هل أخفقت جنيف الدولية في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط؟
يسلّط هذا التحليل التاريخي الضوءَ على عمل الأمم المتحدة في منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، ويستعرض أوجهَ الحاجة الملحّة لإصلاح هذه المنظمة.
أطلقت الحرب في غزةّ الجدل من جديد حول الجدوى من جنيف الدولية*، وعلى وجه التحديد منظمة الأمم المتحدة، في العالم العربي. جنيف، التي تحتضن المقرّ الأوروبي للأمم المتحدة، هي الوجهة الأولى لممثلي وممثلات الحكومات، وللدبلوماسيين والدبلوماسيات، والمدافعين.ات عن حقوق الإنسان، والناشطين.ات من المجتمع المدني، بالإضافة إلى معارضي.ات الأنظمة القائمة.
لكنّ شعوب المنطقة تتساءل اليوم عن الأسباب التي قادت إلى عجز هذه المنظمة الكبيرة عن التعاطي مع الحرب في قطاع غزة، وقضايا أخرى معقّدة على مدى أكثر من عقد من الزمن.
فهل يؤدي هذا النقص في الثقة إلى انهيار الأمم المتحدة؟ أم أننا سنشهد انبعاثا للوعي يسعى إلى إعادة هيكلة مؤسسات هذه المنظمة دون التخلي عنها أو إنكار الإنجازات التي حققتها؟
يمكن في هذا الصّدد، التوقّف عند ثلاث نقاط ساخنة لها صلة مباشرة بالشرق الأوسط، حيث قامت مؤسسات الأمم المتحدة بأدوار متنوعة أسفرت عن نتائج متباينة.
ليبيا، والجهل بالحقائق الميدانية
تتعلّق المحطة الأولى بليبيا، التي وجدت نفسها في مأزق هيكلي خطير، بعد انهيار نظام القذافي الذي قُتل يوم 11 أكتوبر 2011 بعد أربعين عاما من الحكم الفردي المطلق. حصل ذلك في سياق ثورات الربيع العربي التي هزّت عروش العديد من الأنظمة، والتي تصدّرتها الثورة التونسية، عندما توّجت بهروب الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011.
تصاعدت بسبب سقوط نظام القذافي آمال الليبين والليبيات بإمكانية بناء نظام سياسي بديل يكون ديمقراطيا وعادلا ومستقرّا. لكنّ التجربة انهارت بسرعة، ليجد الشعب الليبي نفسه أمام انقسام حادّ بين شرق وغرب، ممّا أدى بالبلاد إلى التورّط في حرب أهلية كادت أن تقضي على الأخضر واليابس، ونشأ عنها توتّر مستمرّ إلى اليوم.
لم تبق مؤسسات الأمم المتحدة خاصة تلك التي يوجد مقرّها في جنيف مكتوفة الأيدي، بل عملت ولا تزال على إخراج ليبيا من هذا المطبّ الكبير. ولكن رغم الجهود التي بذلتها المنظمة الدولية، من خلال تعيينها لقائمة طويلة من المبعوثين.ات الأممين.ات في هذه البلاد. فشل جميعهم.نّ بدون استثناء في استعادة السلام.
المزيد
كيف يُمكن لسويسرا المساعدة في استعادة الأمم المتحدة للبعض من مصداقيتها؟
تطول القائمة لتشمل: وزيرَ الخارجية الأردني الأسبق عبد الإله الخطيب، الذي عُيّن في 11 أفريل 2011 ولم يستمرّ في مهمته أكثر من أربعة أشهر، والدبلوماسيَّ البريطاني إيان مارتن، الذي عيّن في 20 سبتمبر من نفس السنة وغادر منصبه بعد أقل من عام على تكليفه، ووزيرَ الثقافة اللبناني طارق متري في عام 2012، الذي شغل المنصب لمدّة عامين قبل أن يستقيل في صيف 2014، ويؤلف كتابا عن تجربته، يعلن فيه “غادرت حين أصبحت مهمّتي مستحيلة وفشلت في إقناع النخب السياسية بالتسوية”.
كان آخر المبعوثين والمبعوثات الأمريكية ستيفاني وليامز، التي عُيّنت في مارس 2020 رئيسةً لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (بالإنابة) خلفًا للبناني غسّان سلامة. وقد نجحت ويليامز في دفع الفرقاء الليبيين نحو تحديد موعد لإجراء الانتخابات، لكن اختلاف هؤلاء حول جوانب من القانون الانتخابي أربك من جديد الأجندة السياسية المتوقفة حاليا بعد استقالة المبعوثة الأمريكية.
كان هذا الفشل متوقعًا لاعتبارات عديدة، لعل من أهمّها جهل المبعوثين.ات الأمميين.ات بالأوضاع الداخلية، خاصة منها المتعلّقة بالانقسامات العميقة بين الجهتين الشرقية والغربية للبلاد: فقد ازدادت أزمة الثقة بين سكان هذيْن المنطقتيْن تعقيدًا. ينضاف إلى ذلك الجهل بطبيعة الشخصية الليبية والبنية القبلية للمجتمع والتركيبة الديمغرافية للسكان.
ينضاف إلى ذلك تضارب المصالح بين مختلف الدول الرئيسية التي لها علاقات متينة مع أطراف النزاع مثل مصر والإمارات وتركيا وفرنسا والولايات المتحدة. فكلّ هذه الدول مؤثرة عند تعيين من يمثل الأمين العام، من خلال اقتراح الاسم أو التصويت له أو ضدّه. فقد كان مرجع الاشتباك السياسي الذي حصل بين مصر وتركيا خلال سنة 2020، والذي كاد أن يتحول إلى تدخل عسكري مصري، تباينُ مصالح الدولتين بالنسبة لتطوّر الأحداث في ليبيا. حينها احتدّ الصراع بين ما يسمّى بالجيش الوطني الليبي من جهة والمدعوم مصريا، وبين حكومة الوفاق الوطني المدعومة، من تركيا والمعترف بها دوليا، من جهة أخرى.
غزة، الاختبار الصعب
الأزمة الثانية التي نتطرق إليها هنا هي الأكثر أهمية والأشدّ تعقيدا: الوضع في قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية. حيث تشكّل الأحداث الجارية هناك تحدٍّيًا غير مسبوقٍ بالنسبة للأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة، التي ظلّت منذ 1948 عاجزة عن إيجاد حل لإرساء سلام دائم للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وعن السياق الجيوسياسي، الذي يحدّ من حرية مبادرة الأمم المتحدة ويكبّل حركتها، يقول الدبلوماسي التونسي ووزير الخارجية السابق أحمد ونيس متحدّثا إلى سويس إنفو ( SWI swissinfo.ch ) إنّه: “تحت تأثير الرأي العام في المجتمعات الغربية الذي يجعل من الانفراد بالشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل وضعا غير مقبولٍ، تركز الحكومات الغربية المؤثرة على ضرورة احترام معايير القانون الإنساني”.
ويضيف الديبلوماسي السابق أنه “بالتزامن مع ذلك، تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بتقييد حركة الأمين العام أنطونيو غوتيريش إلى درجة منعه من إصدار تصريحات سياسية”.
يظهر هذا الإجراء غير المسبوق حجمَ الأزمة بين إسرائيل والأمم المتحدة؛ والتي تفاقمت أكثر بعد منع إسرائيل لكل موظفي.ات الأمم المتحدة، بما في ذلك الأمين العام، من دخول أراضيها. وفي سياق تبريرها لهذا الإجراء، تقول السلطات الإسرائيلية، في رسال إلكترونية تسلّمتها سويس إنفو من السفارة الإسرائيلية في برن إنه “وفقًا للطريقة التي تصرّفت بها الأمم المتحدة وعدد من وكالاتها بعد مجزرة السابع من أكتوبر، كتجاهل المجزرة، وتشريع أعمال الإرهاب من قبل حماس، وتجاهل الآلام التي تسببت بها للرجال والنساء الإسرائيليين.ات، فإنها لم تعد تمنح تلقائياً تأشيرات لموظفي.ات الأمم المتحدة، بل تفحص جميع الطلبات حالة بحالة”.
إزاء هذا الوضع، لجأ الأمين العام أنطونيو غوتيريش في ديسمبر الماضي، إلى تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تتيح له لفت انتباه مجلس الأمن إلى قضية “قد تهدد السلام والأمن الدوليين”.
ورغم صعوبة الحديث عن أخطاء جسيمة ارتكبتها الأمم المتحدة بجنيف في حق القضية الفلسطينية بشكل مقصود، فمن المؤكّد أن قبولها بعدم تنفيذ معظم القرارات، خاصة تلك التي صدرت بأغلبية واسعة جدا في الجمعية العامة، مثلما حصل فيما يتعلق بقرارها المتعلق بمحاولة الزام اسرائيل بوقف اطلاق النار وتقديم المساعدات العاجلة لسكان غزة، يلقي بظلال كثيفة على الجدوى من وجودها.
تهديدات حقوق الإنسان
تتعلّق المسألة الثالثة بموضوع حقوق الإنسان، هذا الفضاء الذي يشمل الناشطين.ات والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان، كما يخص مراقبة ومتابعة البيئة التشريعية في كل بلد عربي بما في ذلك دول المغرب العربي.
ويعتبر الاستعراض الدوري الشامل إحدى الآليات الهامة التي يعتمدها مجلس حقوق الانسان لمعرفة ما يجري داخل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ورصد التقدم أو التراجع المسجل في هذا المجال. يحصل ذلك من خلال التقارير التي تعدها الدول دفاعا عن سياساتها، ثم يقع الاستماع لتقارير موازية تعدّها منظمات المجتمع المدني مبرزةً من خلالها النقائص والمغالطات التي قد تعتمدها الجهات الرسمية. ويفسح المجال لاحقًا في جلسات علنيات لتعليق ممثلي.ات الحكومات على التقارير الرسمية.
ويعتقد النشطاء والناشطات أن مجلس حقوق الانسان يوفّر فرصة هامة للتعريف بما تخفيه حكوماتهم.نّ من حقائق تتعلق بأوضاع الحقوق والحريات في دولهم.ن. لكنّ ذلك لم يمنع بعض هذه الحكومات من اعتبار ما يقوم به هؤلاء النشطاء والناشطات محاولة لتهديد الأمن القومي. وقد يجد البعض أنفسهم.ن عرضة للهرسلة والاعتقال بعد العودة من جنيف، حيث وجّهت لبعض النشطاء والناشطات التونسيين.ات تهمة ” التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”.
هل الحلّ في إلغاء حق النقض؟
في ضوء هذه التحديات، يُطرح السؤال حول مستقبل منظومة الأمم المتحدة. فهل يمكن القول إن هذه المنظومة قد استنفدت أهدافها؟
بالنسبة لوحيد الفرشيشي أستاذ القانون العام والناشط بالجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، فإنّ “ما يحدث في غزة يجعل منظومة الأمم المتحدة غير قادرة على الاستمرار بنفس الآليات. فغزة وضعت الإنسانية أمام حدودها القصوى”.
هل معنى هذا التشكيك في كل المنظومة الأممية؟ يجيب وحيد الفرشيشي بالقول إنّه: “من الضروري عدم نسيان أننا نتحدث عن منظومة نشأت سنة 1945 أي في ظل موازين قوى تلك المرحلة وجغرافيتها السياسية، وأصبح من غير الممكن أن تتواصل هذه المنظومة على ما هي عليه”. لكن ذلك لا يعني إلغاء المنظومة برمتها”. فالأفضل هو الاحتفاظ بالمنظومة، والعمل على إصلاحها في ضوء التحديات الراهنة”.
تجد هذه الحاجة الملحّة إلى إصلاح الأمم المتحدة صدىً لها في جميع أنحاء العالم العربي. ولإضفاء المزيد من الأهمية والفعالية والكفاءة والمسؤولية والمصداقية على هذه المنظومة، يأتي في الصدارة التخلّي عن آلية الفيتو في مجلس الأمن، واستبدالها بتبني مبدأ الأكثرية النسبية.
وتقع الأمم المتحدة تحت ضغوط وقيود وضعتها هذه الآلية التي فرضت في سياق توازنات جيوسياسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، خدمة لمصالح الدول المنتصرة قبل أن تكون في خدمة القانون والعدالة وحقوق وقيم بقية الدول. ودون هذا الإصلاح، سيكون من الصعب تغيير حالة العالم.
*مصطلح يطلق على مدينة جنيف السويسرية باعتبارها مركزا عالميا للديبلوماسية والتعاون الدولي، ولاستضافتها المقرّات الأوروبية للأمم المتّحدة ومئات من المنظمات الدولية الأخرى.
تحرير: فيرجيني مانجين
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
مراجعة: أمل المكي
هل نال المقال إعجابك.كِ؟ اشترك.ي في نشراتنا الإخبارية المتنوّعة للحصول على مجموعة مختارة من أفضل محتوياتنا مباشرة عبر البريد الإلكتروني.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.