“الأجر الأدنى”.. مبدأ يتفاوت تأثيره بحسب القطاعات والمناطق
تشقّ فكرة اعتماد الأجر الأدنى طريقها في سويسرا. مع ذلك يظل هذا الإجراء مثيرا للجدل، والدراسات الدولية لا تسمح برؤية المسالة بأكثر وضوح. إيف فلوكيغر، مدير المرصد الدولي للتشغيل بجنيف يسلط الضوء على هذا الموضوع.
سوف يدعى البرلمان لمناقشة هذا الموضوع في المستقبل القريب، ومن المنتظر أن يدلي الناخبون السويسريون برأيهم بهذا الشأن خلال السنة المقبلة. ولكن المبادرة الشعبية “من أجل أجور عادلة” / “مبادرة الأجر الأدنى” بدأت من الآن تثير جدلا واسعا.
المبادرة تنص على أنه لا يجب أن تنقص الأجور القانونية عن 22 فرنك سويسري في الساعة. ومن شأن خطوة كهذه أن تعادل راتبا شهريا بقيمة 4.000 فرنك في الشهر بالنسبة للدوام الكامل. ويجب أن “تحدد قيمة هذا الأجر بانتظام بناءً على تطوّر الأجور والأسعار وألاّ يكون ذلك التطوّر ادنى من مؤشّر التأمين ضد الشيخوخة او معاشات الباقين على قيد الحياة”.
وعلاوة على ذلك، وافق المواطنون في كانتونيْ الجورا ونوشاتيل أخيرا، على اعتماد مبدأ الأجر الأدنى القانوني (أنظر الإطار المرفق)، في حين يظل الموضوع عالقا في كانتونيْن أخريْين.
swissinfo.ch: ما هي الاسباب التي أدّت إلى المطالبة باعتماد إجراء الأجر الأدنى في سويسرا؟
إيف فلوكيغر: أرى أن هناك سببيْن أساسيْين: من جهة الخوف من ظاهرة إغراق الأجور ذات العلاقة بالإتفاقيات الثنائية بين سويسرا والإتحاد الأوروبي، ومن جهة اخرى، الرواتب العالية والمبالغ فيها، الممنوحة لبعض كبار الموظّفين في العديد من الشركات والمؤسسات العامة.
وعلى الرغم من اعتقادي بأن حرية تنقّل الأشخاص لم تؤدّ إلى إغراق الأجور في سويسرا، فإن القضية لا تزال مثار جدل وتستخدم كأداة تبرير وتحليل من طرف السياسيين. أما في ما يتعلّق بالجدل الدائر حول “الرواتب المبالغ فيها” الممنوحة للموظفين الكبار، فإن طرح هذا الموضوع يقود مباشرة إلى الحديث عن الرواتب الدنيا.
نائب رئيس جامعة جنيف، ومدير المرصد الجامعي في مجال التشغيل ويدرّس اقتصاديات العمل، والنظم الصناعية، والمالية العامة بقسم العلوم الإقتصادية.
هو ايضا عضو مشارك في مركز الاخطار، والسياسات الاقتصادية، والتشغيل المشترك بجامعة كيباك بمونتريال.
خلال حياته المهنية، كان زميل أبحاث في جامعة هارفارد وأكسفورد، وايضا استاذا زائرا بجامعة فريبورغ ولوزان (سويسرا)، وديكن (أستراليا).
هناك عدد لا يحصى من الدراسات على المستوى الدولي، حول التأثيرات الممكنة لاعتماد مبدأ الأجر الأدنى، لكن النتائج التي كشفت عنها تلك الدراسات متضاربة. كيف يمكن التأكّد من موثوقيتها؟
إيف فلوكيغر: ليست النتائج هي التي تتعارض في ما بين بعضها البعض، ولكن هذه الدراسات أنجزت في سياقات وطنية مختلفة، وفي نفس الوقت أوضاع أسواق العمل ومعدّلات الأجر الأدنى مختلفة أيضا اختلافا كبيرا. وعلاوة على ذلك، يشمل الأجر الأدنى في بعض الأحيان، فقط السكان المنخرطين في سوق العمل منذ سن العشرين عاما، وفي أحيان أخرى، يشمل كل الفئات السكانية.
توصّلت الدراسات التي أشرفت على انجازها منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OCDE) حتى أواخر الثمانينات، إلى نتيجة تفيد عموما بأن اعتماد مبدأ الاجر الأدنى له تأثير سلبي. في المقابل أثبتت دراسات أخرى أنجزت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن إجراء الأجر الأدنى له تأثير إيجابي على مستوى خلق فرص للعمل، والحد من البطالة.
وتعترف منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية حاليا بأن إجراء الأجر الأدنى يمكن أن يمثّل أيضا حافزا للعودة إلى النشاط الوظيفي: فهو يضمن في النهاية بأن يصبح العمل أكثر جاذبية من تدابير المساعدات الإجتماعية، او منح البطالة، خاصة بالنسبة للعائلات ذات المعيل الواحد.
هل يمكن الإستفادة من بعض الدراسات التي أنجزت في بلدان أخرى للتنبؤ بالتأثيرات التي سيحدثها اعتماد الأجر الأدنى (4.000 فرنك شهريا) في سويسرا؟
إيف فلوكيغر: من الصعب جدا القيام بهذا النوع من المقارنات على المستوى الدولي. إنها مسألة معقّدة للغاية، ومن غير الممكن الاطمئنان فيها إلى إجابة بسيطة. ومثلما سبق أن بيّنت كل حالة تختلف عن الاخرى، وكذلك الامر بالنسبة لإنعكاسات أي تدبير قد يؤخد هنا او هناك. من الممكن قياس هذا التاثير على مستوى عدد الأشخاص الذين سيتأثرون، أو حجم التكلفة التي ستنجرّ عنه بالنسبة للشركات. لكن الأمر سوف يكون اكثر صعوبة عندما يتعلّق الامر بقياس هذا التأثير على مستوى سوق العمل.
ما يمكننا الجزم به هو أنه، وعلى مستوى المقارنة الدولية، الأجر الادنى الذي تنص عليه المبادرة يعتبر راتبا عاليا إلى حد ما. وهو يصل في الواقع إلى 4000 فرنك في حين أن متوسط الرواتب في سويسرا هو 6000 فرنك، أي أن الراتب الأدنى الذي يطالب به مؤيدو المبادرة يمثّل نسبة الثلثيْن منه.
لابدّ من الإشارة أيضا إلى التفاوت الكبير الذي يوجد بين الاجور بحسب المناطق المختلفة داخل سويسرا. فإذا كان متوسّط الأجور في التيتشينو يقع عند 5400 فرنك، فإنه يكون عند 6500 فرنك في زيورخ. ولذلك ضبط الأجر الأدنى عند 4.000 فرنك يكون له تأثير اكبر في التيتشينو مقارنة بزيورخ.
ويحدث نفس الشيء أيضا بالنسبة للقطاعات الإقتصادية المختلفة. بالنسبة لقطاع يوجد فيه متوسّط الأجور عند مستوى 4.000 فرنك او اقلّ، فإن اتخاذ إجراء مثل هذا من شانه أن يؤدي إلى الزيادة في رواتب نصف العاملين في ذلك القطاع. ولذلك التأثير في هذه المجالات يكون مهمّا، ويمكن أن يسبب مشكلة في مجال التشغيل. سيكون هذا هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لقطاع الخدمات، الذي يكون فيه متوسّط الاجور عند مستوى 3.500 فرنك، أو قطاع الفنادق –المطاعم، حيث بالكاد يصل متوسّط الاجور على 4100 فرنك.
ترفيع الأجر الأدنى للساعة من 7.25 إلى 9 دولارات هو أحد النقاط الرئيسية لأجندة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في دورته الرئاسية الثانية التي تمتدّ لأربع سنوات. هذا المبلغ يمثّل 40% من الأجر المتوسط.
إذا ما طبقنا هذا المقياس في سويسرا، فإن هذا يعنى أن الأجر الأدنى سيكون حوالي 2.400 فرنك في الشهر. ولكن من المستحيل المقارنة بين البلديْن، وذلك لان وضعهما يختلف كثيرا بحسب إيف فلوكيغر.
بالإضافة إلى ذلك، يستخدم الاجر الأدنى في الولايات المتحدة كأداة لقياس السياسة الاقتصادية الكلية: هذه السياسة تهدف إلى دعم القوة الشرائية للفئات الضعيفة والأكثر حرمان، بحيث تؤدي الزيادة في الأجور إلى تعزيز الإستهلاك المحلي.
هل يمكن أن يكون نموج الأجر الأدنى قطاعيا المعتمد في كانتون الجورا حلا مناسبا لسويسرا عموما؟
إيف فلوكيغر: نعم، ولكن من التحديات الجسام على المستوى الوطني هو اعتماد مستوى واحد من الأجر الأدنى في مناطق تختلف في ما بينها اختلافا كبيرا على مستوى تكلفة المعيشة. والمبادرة التي أقرّها الناخبون في كانتون الجورا هي اكثر ملائمة للتنوّع القطاعي والمناطقي وكذلك لتنظيم سوق العمل وعقود العمل الجماعية (CCT) .
لا يجب ان ننسى أنه يوجد في سويسرا ايضا الأجر الأدنى، ولكن هذه الأجور محددة داخل إطار اتفاقيات العمل الجماعية، وهي تختلف من قطاع إلى آخر، ومن منطقة جغرافية إلى اخرى. سيكون من الأجدى اعتماد مبدأ الأجر الأدنى في جميع اتفاقيات العمل الجماعية، وتوسيع دائرة ونطاق هذه الاتفاقيات. وجزء من هذه الأهداف قد تحقق فعلا من خلال اجراءات المرافقة المصاحبة لاتفاقيات التنقّل الحر للأشخاص، ولكن يجب الذهاب بعيدا في هذا الإتجاه.
اعتماد مبدأ الأجر الأدنى هل يمكن أن يضعف السلم الاجتماعي، واتفاقيات العمل الجماعية؟
إيف فلوكيغر: لا أعتقد ذلك. تنظم اتفاقيات العمل الجماعية العديد من القضايا التي تخص العمل وليس فقط الرواتب والأجور. وعلاوة على ذلك، البعض لا يذكرونها بالمرة. وأظنّ ان نجاح سويسرا في الصمود خلال الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي يمرّ بها العالم، يعود في جزء كبير منه إلى طبيعة النظام المتحكّم في سوق الشغل في هذا البلد، وهو نظام قائم على مفاوضات بين الاطراف الإجتماعية بشكل لامركزي. وقد سمح ذلك بإيجاد حلول مناسبة لكل حالة بمفردها. وهكذا يظل الحوار الإجتماعي مهمّا للغاية.
“الأجور اللائقة” ، موضوع كان محور الجدل السياسي في السنوات الأخيرة في سويسرا. وكان تفجّر فضيحة “الرواتب المبالغ فيها” الممنوحة إلى كبار الموظفين في المؤسسات الخاصة والعامة مصدر هذا الجدل المستمر. هذا الجدل أدى إلى اطلاق مبادرتيْن شعبيتيْن للحد من هذه الاجور الخيالية.
المبادرة الأولي “ضد الرواتب التعسّفية” وقد بادر بإطلاقها رجل الاعمال المنحدر من شيفهاوزن، توماس ميندار، وقد صوّت لصالحها 68% من الناخبين السويسريين في 3 مارس من العام الجاري. اما المبادرة الثانية “1:12- من أجل رواتب عادلة”، وقد بادر بإطلاقها شبان الحزب الإشتراكي، وسوف تعرض على الناخبين على الأرجح في نهاية العام الحالي.
علاوة على ذلك، أدى النقاش حول الاجور الدنيا إلى إطلاق مبادرة شعبية ثالثة “من اجل ضمان اجور عادلة/ مبادرة حول الأجر الأدنى” على المستوى الفدرالي من طرف اتحاد النقابات السويسرية.
أطلقت مبادرات أخرى من أجل اعتماد “الأجر الادنى”، ولكن على المستوى الكانتوني. وأغلب تلك المبادرات كانت في المناطق الناطقة بالفرنسية، التي تعاني أكثر من البطالة والأزمة الإقتصادية مقارنة بالكانونات الألمانية.
بحلول نهاية هذا العام، سوف يقرّر الناخبون في كانتون فالي اعتماد إجراء الأجر الادنى الذي حدّد ب3.500 فرنك ام لا، وهذا في الوقت الذي أطلق فيه أخيرا حزب الخضر في كانتون تيتشينو مبادرة شبيهة بالنص الذي عرض على الناخبين في كانتون الجورا.
(نقله إلى العربية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.