منذ مئة وخمسة وسبعين عامًا تقود سويسرا الفدرالية حكومات تتشكل من سبعة وزراء، وتتمتع بالكثير من الثقة. يكمن السر في ذلك في قربها من الشعب.
تم نشر هذا المحتوى على
14دقائق
برونو هو منسّق "مجموعة الديمقراطية" ضمن SWI swissinfo.ch ويعمل مُراسلا معنيا بشؤون الديمقراطية في العالم. عمل لأكثر من ثلاثين عاما في هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية كمراسل في الخارج لقناة الإذاعة والتلفزيون العمومية السويسرية الناطقة بالألمانية SRF .
للوهلة الأولى، هو مطعم كالمطاعم التي يوجد منها العشرات في العاصمة الفدرالية “برن”. مطعم من المستوى المتوسط: طاولات في الهواء الطلق، وعمال مهذبون. لكن أربعة أشياء تجعل من هذا المطعم ذا خصوصية مميزة: وجوده على مقربة من الساحة الفدرالية، بجانب المصرف الوطني ومقابل مبنى البرلمان والحكومة -إلى حدٍّ ما في مركز السلطة السياسية للبلاد- ثمَّ رواده المختلفون من الرجال والنساء.
“المقهى الفدرالي” -هكذا هو الاسم- يضم في الطابق الأول صالة لتناول الطعام عُلقت على جدرانها صور لوجوه جميع النساء والرجال الذين حكموا سويسرا في الأعوام المئة والخمسة وسبعين الأخيرة. هنا، في “صالة الحكومة الفدرالية”، دأبت السلطة التنفيذية في أوقات سابقة، مجتمعةً، على تناول الطعام بعد الجلسة الإسبوعية.
بلد مستقر، اقتصاد مزدهر، وأنماط حياة مقبولة: تسير الكثير من الأمور على ما يرام في سويسرا، مقارنة بالعديد من الدول الأخرى.
في هذه السلسلة ، تبحث SWI swissinfo.ch في قضية الثقة في مؤسسات الدولة كأساس للديمقراطيات الفاعلة.
ننظر إلى كيفية أداء هذا السؤال في الماضي، وكيف تعمل الثقة في الحاضر، وما هي العقبات التي تواجهها سويسرا حاليا.
ونود أن نسألك: ما الذي تحتاجه لمنح ثقتك في المؤسسات السياسية في بلد إقامتك ؟
لازال ممكنًا أن نجد الوزراء والوزيرات في هذا المطعم أو في مطاعم أُخَر في برن أيضًا، وذلك أثناء احتساء قهوة ودردشة مع معارف قدماء أو جدد.
في الغالب بلا حماية من الشرطة ودون حراسة شخصية، ذلك لأن الانغماس اليومي للحاكمين في الشؤون اليومية للمحكومين هو أحد مكونات النظام السياسي الذي لا يُقيَّم، بالمقارنة الدولية، كنظامٍ فعّال فحسب، بل وديموقراطي أيضًا.
محتويات خارجية
إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في هذا الشأن واضحة الدلالة: مقابل الفاعلية السياسية العالية في سويسرا، والرضا عن الديموقراطية فيها يوجد نقيض ذلك، على سبيل المثال، في إيطاليا، البلد المجاور.
هناك، في روما، تحكم منذ الخريف الماضي جورجيا ميلوني الـتي تنتمي إلى تيار “ما بعد الفاشية”، وهي رئيسة الحكومة الإيطالية الثامنة والستين منذ إعلان الجمهورية قبل سبعةٍ وسبعين عامًا. وفي إيطاليا، ومنذ العام 1946، ليس أقل من 1300 وزير ووزيرة أدوا اليمين الدستورية لاستلام مناصبهم، بينما في سويسرا، ومنذ العام 1848، فإنَّ مَنْ أدّوا القسم أو اليمين الدستورية ليس أكثر من 121، وذلك ما تظهره أيضًا صور الوجوه في “صالة الحكومة الفدرالية”. بعبارة أخرى: في كل عام “تستهلك” سويسرا طواقم حكومية أقل من إيطاليا بخمسٍ وعشرين مرّة.
أحد الأسباب المهمة في ذلك كما أظهرتها تحليلات جامعة برن* هو الثقة القياسية العالية للشعب السويسري بحكومته. وفقًا لمكتب الإحصاء الفدرالي، فإن هذه الثقة ظلت تتعزّز على مدار السنوات العشرين الماضية.
محتويات خارجية
لكن الفوارق بين الحكومة السويسرية ونظيراتها في دول أوروبية أخرى لا تقف عند الأرقام والإحصاءات. عالمة السياسة “راحيل فرايبورغ-هاوس”، والتي تعمل باحثة في السياسة السويسرية، ترى، بالإضافة إلى ذلك، فروقاتٍ عملية، من بينها دور السلطة التنفيذية في النظام السياسي: “بخلاف دولٍ أخرى تتصرف الحكومة السويسرية وهي تعي أنها محدودة الصلاحية. ذلك لأن الحكومة السويسرية، كوسيطة، يجب أن توازن بين المصالح المتنافرة”.
ولهذا الأمر أسباب وجيهة؛ مثل الحقوق الشعبية الموسعة التي تٌمنح للشعب بواسطة الاستفتاء وإمكانية عرض أي قانون جديد في اقتراع عام، أو حتى وضع الدستور على سكة التغيير عبر آلية المبادرة الشعبية. في هذا الصدد تقول فرايبورغ-هاوس: “بينما يجب على الحكومة الفدرالية إطلاع أصحاب وصاحبات الحق بالتصويت على المقترحات المعروضة، وذلك بشكلٍ تام وموضوعي وشفاف، فإن عليها في بعض الأحيان أن تتدخل كوسيط بين الكانتونات”.
تيسر لآباء دستور سويسرا الذي يعود إلى عام 1948 -كانت النساء وفئات كثيرة من الشعب مستثناة من حق التصويت- أن يحققوا نجاحًا لافتا من خلال ارساء حكومة فدرالية هي عبارة عن هيئة وطنية تنفيذية. على مدى الأعوام المئة والخمسة وسبعين الماضية فشلت كل محاولات تغيير تركيبتها؛ مثل توسيع عضويتها أو اختيار أفرادها عبر صناديق الاقتراع، ثلاث مرّات، وذلك في السنوات 1899 و1939 و2011. وقد طُرحت مثل هذه المبادرات على الشعب لكنها رفضت في النهاية. كان دائمًا على الأحزاب كجهة ترشيح، والبرلمان كهيئة ناخبة، أن يقيدا نفسيهما عندما يتعلق الأمر بالبحث عن مرشحات ومرشحين لهم القدرة على نيل الأغلبية لهذا المنصب الحكومي الرفيع: “ليس المطلوب ذوات أو ذوي ألسنة حادة يدافعون عن خط الحزب، بل لاعبات ولاعبي فريق لديهم القدرة على التواصل”، تقول “فرايبورغ-هاوس”.
هكذا فقط كان يمكن أن تُصاغ في النظام السياسي السويسري الموزع السلطات والمتعدد الطبقات، الحلول القادرة على الصمود، حيث تقف الحكومة تمامًا في مركز صناعة القرار السياسي.
لفترة طويلة وجد المراقبون والخبراء، والمراقبات والخبيرات، صعوبة في تصنيف النظام السياسي السويسري، لأنه لا يطابق النظام البرلماني ولا النظام الرئاسي. في الديموقراطيات البرلمانية كإيطاليا وبريطانيا واستراليا ينتخب المواطنون والمواطنات البرلمان الذي يُقر بأغلبيته الحكومة ويستطيع إسقاطها أيضًا.
المزيد
نقاش
يدير/ تدير الحوار:
بنيامين فون فيل
ما الذي تحتاجه لمنح ثقتك إلى المؤسسات السياسية في بلد إقامتك؟
إن أساس الديمقراطيات هو الثقة في القضاء والسياسة والشرطة ووسائل الإعلام. هذا هو السبب في أننا نتناول القضية – ونطلب رأيك.
في نظام رئاسي مثل نظام الولايات المتحدة الأمريكية، يجري انتخاب البرلمان والحكومة بشكل مباشر من الشعب. وفي سويسرا؟
هنا تنتخِب غالبية البرلمان، المكوَّن من المجلس الوطني ومجلس الكانتونات ويُسمّى الجمعية الفدرالية، كل وزير أو وزيرة على حدة، ووفقًا لعمره الوظيفي. الإقالة بين انتخابات التجديد العامة التي تجري كل أربع سنوات، غير ممكنة، أما عدم إعادة الانتخاب فأمرٌ نادر الحدوث. أربع حالات فقط وقعت منذ العام 1848 حتى الآن جرى فيها عدم تجديد انتخاب وزيرة أو وزير ممن تقدموا لشغل المنصب. المرّة الأخيرة كانت في العام 2007 حيث جرى عدم إعادة انتخاب وزير العدل السابق كريستوف بلوخر، الزعيم التاريخي لحزب الشعب، الاوسع تمثيلية في البرلمان.
حكومة بلا رئيس
شيء آخر يجعل الحكومة السويسرية مختلفة عن الحكومات الأخريات: لا توجد رئاسة حكومة. دور رئاسة الدولة يناط كل عام بوزير أو وزيرة، وهو دور لا يجلب لمن يقوم به مزيدًا من السلطة إلى جانب ما يضاف من مهمات تمثيلية في داخل البلاد وخارجها.
مثلما جرى التخلي عن معطيات الثورة الفرنسية في سبيل ديموقراطية حديثة، مثل حقوق الشعب الديموقراطية المباشرة، جرى التخلي أيضًا، وبشكلٍ سريع، عن مفهوم الحكم الجماعي في فرنسا الدولة المركزية، لكنه وجد في سويسرا المكونة من عدة مجتمعاتٍ سياسية أصغر، أرضًا خصبة، وبلغ في العام 1848 مرتبة دستورية.
برلمان غير احترافي
إلى جانب سيادة الشعب يعود الموقع القوي للسلطة التشريعية (البرلمان) مقابل السلطة التنفيذية (الحكومة) إلى تلك المعطيات الثورية الفرنسية أيضًا. يقول أدريان فاتّر، أستاذ السياسة السويسرية في جامعة برن ومؤلف كتاب “الحكومة الفدرالية”**: “من الناحية القانونية الرسمية، تُعد الحكومة الفدرالية في مصاف أضعف الحكومات في أوروبا”، لكنَّ ذلك هو نصف القصة: “لأن البرلمان السويسري، وإن تمتع بصلاحيات كثيرة، فإنه لا يملك إلا أدوات شحيحة، كما إنه قليل المهنية”. لذلك فإن توزع السلطات يبدو متوازنًا نوعًا ما على هذا المستوى أيضًا.
المزيد
المزيد
نظام الميليشيات في سويسرا.. تقليد عريق يُواجه تحديات معاصرة
تم نشر هذا المحتوى على
يُعتبر ما يُسمّى “نظام الميليشيات” واحدة من الركائز الأساسية للديمقراطية التشاركية السويسرية. لكن ما الذي يكمُنُ وراء هذه التسمية التي عادة ما ترتبط بالمجموعات المسلحة غير النظامية؟
حتى وإن أثبت هذا “النظام القيادي” مع حكومة مصغرة نفسه في مجرى الحياة اليومية، فإن الحكومة الفدرالية (مجلس الوزراء) يتعرض للانتقاد في أوقات الأزمات، وبشكلٍ متكرر: كان هذا هو الحال في بداية جائحة كوفيد عام 2020، عندما أجّلت الحكومة اقتراعًا شعبيًّا عامًّا كان مقرّرًا. أو في ربيع 2023 عندما تم الاستحواذ على البنك الكبير المتعثر “كريدي سويس” من قبل منافسه الرئيسي بنك “يو بي أس”.
محتويات خارجية
في كلا الحالين لجأت الحكومة الفدرالية إلى “قانون الطوارئ” ، فأثار ذلك جدلًا جديدًا حول مكامن ضعف وقوة النظام السياسي السويسري. جدل يرتد بشكلٍ متزايد أيضًا على الأشخاص في الحكومة منفردين، وذلك في زمن يشهد تحولات كبيرة في الوسائط الإعلامية وتجري فيه الشخصنة. على هذا النحو تطرح وسائل الإعلام الشعبية بانتظام استفتاءات عن الشعبية. هذه الاستفتاءات تشير إلى أنه في الوقت الحالي تتمتع وزيرة الدفاع “فيولا أمهرد” بأعلى نسب الثقة، مقارنة ببقية نظرائها.
في سويسرا تخضع القوانين من حيث المبدأ للاستفتاءات الاختيارية. ذلك يعني أن تشريعًا قانونيًّا جديدًا لا يُمكن أن يصبح نافذًا، إلا بعد مرور مئة يوم على نشره دون أن يُجمَع خمسون ألف توقيع يطالب باجراء إقتراع شعبيّ عام بشأنه.
في الحالات الملحة من حيث الوقت والموضوع يمكن للأغلبية في السلطة التشريعية أن تجعل تشريعًا ما نافذ المفعول على الفور. إذا تطلب الأمر إجراء اقتراع شعبي، فإن ذلك يجري فيما بعد.
عرف قانون الطوارئ للحكومة الفدرالية في مفهومه الحالي، منذ العام 1999 حين جرى تعديل الدستور الفدرالي، وتستطيع الحكومة تطبيقه بالاستناد إلى المادتين 184 و 185: لحفظ مصالح البلاد والأمن الداخلي والخارجي يمكن للحكومة إصدار المراسيم دون أن يتوجب عليها أن تطلب موافقة البرلمان أو الشعب.
استُخدم قانون الطوارئ لأول مرة في العام 2008 خلال عملية إنقاذ مصرف “يو بي أس”، ثم استخدم بعد ذلك ثماني عشرة مرة خلال جائحة كورونا، وفي المرة الأخيرة هذا العام (2023) لإنقاذ “كريدي سويس”.
* “فرايتاغ ماركوس” و “ألينا تسومبرون”. 2022. الثقافة السياسية ص 85-109. في الكراس التوجيهي للسياسة السويسرية الذي حرره وأعد نصوصه للنشر كل من: يانيس بابادوبولوس، باسكال سكياريني، أدريان فاتّر، سيليا هويزرمان، باتريك أيمِّنأيغّر، فلافيا فوساتي، وصدر عن دار النشر NZZ Libro في بازل.
** أدريان فاتّر. 2020. “مجلس الوزراء الاتحادي-الحكومة السويسرية” المجلد الثاني عشر. السياسة والمجتمع في سويسرا. بازل: NZZ Libro
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.