هكذا يٌنظر إلى سويسرا: “بلد أوروبيّ، لكنّه مستقل بذاته”
منذ فرض العقوبات على روسيا يذهب الظن بالبعض في الخارج بأنَّ سويسرا تخلّت عن حيادها، فهل يُعبّر ذلك عن سوء فهم؟ حول هذا الموضوع سألنا "باسكال بيريسفيل"، رئيسة البعثة السويسرية الدائمة في الأمم المتحدة.
swissinfo.chSWI: في الخارج، فُهم القرار المتمثل في تبني حزمة العقوبات الاوروبية ضد روسيا بأنه تخلٍّ من سويسرا عن حيادها. هل هو سوء فهم توجّب عليكِ إيضاحه في الأيام الماضية؟
باسكال بيريسفيل: من الطبيعي أن سياسة الحياد السويسرية لا تحظى بمعرفة كبيرة لدى العموم. وباستمرار يتوجب علينا أن نوضح هذه الحيادية التي تختلف، على سبيل المثال، عن حيادية الصليب الأحمر الدولي. هذا جزءٌ من عملنا اليومي. لكنْ نعم، في السياق الدولي الراهن الذي يشهد توتّرًا نحتاج للقيام بذلك أكثر من ذي قبل.
swissinfo.ch: لكنه من الواضح أن الخارج لم يعد يَنظر إلى سويسرا كمحايدة. روسيا وضعتها على قائمة الدول غير الصديقة. ذلك بالتأكيد مبعثُ قلقٍ وحذر بالنسبة لكِ، حيث سياسة الحياد الطوعية تهدف في النهاية إلى أن تُصدَّق سويسرا في حيادها.
باسكال بيريسفيل: لم يتغير شيء في علاقة بحياد سويسرا، وأنا لا أستطيع القبول الآن بأنه لم نَعد نُعتَبر محايدين. هنا في الأمم المتحدة في نيويورك، كانت ردود الفعل إيجابية بشكل خاص على موقف سويسرا من هذا الخرق الكبير للغاية لمبدأ حظر استخدام القوة المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.
ردود الأفعال هذه ليست من لدن الدول الغربية فقط؛ لذا فإنني واثقة بأنه سيستمر النظر إلى سويسرا كبانِية جسور محايدة وتحظى بالثقة من المجتمع الدولي. ونحن نعمل من أجل ذلك كل يوم.
swissinfo.ch: عندما تتجه سويسرا بقوة -كما هو الأمر في حال العقوبات- طبقا لبوصلة الاتحاد الأوروبي، ألا يُنظر إليها دوليًّا باعتبارها “عضوًا خفيفًا” في الاتحاد وليست جهةً محايدة؟
باسكال بيريسفيل: جغرافيًّا وثقافيًّا، وقيميا، تقع سويسرا في قلب أوروبّا وتتبنى منذ أكثر من عشرين عامًا نظام العقوبات الأوروبي. هنا أيضًا، في الأمم المتحدة، هي رسميًّا جزءٌ من المجموعة الأوروبية، لكنها لا تشارك في البيانات المشتركة للاتحاد الأوروبي، وتطرح نفسها غالبًا كبانية جسور؛ في بعض الأحيان أيضًا بين الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول النامية.
بهذا التميّز، أي أن نكون أوروبيين متضامنين، ولكن مستقلين، يُنظر إلينا هنا أيضًا في الغالب، وكثيرًا ما يكون ذلك ميزةً رابحة، لكن في المقابل يكون لنا في بعض الأحيان وزنٌ أقل من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
swissinfo.ch: هل ما زال البقاء خارج الاتحاد الأوروبي ورقة رابحة أساسًا في المساعي الحميدة، بالمقارنة مع “عواصم منافِسة” أخرى مثل فيينا، وهلسنكي، وستوكهولم؟
باسكال بيريسفيل: حاليًّا يوجد الكثير من مناطق الصراع الساخنة في العالم، إلى درجةٍ تتطلب مشاركة الجميع. العلاقات التنافسية لا تنفع. في الغالب، وفي سياقٍ معين، تُناسب صورة وسيطٍ ما أفضل من صورة وسيطٍ آخر. وفي أغلب الأحيان يتم الجمع بين مساعي وساطات مختلفة. على سبيل المثال تستخدم دولةٌ ما خبراتها في اتفاقات وقف اطلاق النار، بينما تساعدُ أخرى في إجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
كَوْن النرويج وسويسرا بلديْن ليسا عضوين في الاتحاد الأوروبي، فإن ذلك يجعلهما غالبًا -وليس دائمًا- عنوانًا مرغوبًا للوساطة. ومما تنفرد به سويسرا مثلا هو وجود المقر الأوروبي للأمم المتحدة في “جنيف الدولية” بما يتبع ذلك من اختصاصات انسانية و امكانيات متعددة.
swissinfo.ch: في الخارج يُنظر إلى حياد سويسرا على أنه مجرد ورقة التين التي تستر مصالحها الاقتصادية الخاصة. كيف يمكن لسويسرا هنا أن تجعل من دورها مفيدًا وفاعلًا؟
باسكال بيريسفيل: مثل بقية الدول، تواجه سويسرا دائمًا خطرًا على سمعتها عندما لا تتقيد الجهات السويسرية الفاعلة -اقتصادية أو غير اقتصادية- بالقواعد القانونية. هنا في الأمم المتحدة لا يُنظر إلى الحياد السويسري على أنه ورقة تين، بل العكس، فإننا نتمتع بمصداقية عالية.
swissinfo.ch: ولكن بعد اللجوء إلى العقوبات هل ما زالت سويسرا منخرطة في السباق كوسيط في حرب أوكرانيا؟
باسكال بيريسفيل: لأسبابٍ مفهومة لا أستطيع أن أقول شيئًا محدّدًا في هذا الصدد. المهم أن تتوقف الحرب بالسرعة الممكنة لأن العواقب بالنسبة لأوكرانيا وشعبها، وللمنطقة والعالم ستكون مفجعة. مَن يستطيع المساهمة في إنهاء الحرب فهو مرحبٌ به كوسيط.
swissinfo.ch: بعد نجاح الوساطة في نيبال وموزامبيق وغيرها من المناطق النائية، يتولد الانطباع بأن سويسرا تبحث الآن جاهدةً عن أول وساطة دولية مهمة. هل يتعلق الأمر بالمكانَة والاعتبار؟
باسكال بيريسفيل: المساعي الحميدة لسويسرا تتكون من ثلاثة أشياء: دولة مُضيفة، وتمثيل ورعاية مصالح، والتوسط العملي. كدولة مُضيفة استضفنا مؤخّرًا العديد من مؤتمرات الأمم المتحدة. حول سوريا مثلًا. منذ عقود نؤدي أيضًا خدمات رعاية مصالح ذات قيمة اعتبارية عالية، على سبيل المثال لصالح روسيا والولايات المتحدة. ما يمكن قوله فيما يتعلق بالوساطة السويسرية هو أن امرأة سويسرية هي “هايدي تاجليافيني”، اشتركت بالتفاوض حول اتفاق مينسك وأن رجلًا سويسريًّا هو “توني فْرِش” كان يتوسط لسنواتٍ طويلة في تبادل الأسرى بين الحكومة الأوكرانية والإنفصاليين الموالين لروسيا. بذلك جرى التمكّن ربما من إنقاذ الكثير من أوراح الناس. في نيبال وموزامبيق تنشط سويسرا منذ ستينيات القرن الماضي كشريكٍ في التعاون الإنمائي. لذلك فإن من مصلحتنا أيضًا أن لا تغرق هذه البلدان مرةً أخرى في صراعاتٍ دموية.
باختصار، نحنٌ فخورون حقًّا بمساعينا الحميدة. الأمر لا يتعلق كثيرًا بالمكانة بقدر ما يتعلق بمساهمتنا التضامنية في المجتمع العالمي. ذلك يخلق لنا رصيدًا نحتاجه كبلدٍ يعتمد على نظامٍ يقوم على القانون، وهو ما يقع ضمن اهتماماتنا الخاصة التي تعود إلى الجذور.
swissinfo.ch: السويد سلمت أسلحةً لأوكرانيا وغادرت بذلك حيادها بشكلٍ نهائي. ألمانيا أيضًا أعلنت عن تغيير النمط في سياستها الخارجية، وتقوم بتسليح نفسها. هل نحتاج في سويسرا أيضًا إلى تعديل المسار؟
باسكال بيريسفيل: السويد كانت قد قررت في العام 2009 التخلي عن الحياد، ومنذ ذلك الحين تصف نفسها كدولة “غير حليفة”. ذلك يرتبط بموقعها الجغرافي المكشوف بشكلٍ كبير. وضعها المهدَّد مع روسيا يرتسم منذ سنواتٍ طويلة، وإن كنّا جميعًا نأمل أن لا تظهرَ عدوانيةٌ بهذا المستوى أبدًا. على سويسرا أن تكون مستعدّةً للأزمات، ذلك ما أظهرته الجائحة أيضًا، لكنّني لا أرى الآن سببًا لتغيير منطلقات سياستنا الخارجية المجرَّبَة.
swissinfo.ch: ولكن كيف ستبدو حيادية سويسرا مستقبلًا؟
باسكال بيريسفيل: مبدئيًّا لن يتغير شيء في حياد سويسرا. منذ ضم شبه جريرة القرم قبل ثماني سنوات تم تطبيق قاعدة الحياد في السياق الروسي-الأوكراني. سياسة حياد أكثر مرونة، ولذلك فإنها أيضًا تُفسَّر بشكلٍ مختلف. لدى الشعب السويسري، يحتل بُعد التضامن في مفهوم سياسة الحياد مساحة كبيرة ويحظى بمستوى عال من درجات المقبولية. هذا التقليد الإنساني المتجذر برهن عليه الشعب السويسري مرة أخرى في الأيام الأخيرة. بالنسبة للبعض الآخر فإن بُعد التحفظ السويسري مركزي في صياغة سياسة الحياد عندما يتعلق الأمر بالصراعات الأجنبية. نحن نحاول أن نضع هذا البعد في اعتبارنا أيضًا؛ وذلك بأن نكون من أولئك العاملين والعاملات خلف الكواليس بصمت للتوصل إلى حلول وسط. لكنَّ سويسرا ليست محايدة في مواجهة خرق القانون الدولي. نحن نشير إلى ذلك دائمًا.
كدولةٍ صغيرة تنتمي إلى الدول الأكثر عولمة، فإن احترام القواعد الدولية بالنسبة لنا ببساطة مسألةٌ وجودية، وذلك من النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية. طالما بقينا متماسكين فسنكون موضع تصديق. سياسة الحياد هي في آخر الأمر مسألة مصداقية.
swissinfo.ch: يجري الحديث عن نقطة تحول وحرب باردة جديدة محتملة. الدول الغربية ستتقارب وتصطف مع بعضها. أين ستتموضع سويسرا؟
باسكال بيريسفيل: كمؤرّخة أعتقد بأن المراحل التاريخية لا يُمكن إدراكها فعليًّا إلا من مسافاتٍ محددة. التاريخ في حركةٍ دائمة. إنه يتكون على الأكثر، وفق ما أرى، من حركات وليس من وقفاتٍ مقطعيّة، حتى وإن كان على المرء أن يكون مستعدًّا على الدوام للرد سريعًا على أحداثٍ معينة كالحروب والكوارث.
من خلال عملنا الدبلوماسي، يجب أن نحاول توجيه هذه الحركة وفقًا لمصالحنا وقيمنا. ما يهم المجتمع الدولي على المدى الطويل هو: تعزيز الثقة مجدّدًا، وتسوية الاختلافات الكبيرة، والتصدي للمعلومات المضللة، وإعادة تشكيل أنظمة الأمن، وقبل كل شيء بلوغ أهداف التنمية المستدامة.
ذات مرة، عندما كنت أُشير إلى المخاطر الكبيرة التي تهدد عالمنا، أطلق عليَّ أحد الصحفيين اسم “كاساندرا”، وهو ما أزعجني في حينه، حيث الأمر هنا لا يتعلق بالاسطورة الإغريقية. عوامل الخطورة التي تتجسد الآن موجودة منذ أكثر من عشر سنوات في التقرير السنوي عن المخاطر العالمية الذي يصدره منتدى دافوس الاقتصادي العالمي. من المهم أن نأخذ هذه المخاطر بجدية كبيرة، وإلّا فلن نترك لأطفالنا مستقبلًا آمنا.
ليت المجتمع الدولي يتقارب من جديد بفعل الأزمات الشديدة الحالية: الجائحة، والحروب، والمجاعة؛ كي نتمكن هنا في الأمم المتحدة من التغلب على التحديات العالمية. وفي ذلك يكمن أملي.
ولدت باسكال بيريسفيل في برن سنة 1968. درست الحقوق والتاريخ والأدب الفرنسي واللغويات في بازل وجنيف وباريس وختمت دراستها بإجازة في القانون وأخرى في فقه اللغة. التحقت بالعمل الدبلوماسي عام 2000 بعد أن عملت باحثةً في مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية وقاضيةً في محكمة بازل المدنية.
بعدَ مهماتٍ خارجية في فيتنام وبروكسل ونيويورك عادت في عام 2013 لتكون نائبةً لرئاسة دائرة القانون الدولي في سويسرا. في عام 2016 عينتها الحكومة السويسرية أمينة دولة في وزارة الخارجية، ومديرةً للدائرة السياسية فيها، وفي عام 2019 عينتها رئيسةً للبعثة السويسرية الدائمة في الأمم المتحدة، وهي تمارس هذه الوظيفة منذ عام 2020.
المصدر: وزارة الخارجية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.