مجال المعاملات المالية عبر الإنترنت ضمن شركة مختصة مقرّها بجنيف، نجح المهندس آدم في التعاقد معها واستمر في العمل مع هذا المصرف عدة أشهر.
لاحقا، انخرط آدم في عمل جديد وهذه المرة مع شركة Orange للاتصالات التي كانت تابعة آنذاك لشركة الاتصالات الفرنسية حيث كان يشغل فيها خطة رئيس فريق من المهندسين المتخصصين في أنظمة المعلوماتية والإتصالات من 2007 إلى 2013، وهي السنة التي تحوّلت فيها ملكية هذه الشركة من أياد فرنسية إلى أخرى بريطانية. وغادرآدم هذه الشركة بعد أن قرّر الملاك الجدد إلغاء أقسام بأكملها من الشركة وتكليف شركات مناولة بإنجاز خدماتها. وغيّرت هذه الشركة لاحقا إسمها لتصبح شركة Salt للإتصالات، كما هو حالها اليوم.
لم تستمر بطالته طويلا، حيث تعاقد آدم من جديد مع مصرف خاص في جنيف هو “الإتحاد المصرفي الخاص” (Union bancaire privée (UBP SA، وذلك لمدة سنة من أجل تطوير الشبكة الإلكترونية الخاصة به، وبالتحديد أنظمة الحماية والأنظمة المصرفية الإلكترونية ونظام الدفوعات. لم يغادر آدم هذا العمل إلا بعد أن أنجز مهمته على أكمل وجه.
أحسّ آدم بأن الوقت قد حان للرجوع إلى جوهر تخصصه، خاصة بعد امتلاكه لتجربة مهنية ثرية وطويلة نسبيا. فقرّر التقدّم بطلب عمل إلى شركة الإتصالات السويسرية المعروفة “سويسكوم”، والتي ردّت بالإيجاب عن طلبه بعد أسبوعيْن فقط. وابتداءً من شهر فبراير 2015، أصبح آدم موظفا قارا في شركة سويسكوم بالعاصمة الفدرالية، برن.
اليوم يشتغل آدم في مجال تخصصه الذي هو الإتصالات، وبالتحديد في تطوير (بما في ذلك الإنشاء والتجميع والاختبار) الأنظمة الإلكترونية التي يستخدمها قسم استخلاص مستحقات الشركة مقابل الخدمات التي توفرها للمشتركين عبر شبكتها، ويعينه في ذلك فريق من المهندسين المتخصصين.
عموما، ما يشدّ آدم إلى ميدان الاتصالات ويشجعه على مواصلة العمل في هذا المجال هو أنه – فضلا عن كونه الإختصاص التي كان يحلم به منذ مراحل تعليمه الأولى – ميدان “يُمكّنه في كل يوم من التعرّف عن أشياء جديدة، ويضعه في كل حين أمام تحدّ لم يعتده من قبل”، كما يقول مهندس الإتصالات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.