“المهارات التعليمية التي يجب أن نوليها أهمية في المستقبل”
تزخر الجامعات السويسرية بالخبراء والمدرّسين من العرب والمهاجرين عموما، لكن صفوة منهم تفتح لهم المعاهد التقنية والعلمية العليا أبوابها، وتوفّر لهم كل الإمكانات المطلوبة للمضي قدما في أبحاثهم المتقدّمة. ومن هؤلاء البروفسور البريطاني من أصل عراقي، جبوري غزول.
ومهنيا، البروفسور غزول، أستاذ بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ منذ عام 2005، ويرأس في نفس الوقت كرسي برينهارد الدولي في مجال الحفاظ على الطبيعة بجامعة أوتريخت بهولندا. وسبق أن عمل بمعهد إمبريال كوليج بلندن. وأما من حيث التخصص، فهو عالم بيئة في مجال النباتات والغابات، ومتخصص على وجه الخصوص في المناطق الطبيعية الاستوائية. ويهتم في بحوثه بقضايا عديدة مثل انتاج زيت النخيل في إندونيسيا، والزراعة الحرجية للقهوة في الهند. وتكون أعماله الأكاديمية في أغلب الأحيان عابرة للتخصصات، وتشتمل في آن واحد على العلوم الاجتماعية وعلوم البيئة.
swissinfo.ch إلتقطت البروفسور جبوري غزول، وسألته عن انشغالاته العلمية، ومسيرته المهنية، وعن رأيه في النظام التعليمي في سويسرا. وفي ما يلي نص الحوار معه:
swissinfo.ch: في أي ظروف غادرت العراق إلى بريطانيا؟
البروفسور جبوري غزول: غادرت العراق في عام 1980. وقبلها بسنة تولّى صدام حسين السلطة في العراق بعد إطاحته بسلفه أحمد حسن البكر. رغم ذلك لم تكن مغادرتنا لبلاد الرافدين لأسباب سياسية، بل لحصول أبي على وظيفة بجامعة مانشستر، وأظنّ أن ما رجّح لديه خيار السفر إلى خارج العراق هو ضمان تعليم متطوّر ومتقدم لأبنائه، وتحسين فرصهم في المستقبل واتقانهم اللغة الإنجليزية، لكنه لم ينقطع عن الحلم بالعودة إلى العراق، وهو ما لم يحدث بسبب اندلاع الحرب مع إيران في البداية، ثم غزو الكويت ثانيا، ومن ثم الحرب والإحتلال الأمريكي عام 2003، فضلا عما مرت به منطقة الشرق الأوسط من أزمات جعلتها تنتقل على الدوام من سيء إلى أسوأ.
swissinfo.ch: من أيْن كانت الإنطلاقة؟ وكيف تولّد لديكم هذا الاهتمام بالبيئة والطبيعة؟
البروفسور جبوري غزول: بدأ اهتمامي بظواهر البيئة والطبيعة عموما عندما كنت طفلا في مقتبل العمر. وكنت محظوظا إذ أنّني نميت وترعرعت في العراق. وقد قضيت الكثير من طفولتي في أحضان الطبيعة: في الصحراء والجبال، وعلى ضفاف الأنهار، وتحت ظلال الغابات التي تحيط بتلك الأنهار. ولقد لفتت انتباهي منذ البداية المناظر الطبيعية، وشغلت تفكيري. ومنذ زمن مبكّر، كنت أعلم أنني سأكون بيولوجيا في نهاية مشواري الدراسي. ولم يتزحزح تفكيري قيد أنملة عن ذلك مع مرور السنين.
عندما غادرت العراق إلى بريطانيا رفقة أسرتي وكان عمري 13 عاما، واصلت الدراسة إلى حين حصولي على البكالوريوس في علوم البحار والبيولوجيا في جامعة سانت اندروز بأسكتلندا. وبعد حصولي على الدكتوراه، التحقت بالعمل الميداني في فيتنام أوّلا، ثم في تايلند لاحقا. ولقد أسعفني الحظ حيث حصلت لاحقا على عمل في متحف التاريخ الطبيعي بلندن. ومنذ ذلك الحين، وأنا أواصل العمل الأكاديمي في المجال البيئي.
الآن عندما تعود بي الذاكرة أجد أن الكثير من الأشياء قد أثّرت في اختياراتي وتوجهاتي العلمية منذ البداية. وأظن أيضا أن والديّ كانا على وعي باهتمامي بعلم البيولوجيا. وأذكر أنهما اشتريا لي مرة موسوعة التاريخ الطبيعي، موثقة بالنصوص والصور، ولم تغادرني هذه الموسوعة لسنوات طويلة.
swissinfo.ch: كيف تطوّر هذا التخصص لديك مع الزمن؟
البروفسور جبوري غزول: اهتماماتي لم تكن حالة ثابتة. فأطروحة الدكتوراه كانت في مجال الإيكولوجيا التطوّرية، وبالتحديد في مجال علم الغابات المطيرة، وبالتزامن كنت أقوم بأعمال أخرى في مجال بيولوجيا التلقيح، وربما لو سألتني قبل خمسة عشر عاما، لأجبتك بأني خبير في مجال الإيكولوجيا التناسلية للنباتات، واليوم أتجه أكثر للتخصص في إدارة المساحات الطبيعية وانعكاسات ذلك على الغطاء النباتي والتنوّع البيولوجي. والسبب وراء هذه النقلات المتكررة هو أن الأشياء تتغيّر وتتطوّر بطبعها.
swissinfo.ch: لماذا هذا النوع من التخصصات مهمّ لحياتنا نحن البشر؟
البروفسور جبوري غزول: أوّلا لابد أن نكون قادرين على تحسين الإنتاج الزراعي بسبب التزايد السريع لعدد السكان على كوكب الأرض، ثم إن تزايد الثروة أدى إلى تزايد الإقبال على هذه المنتجات وعلى استهلاكها، ثم هناك مخاطر في ألاّ نكون قادرين على انتاج ما يكفي من الغذاء في المستقبل. إذن هناك حاجة إلى تطوير النظام الزراعي لكي يستجيب للطلبات المتزايدة. لكن مضاعفة الإنتاج الغذائي يؤثّر على البيئة بسبب اللجوء إلى المخصبات والمبيدات، وكذلك تدمير الغابات لتحويلها إلى مساحات قابلة للزراعة، أو إزالة الأحراش وما يستتبع عنها من تدمير لموائل طبيعية هامة، وتقويض للتنوع البيولوجي. ثم كل ذلك يؤثّر بشكل مباشر على التغيّرات المناخية. جميع هذه الظواهر مترابطة فيما بينها: النظام الزراعي والنظام الإيكولوجي، والتغيرات المناخية. ولا يمكن الحديث عن جودة الحياة بمعزل عن هذه الأنظمة الثلاثة.
Swissinfo.ch: يبدو إذن أن هناك رابط قوي بين جودة الحياة وأوضاع البيئة والطبيعة. هل هناك برأيكم ما يكفي من الوعي بهذه العلاقة لدى صانعي القرار وعموم الجمهور؟
البروفسور جبوري غزول: الأمر هنا يتعلّق بالطريقة التي يقيم بها الأشخاص البيئة المحيطة بهم. ورغم وجود قيم مشتركة إجمالا، فإن طرقنا في التقييم مختلفة: البعض قد يعطي الأولوية للبيئة الصحية، والبعض الآخر، قد يتراء له الحفاظ على التنوّع البيولوجي أكثر أهمية. وهذا الاختلاف يعود للظروف المحيطة بعملية التقييم نفسها. لكن ألاحظ أن نقلة مهمّة قد حدثت خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة. حيث بدأ الإنسان يدرك أن الطريقة التي يدير بها الموارد الطبيعية، والأسلوب الذي يتفاعل به مع البيئة من حوله كانت له نتائج مدمّرة على التنوّع البيولوجي وعلى الطبيعة إجمالا. وهذا ما أدّى إلى ظهور أحزاب وحركات شعبية في كل مكان للدفاع عن البيئة، وأطلق نقاشات واسعة على مستوى مؤسسات صنع القرار وعلى مستوى وسائل الإعلام.
Swissinfo.ch: كيف تقيّم إسهام الجامعات السويسرية عموما، والمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ خصوصا، في هذا المجال؟
البروفسور جبوري غزول: للمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ تأثير كبير على مستويات عدة في هذا المجال: على مستوى مدخلات البحوث، وعلى مستوى الجوانب الإتصالية. فالكم المعرفي الذي ينتجه المتعاونون مع هذا المعهد في مجال علوم البيئة إجمالا كبير جدا. أقول ذلك على الرغم من يقيني بأنه لا يمكن اليوم عزل مؤسسة علمية وتقييم إسهاماتها بمعزل عن بقية المؤسسات البحثية والعلمية الدولية: فالبحث العلمي والإنتاج المعرفي اليوم يحصل من خلال تعاون العديد من المؤسسات متشابهة التخصص عبر العالم. بهذا المعنى المؤسسة السويسرية هي تساهم من خلال تعاونها مع غيرها من المؤسسات الدولية وعبر عمليات شراكة وتشبيك متشعبة يتداخل فيها العلمي والاقتصادي والخاص والعمومي.
Swissinfo.ch: دكتور جبوري ما الذي قادك إلى زيورخ، وإلى المعهد التقني الفدرالي العالي تحديدا؟
البروفسور جبوري غزول: بعد فيتنام، قضيت ثلاث سنوات في تايلند، وكنت أعمل ضمن برنامج تابع لمتحف التاريخ الطبيعي بلندن، ثم بعدها حصلت على عمل في معهد امبريال كليج في لندن حيث قضيت ثماني سنوات، كانت كافية لكي أسأم العيش في عاصمة الضباب، نظرا لما يوجد فيها من اكتظاظ مروري وتلوث بيئي وانعدام وجود مساحات خضراء كافية. فلما تراءت لي فرص عمل في زيورخ لم أتردد. فسويسرا تتوسّط القارة الأوروبية، ونمط العيش فيها بدا لي منذ البداية مختلفا عما ألفته من قبل، وهناك فرصة لكي يتعلم الأبناء لغة جديدة. لذلك تقدمت بطلب وكنت محظوظا بما فيه الكفاية لأظفر بهذه الفرصة.
Swissinfo.ch: كأكاديمي، ما هي العناصر التي ترجح لديك قبول عروض العمل في هذا البلد أو ذاك؟ أو في هذه المؤسسة الجامعية أو أخرى؟
أعتقد أن أي نظام تعليمي يكون أكثر جدوى للطلاب إذا سمح لهم باستخدام مخيّلتهم الخاصة، وقدراتهم الإبداعية الذاتية. هذا يعني عدم إعطائهم أوامر مباشرة، وبدلا عن ذلك اتاحة فضاء لهم لاكتشاف أجوبة عن الأسئلة التي تواجههم بطرقهم الخاصة، ودور المدرّس في هذه الحالة هو تيسير هذه العملية بدلا من تلقين الطلاب الحلول الجاهزة.
البروفسور جبوري غزول: أعتقد من البديهي بالنسبة لي عندما أتقدّم بطلب للحصول على وظيفة في إحدى الجامعات أن تكون هذه الأخيرة تحظى بسمعة جيّدة، ولكن السمعة أو الشهرة لوحدها غير كافية. فلابد أن تكون جامعة تسمح لك بتقديم اسهام حقيقي على مستوى البحوث وعلى مستوى التعليم. وكذلك أن تكون هذه الجامعة راغبة في الاستثمار في قدراتك كمتخصص، من خلال تقديم المساعدة المطلوبة في تحقيق المشاريع والاهداف التي تصبو لإنجازها. ومن السهل اليوم الوقوف على مدى توفّر هذه الشروط عبر الموقع الإلكتروني للمؤسسة المعنية، أو من خلال الصورة التي تتشكّل لديك بعد أوّل لقاء لك مع المسؤولين على الجامعة، لأن ذلك اللقاء يمكّن المؤسسة من التعرّف على قدرات وإمكانات المرّشح للوظيفة، ولكنه يمكّن أيضا المترشّح من تقييم المؤسسة التي ينوي الالتحاق بها.
لقد تلقيت عروضا أخرى قبل القدوم إلى زيورخ، ولكني صرفت النظر عنها لأنني رأيت أنها غير متطابقة مع ما أطمح إليه. ولكن من دون شك، يتمتع المعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ بسمعة جيّدة وفي نفس الوقت فإنه مؤسسة جامعية عريقة تسعى لتوفير ما يحتاجه المتعاونون معها، وهي توفّر لي شخصيا فرصا لتنمية تجربتي ومهاراتي. أضف إلى ذلك، زيورخ من المدن الأوروبية التي يحلو العيش فيها، على الرغم من غلائها المفرط، ثم هناك رغبة مني في القدوم إلى بلد أوروبي.
Swissinfo.ch: أنتهز الفرصة لأسألك: ما هي مواصفات النظام التعليمي المثالي برأيك؟
البروفسور جبوري غزول: الأمر يتطلّب وقفة للتأمّل. وكلّ شخص يمكن أن ينظر إلى هذا النظام من وجهة نظر مختلفة. شخصيا أعتقد أن أي نظام تعليمي يكون أكثر جدوى للطلاب إذا سمح لهم باستخدام مخيّلتهم الخاصة، وقدراتهم الإبداعية الذاتية. هذا يعني عدم إعطائهم أوامر مباشرة، وبدلا عن ذلك اتاحة فضاء لهم لاكتشاف أجوبة عن الأسئلة التي تواجههم بطرقهم الخاصة، ودور المدرّس في هذه الحالة هو تيسير هذه العملية بدلا من تلقين الطلاب الحلول الجاهزة. أرى أن النظام التعليمي في سويسرا، وفي العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، قائم على التلقين، أي أن الطالب يأتي ليأخذ مكانه في الفصل، ويستمع إلى المحاضر الذي يلقنه كيفية معالجة هذه المعضلة أم تلك. بالنسبة لي هذه ليس الطريقة المثلى للتعلّم. وأرى من الأفضل بدلا عن ذلك التحاور مع الطلاب بشأن مختلف العمليات التي يمكن أن يتبعوها للوصول إلى الحلول المرجوة، ومنحهم فرصة للتحاور فيما بين بعضهم البعض واستخدام قدرات التفكير الإبداعي لديهم حول كيفية المضي قدما بدلا من تقديم الحلول الجاهزة لهم.
Swissinfo.ch: في ضوء هذا المنظور، كيف تقيّم نظام التعليم في سويسرا؟
البروفسور جبوري غزول: أعتقد أن نظام التعليم السويسري هو ممتاز عندما يتعلّق الامر بتخريج المهندسين والتقنيين، أولئك الأشخاص القادرين على معالجة المشكلات. وقد تكون هذه المشكلات صعبة ولكن ليست معقّدة او مركبّة إلى حدّ ما. المهندسون السويسريون بارعون في شق الأنفاق تحت الجبال، وبناء الجسور فوق الأودية والنهار، لكن هذه العمليات تعتبر سهلة نسبيا، لأن الجميع لديهم هدف مشترك متفق ومجمع عليه. لكن حدود جدوى هذا النظام تتجلى عندما نكون امام مشكلات مركّبة، حيث لا يوجد اجماع على كيفية معالجتها. أفضل مثال على ذلك ميدان تخصصي، أي الحفاظ على البيئة وعلى التنوّع البيولوجي: شخصيا أنا أعتقد أننا نحتاج إلى بذل المزيد من الجهود للحفاظ على التنوّع البيولوجي مثلا، لكن الكثير من الخبراء الآخرين لا يتفقون مع وجهة نظري، ويقولون بدلا عن ذلك يجب أن تمنح الأولوية للتنمية، ولمكافحة الفقر، ولتعميم الخدمات الصحية. هذه قضايا معقّدة والتحدّي هو كيف يمكنك جعل هذه الرؤى المختلفة تتعاون فيما بينها رغم تعارض أهدافها. لا يوجد حلّ تقني لذلك، ولن يقدر أي مهندس على اقتراح حل لهذا التباين في الآراء، والمضي قدما في هذا النوع من القضايا يتطلّب مخيّلة حرة، ومهارات ناعمة قادرة على جعل وجهات النظر برغم اختلافها تتعاون فيما بينها، ومستعدة للعمل ضمن شبكات نافعة. هذه هي المهارات التي يجب أن تولى أهمية في المستقبل.
السيرة المهنية
1989 – 1992: دكتوراه من جامعة سانت أندروز- اسكتلندا.
1993- 1994: منسّق تقييمات التنوع البيولوجي في فيتنام، بالتعاقد مع وزارة الغابات الفيتنامية.
1995- 1998: العمل مع متحف التاريخ الطبيعي، لندن، والإشراف على مشروع بحثي لمعالجة آثار قطع الأشجار على استنساخ شجرة ثنائي القطب في تايلاند.
1998 – 2003: محاضر حول بيئة الغابات الإستوائية – كلية إمبريال – لندن.
2003- 2005: محاضر رئيس في علم بيئة الغابات المدارية – كلية امبريال في لندن.
2005 إلى الوقت الحاضر: أستاذ إدارة الأنظمة البيئية بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ.
2015 إلى الوقت الحاضر: رئيس كرسي الأمير برنهارد لحفظ الطبيعة، جامعة أوتريخت بالتعاون مع الصندوق الدولي لحفظ البيئة بهولندا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.