سويسرا.. وسيطٌ نزيهٌ في عالم رقمي
قامت سويسرا بصياغة "سياسة خارجية رقمية" تعكس رؤيتها للعصر الرقمي. وهي تريد المساهمة في تنفيذ حوكمة عالمية أفضل للإنترنت وتعزيز دور جنيف الدولية في هذا المجال.
عندما ظهر الإنترنت، كان من المُفترض أن يُصبح فضاءً عالمياً مفتوحاً مُتاحاً للجميع. كان هذا هو الأمل ذات يوم، لكن الشبكة العنكبوتية تحولت منذ فترة طويلة إلى مكان لنزاعات جديدة على السلطة. وفي الأثناء، تستمر الصراعات الجيوسياسية الكلاسيكية في الشبكة باستخدام الوسائل الرقمية.
بِحَسب دراسةرابط خارجي نَفَّذها مركز الدراسات الأمنية في المعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ، تتعرض حرية الإنترنت للتهديد أكثر فأكثر. فالحدود الوطنية الرقمية بين البلدان، والنفود المُتزايد للأجهزة التنظيمية يعملان على مَنع الوصول المجاني للشبكة العالمية. وليست الصين هي المثال الوحيد على ذلك بأي حالٍ من الأحوال، لكنها الأكثر شهرة بالتأكيد. وإذا كان يُنظَر إلى وسائل التواصل الاجتماعي خلال الربيع العربي باعتبارها المُحرِّك للثورة، فقد أصبح من المُعتاد الآن قيام الأنظمة الاستبدادية بِقَطْع خدمة الإنترنت أثناء الاحتجاجات. واليوم، أصبحت أدوات التَحَكُّم الرَقمية جُزءاً من ترسانة الأنظمة الاستبدادية.
تؤثر الحدود الجديدة وعلاقات القوة في الشبكة العالمية على العلاقات بين الدول أيضاً. وباتت الدبلوماسية والتعددية مشروطة بشكل متزايد بما يحدث في الفضاء الإلكتروني. كما أضحى من الصعب التمييز بين الدولة والجهات الفاعلة شبه الحكومية على الإنترنت.
لقد أدركت العديد من الحكومات أهمية هذا التطور، وهي تقوم الآن بصياغة استراتيجيات مُناسبة يمكن أن تختلف بشكل كبير وفقاً لموارد وطموحات الدول الفردية. وقد كشفت سويسرا مؤخراً عن استراتيجيتها للسياسة الخارجية الرقمية للأعوام 2021-2024رابط خارجي، والتي أوضحت فيها كيف تنوي توسيع سياستها الخارجية لتشمل الفضاء الرقمي. وحَدَّدَت وزارة الخارجية السويسرية في هذه الإستراتيجية مجالات العمل التي تريد الكنفدرالية التركيز عليها في السنوات القادمة. وتنعكس الأهمية التي تُعَلِّقها سويسرا على هذا المجال في التضمين الاستراتيجي: فالرقمنة، التي تُعَد واحدة من الأولويات المواضيعية الأربع في استراتيجية السياسة الخارجية 2020-2023رابط خارجي، لا تُعَرَّف في النص كأداة فقط، ولكن يشار إليها كموضوع مُستقل للسياسة الخارجية في حد ذاتها.
حياد على الإنترنت؟
ينصب تركيز الاستراتيجية السويسرية على أمرَين: من ناحية، تريد وزارة الخارجية السويسرية تعزيز الحوكمة الدولية على الإنترنت، والكلمة الأساسية هنا هي التعددية الرقمية. من ناحية أخرى، تريد سويسرا تأكيد دورها في النقاش حول الرقمنة والتكنولوجيا – مع تعزيز جنيف الدولية كمركز عالمي رائد.
1. بمساعدة الحوكمة الرقمية، تريد سويسرا المُساهمة في ضمان تطبيق القواعد المُلزمة للقانون الدولي في الشبكة العنكبوتية أيضاً. وهذا أمرٌ أساسي، لا سيما بالنسبة لدولة صغيرة ذات سلطة سياسية محدودة مثل سويسرا.
2. الرخاء العالمي والتنمية المستدامة شرطان أساسيان لاستمرار وجود الاقتصاد السويسري الشديد الترابط دولياً – ولكي يستطيع ترسيخ نفسه في التجارة الرقمية يضاً.
3. أصبح الأمن السيبراني في دائرة الضوء بشكل متزايد. وخلال جائحة كورونا، أبْرَزَت الهجمات الالكترونية على البُنى التحتية الحيوية – مثل مؤسسات الرعاية الصحية – مدى أهمية أمن الشبكة العنكبوتية، وزيادة أهميتها في المستقبل.
4. مع تقرير المصير الرقمي، تريد سويسرا أيضاً التأكيد على مسألة حقوق الإنسان وإدراجها في النقاش: هذه الحقوق يجب أن تُطَبَّق في كل مكان، في العالم الرقمي وخارجه ودون حدود جغرافية.
باعتبارها دولة مُحايدة ذات تقليد طويل من المساعي الحميدة، ترى سويسرا نفسها – وفقًا للاستراتيجية – في وضعٍ يؤهلها لِلَعب دور الوسيط عند حدوث نزاعات في الفضاء الرقمي. وبِصِفَتها الدولة المُضيفة للعديد من المنظمات، فأنها تريد أيضاً الاستفادة من علاقاتها الدولية الراسخة. لذا تُقَّدِم سويسرا نفسها كـ “وسيط نزيه على الإنترنت” يكافح من أجل قواعد متساوية للجميع على الإنترنت، وكبانية للجسورٍ في المفاوضات المُستقبلية حول القضايا المتعلقة بالرَقمَنة.
من الطبيعي أن تتعلق الاستراتيجية أيضاً بمُتابعة أهداف السياسة الخارجية الكلاسيكية، من حيث احتفاظ سويسرا كموقع تجاري بجاذبيتها وقدرتها التنافسة، واستمرار جامعاتها ومعاهدها البحثية في الاستفادة من الشبكة الدولية. ومن خلال تعزيز العلامة التجارية “جنيف الدولية”، يستمر رأس المال السياسي والاقتصادي في التراكم في سويسرا.
جنيف هي بالفعل مقر للعديد من المنظمات الناشطة في المجال التكنولوجي. وقد تكون مُعظَم هذه المنظمات غير معروفة لعامة الناس، لكنها تتميز باهمية كبيرة في مجال اختصاصها. ويزيد هذا التجمع الرقمي من فرص مدينة نهر الرون في الاستفادة من الاستمرارية والحفاظ على دورٍ رائدٍ في مجال الرقمنة في المستقبل.
لقد أصبح مدى تأثر “جنيف الدولية” بالرقمنة وكيفة استجابة سويسرا بما يتماشى مع استراتيجيتها الجديدة واضحاً مؤخراً: ففي شهر نوفمبر 2020، قامت سويسرا واللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتوقيع على بروتوكولرابط خارجي لتعديل اتفاقية المَقر. كما عالَجَت الاتفاقية صراحةً القضايا المتعلقة بالرَقمنة: فلكي تتمكن اللجنة الدولية من أداء مُهمتها، يجب أن تكون قادرة على الوصول إلى كميات كبيرة من البيانات والمعلومات الحساسة للغاية، والتي تحتاج إلى حماية أفضل في المستقبل.
لكن ما هي الفائدة المَرجوة من مثل هذه الاستراتيجيات؟ وأين تَنطبق في الواقع؟ دانيال شتاوفّاخَر الدبلوماسي السابق ومؤسس ورئيس مؤسسة ICT4Peaceرابط خارجي، التي تتعامل بشكل أساسي مع الأمن السيبراني يُرحب بإستراتيجية سويسرا الرقمية الجديدة ويقول: “إنها نَهج شامل للغاية يجمع الأساسيات تحت سقف واحد”. ويرى شتاوفّاخَر الذي عمل كمستشار للعديد من الحكومات والمنظمات الدولية أيضاً ان المخاوف السويسرية مشروعة تماماً. وهو يعلم ان فَرض السيادة الكاملة على الشبكة مسألة صعبة جداً، الأمر الذي يجعل تحقيق أقصى قَدَر ممكن من تقرير المصير في غاية الأهمية.
“ان وَضع سويسرا جَيّد بهذا الصدد” يقول شتاوفّاخَر. “لم يَعُد حَجم البلد يلعب دوراً مُهماً في العصر الرقمي – لذا فإن من الأهمية بمكان وَضع قواعد اللعبة التي يجب على الجميع الالتزام بها”، كما يضيف. وهو يقول ان النَهج مُتعدد الأطراف هو أساسي لبلدان مثل سويسرا. “نحن نَدخل إلى عصر الشبكة الآن، ولم يَتم تحديد الظروف الإطارية للعالم الرقمي بَعد – علينا أن نستفيد من هذا الوقت إلى أقصى حد وأن نكون استباقيين”.
نحن هنا لا نحتاج إلى إعادة اختراع العجلة بالكامل. تتمتع سويسرا بخبرة طويلة في السياسة والرقمنة ويمكن اعتبارها رائدة حقيقية في هذا المجال. ففي ديسمبر عام 2003، عُقِدَت القمة العالمية حول مجتمع المعلوماترابط خارجي في جنيف، والتي شارك فيها شتاوفّاخَر بشكل نشط أيضاً. وقد حضر هذه القمة العالمية 13,000 زائر، بما في ذلك 200 وزير و80 رئيس دولة وحكومة. ” لذا كانت سويسرا مُحقة في التوصل إلى استراتيجية رقمية لسياستها الخارجية”، كما يقول.
لكن هل وضعت الاستراتيجية لنفسها أهدافاً طموحة أكثر مما ينبغي؟ لا، يجيب السفير السابق بثقة. “من الضروري قبل كل شيء تحديد الخطوط العريضة. لاحقاً، سيتعين علينا في العمل اليومي تشكيل تحالفات والتعامل مع المواضيع التي نمتلك المهارات اللازمة فيها” كما يقول، مشيراً إلى أن لسويسرا شراكات استراتيجية مع بلدان تشاركها نفس الرؤية، الأمر الذي أوجد العديد من أوجه التآزر.
لدينا الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، الذي يعتقد شتاوفاخَر أنه قد تعثر حتى الآن في نهجه. لكن هذا في يعكس في جزء منه صراع الكفاءات الذي يهدف إلى تحديد الاختصاصات بين الاتحاد والدول الأعضاء، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وهو مجال يحظى بأهمية كبيرة وتنوي كل دولة إدارته بشكل مستقل. مع ذلك، سوف يتعين على بروكسل قريباً اتخاذ قرارات إستراتيجية من شأنها أن تحدد القواعد الرقمية الصالحة لجميع الدول الأوروبية.
سويسرا كنموذج يحتذى به؟
مع ذلك، فإن الاستراتيجية الرقمية لا تخلو من التناقضات. وهنا يشير نيكولاس تسانرابط خارجي، من منتدى السياسة الخارجية السويسرية (Foraus)رابط خارجي، إلى التناقض بين أهداف السياسة الخارجية والواقع السياسي المحلي. “وفقًا للاستراتيجية يتعين على سويسرا – وهي مُحقة في ذلك برأينا – أن تدافع عن حيادية الشبكة خارج الحدود الوطنية. مع ذلك فقد أثارت هذه القضية نقاشاً عصيباً وطويلاً للغاية في البرلمان”. كما يتساءل خبير السياسة الخارجية أيضاً عما إذا كان يُمكن اعتبار سويسرا حقاً نموذجاً عالمياً للرقمنة.
رغم ذلك، كان تصنيف تسان للاستراتيجية إيجابياً. ما لفت انتباهه بشكل خاص هو حقيقة أن مثل هذه الاستراتيجيات عادة ما تتعامل مع الدولة أو الاقتصاد في أحسن الأحوال، بينما تضع هذه الاستراتيجية الفرد في المقدمة. فضلا عن ذلك، فأنها تعرض أفكاراً مثيرة للاهتمام بما في ذلك مساحة البيانات السويسرية.
بِغَضّ النَظر عن كيفية تنفيذ الأهداف في نهاية المطاف – تعُبَرِّ الاستراتيجية الرقمية بوضوح عن الوَعي الرَقمي لسويسرا، حيث “لا يمكن أن يقتصر نطاق السياسة الخارجية السويسرية على المساحة المادية”، على حد قول تسان.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.