مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“أريد أن أكون رسولاً جيّداً لبلدي في سويسرا”

هادي الجندي أن يكون رسولا لبلده في سويسرا
رغم ألم الغربة، يعتبر هادي الجندي نفسه أمام تحدّي إثبات أنه أفضل رسول لأجمل بلد هو سوريا. swissinfo.ch

لم يَمضِ على وجودِه في سويسرا سوى عام ونصف العام تقريباً. لكن هادي الجندي أصيل مدينة حماة السورية، لَمْ يَترك يوماً يمر دون السعي لتحقيق ما يرى أنها مهمته الجديدة لتقديم صورة حضارية جميلة عن بلده الأم، والإندماج الجيد والتعرف على ثقافة بلده الجديد.

وُلِدَ هادي الجندي، الذي يبلغ الرابعة والثلاثين من العمر في مدينة حماة، ودرس وعمل في مجال الكيمياء بدمشق. لكنه آثر مغادرة البلاد في موفى عام 2011 بعد تعرضه للإعتقال، بسبب مشاركته في الحراك السلمي الذي عَمَّ العديد من المدن السورية في تلك الفترة، قبل أن ينتقل إلى صراع من نوع آخر.

 في البداية إختار الجندي التوجه إلى السعودية بسبب إقامة أخيه هناك. وبعد أن عمل هناك بضعة أعوام، وجد نفسه أمام تهديد من نوع آخر بسبب قوانين مُعينة قد يُعاد اللاجيء السوري بموجبها إلى بلاده في أي لحظة، مما إضطره لمغادرة البلد الذي كان يقيم فيه للمرة الثانية. 

هذه المرة إختار التوجه إلى سويسرا لوجود أسرته فيها بالفعل، حيث كانت شقيقته الكبرى التي تحمل الجنسية السويسرية، قد قامت بدعوة أهلها للبلاد بعد اندلاع الحرب في سوريا [بموجب إجراءات إتخذتها الحكومة السويسرية في عام 2013 لتوسيع دائرة أفراد الأسر السورية المسموح لهم بتقديم طلب للحصول على تأشيرة لدخول سويسرا في إطار سياسة لَمّ الشمل العائلي]. وفي سويسرا، تقدم بطلب للحصول على حق اللجوء وهو يحمل الآن تصريح إقامة من فئة “نون” (N).

سلسلة تجارب مهنية

يطرح حلول الإنسان بمكان لم يألفه من قبل تحديات ومصاعب جمة، قد يسعفه الحظ في بعض الأحيان، فيستأنف رحلة حياته المهنية من حيث توقّف قطارها في بلده الأصلي بيسر وسلاسة.. وقد يجبره الواقع الجديد على بداية المشوار من نقطة الصفر، إن لم يظل يراوح مكانه لسنوات طويلة. وضع المهاجرين العرب في سويسرا ليس استثناءً في هذا الباب، وتكاد تتباين مساراتهم بعدد شخوصهم. swissinfo.ch اختارت الحديث إلى عيّنة منهم، فكانت هذه السلسلة من البورتريهاترابط خارجي.

ما يُثَمِنه الجندي في سويسرا هي “إتاحتها الفرصة للشخص لمُتابعة دراسته بِغَض النظَر عن نوع تصريح الإقامة الذي يحمله. والعثور على عمل أيضاً – وأن كان بصعوبة أحياناً. فضلاً عن ذلك فإن مجالات العمل الإجتماعي بجميع أشكالها مفتوحة للجميع”، كما يقول. لكنه في نفس الوقت لا يخفي مشاعر القلق التي تراوده في إنتظار رد السلطات السويسرية على موضوع لجوئه. “صعب جداً أن يبدأ الإنسان حياته من الصفر للمرة الثانية، ثم تنقطع السبل أمامه كما حدث معي سابقاً. ويُراودني القلق أحياناً من أن لا يكون رَد السلطات السويسرية لموضوع لجوئي مؤات، وأن أضطر لبدء حياتي من الصفر للمرة الثالثة، لأنني قمت بِرَسم فكرة مبدئية عن حياتي المُستقبلية بالفعل، وبدأت بالإنخراط في العمل الإجتماعي، وكونت معارف وعلاقات خلال وجودي في سويسرا”.

 من تدريس اللغة العربية…

بالفعل، بدأ الجندي بِمُتابعة دروس اللغة الفرنسية في نوشاتيل لمدة عام كامل، تَحَسَّنَت خلاله لغته الفرنسية بشكل كبير. ومن خلال بعض أصدقاء أخيه السويسريين، تَعَرَّف على جمعية تُسمى “لامار”رابط خارجي (L’AMAR) وتُعنى بموضوع إندماج اللاجئين بشكل رئيسي، عبر تقديم أنشطة متنوعة تساعد على تكوين الصداقات وبناء العلاقات الإنسانية وحياة إجتماعية حقيقية. وكما يقول: “عندما إطلعت على هذه الفعاليات، قلت للمسؤولين عن الجمعية ‘انتم تقومون بنشاطات مفيدة للاجئين وأنا أشعر بمسؤولية تقديم شيء بدوري لهذه الجمعية، ولا أريد شيئاً في المقابل سوى تكوين الصداقات’”. 

ومع أن الجندي كان قد درس وعمل في مجال الكيمياء في سوريا والسعودية، لكنه لم يستطع إفادة غيره في هذا المجال حالياً. لذا عَرَض على الجمعية قيامه بتدريس اللغة العربية للراغبين بتعلمها “لا سيما وأني أحب هذه اللغة جداً كما كان والدي مُدرساً للغة العربية”. وبالفعل، تم افتتاح صف صغير مُكون من طالبين في نهاية عام 2016. “واليوم أقوم بتدريسي 20 طالباً وطالبة، مُقسمين إلى مجموعتين، للمبتدئين والمتقدمين، كما سيتم إفتتاح صف ثالث قريبأ مكون من 7 أشخاص جُدُد – وجميع هؤلاء من غير الناطقين باللغة العربية، وهم مُتحمسون جداً”، كما يقول.

.. إلى تأسيس جسر بين سويسرا وسوريا

نشاط الجندي لم يتوقف عند هذا الحد، وقرر مع بعض زملائه السوريين تأسيس جمعية أسموها ‘سويس سوريا’ (SuisSyria) “المؤلفة من دَمج كلمتي سويسرا وسوريا لإيصال رسالة الجمعية من خلال اسمها، تهدف إلى تقديم فعاليات تقتصر على الثقافة والنشاطات السورية في سويسرا، وتقديم صورة عن سوريا الحقيقية بعيداً عن الحرب والسياسة والدين”، كما يقول. وحيث لم تكن لدى الجندي أي فكرة حول القوانين المتعلقة بالجمعيات، توجه إلى هيئة رسمية (يُشار إليها اختصارا بـ COSMرابط خارجي) مسؤولة عن تنسيق سياسة التكامل بين الثقافات في كانتون نوشاتيل، ومساعدة وإفادة اللاجئين في مختلف المجالات، وطلب موعدا مع الشخص المختص عن تأسيس الجمعيات “الذي أعطاني جميع المعلومات المطلوبة وتابعني لحين تأسيس الجمعية التي رأت النور في 16 يونيو 2017”. واليوم، تضم الجمعية التي يترأسها الجندي خمسة أشخاص سوريين ومواطنا سويسريا تطوع للعمل معهم.

رغم نشأتها الحديثة، إلّا أنَّ ‘سويس سوريا’ أثبتت حضوراً ملحوظاً من خلال مشاركتها بالعديد من الفعاليات. وعلى سبيل المثال، كانت جمعية ‘أطباء العالم’ الخيرية قد أقامت معرضاً في نوشاتيل، قدَّمت فيه لوحات فنية وقصائد شعرية نفذها لاجئون يقيمون في مخيمات اللاجئين باليونان. وبحسب الجندي: “قمنا بترجمة هذه القصائد وأسماء اللوحات من اللغة العربية إلى الفرنسية، وشاركنا بموسيقى سورية تم عزفها طيلة فترة المعرض، كما قُمتُ بتأليف قصيدة بالمناسبة، بالإضافة إلى تقديمنا وجبة طعام سورية في المعرض”.

 في الآونة الأخيرة، تم قبول الجمعية أيضاً في “مجموعة الإندماج والتماسك المتعدد الثقافاترابط خارجي” في كانتون نوشاتيل. وكما يوضح الجندي: “يتكون هذا المجلس المعني بالإندماج من 10 أشخاص ينتمون لحكومة نوشاتيل، و10 أشخاص آخرين يتم إنتخابهم من بين المهاجرين. وهم يعقدون اجتماعات دورية لمناقشة المُقترحات المُتعلقة بِسَنّ سياسة الكانتون بخصوص اللاجئين. وبالرغم من أنه مجلس إستشاري وليس تشريعياً، لكنه مُعتَمد من قبل حكومة الكانتون. وقد أُختيرَ عضوان من جمعية SuisSyria للمُشاركة في هذا المجلس، أحدهما عضو أساسي عن اللاجئين وعضو ينوب عنه هو أنا”.

علاوة على ذلك، اختيرت الجمعية للمشاركة في أسبوع مناهضة التمييز العنصري الذي ينتظم في نوشاتيل في شهر مارس المقبل.

 إذا نظرنا للإيجابيات، كل شيء في سوريا كان جميلاً، كما أن كل شيء في سويسرا جميل

في نفس الشهر أيضاً، سوف يكون للجمعية نشاط في حديقة النباتات بنوشاتيل لتعريف الناس بالموسيقى السورية وعلاقة الموسيقى بالطبيعة. “وأنا كمختص في الكيمياء، سوف أعلّم الناس طريقة صناعة الصابون الحلبي في بيوتهم بسهولة لكي لا يضطروا إلى شرائه باسعار مرتفعة. أنا أرى أنه بمقدوري الإفادة هنا، كما أراه واجباً علي، لأن الصابون من خلال اسمه منسوب إلى سوريا”، كما يقول الجندي.

 من المشاركة بعمل مسرحي …

كما يبدو، فإن همّة وأفكار ابن حماة لا حدود لها. ففي إحدى المحاضرات التي كانت تلقيها سيدة سويسرية تعمل في منظمة العفو الدولية حول العُنف ضد المرأة في جمعية ‘لامار’، تعرف الجندي على سيدة مغربية الأصل هي سلمى لاكروني، التي درست المسرح في المغرب، وتختص الآن في مجال الإخراج المسرحي بجنيف. ومن بين الحضور أيضاً، كانت السيدة أمل نصر، الناشطة السياسية والمُعتقلة السورية السابقة. وقد أدى اجتماع هذه الأطراف الثلاثة، إلى تأسيس جمعية تحمل اسم Association Women in Action international (الجمعية الدولية للنساء في العملرابط خارجي) تهدف إلى إيصال صوت المرأة المُضطهدة والمُعَنَّفة (بغض النظر عن نوع العنف الممارس ضدها) في أي مكان من العالم. وتترأس لاكروني الجمعية التي يقع مقرها بجنيف، ويشغل الجندي منصب السكرتير العام فيها.

ولم يَدُم الأمر طويلاً حتى رأى العرض المسرحي الأول النور. “كان أول عمل إخترناه يتعلق بما عاشته السيدة نَصر عندما كانت رهن الإعتقال، ويحمل أسم ‘الزنزانة رقم 1’ (صورة المنشور الإعلاني للمسرحية). وقد بدأنا التحضير للعمل لكي يُعرَض ضمن فعاليات اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المراة. وفعلاً عُرِضَت المسرحية يوم 26 نوفمبر، بمشاركة فريق مسرحي جميل جداً. وكان لي شرف المشاركة بالتدقيق اللغوي والتدريب على اللفظ، بالاضافه إلى تاليف أغنية الختام التي تلخص رسالة المسرحية”.

مسرحية حول أوضاع حقوق الإنسان في سوريا
صورة المنشور الإعلاني لعرض مسرحي حول أوضاع المرأة يشارك فيه هادي الجندي إلى جانب مجموعة من المبدعين العرب. swissinfo.ch

وكما يضيف الجندي: “سوف تُعرض المسرحية مرة ثانية في جنيف يوم السبت 16 ديسمبر الجاري في مسرح Galpon- Genèveرابط خارجي، كما سُيعاد العرض طيلة العام القادم في كانتونات مُتعددة من سويسرا. ونحن نسعى الآن لإيجاد مسارح في مدن مختلفة مثل زيورخ ولوزان وغيرها”. 

.. إلى تنفيذ أعمال تطوعية

بالإضافة إلى كل ما سبق، تطوع الجندي للعمل في مكتبة إسمها ‘بيبليو موند’ (bibliomonde) في نوشاتيل، التي تتميز بأقسمها التي تضم كتباً متعددة الثقافات من بينها العربية. وهنا قام بإعادة تنظيم قسم اللغة العربية الذي كان مهملاً في السابق لعدم وجود من يتكلم اللغة العربية في كادر المكتبة.

ومع وَلَعه بالشعر، شارك الجندي أيضاً في فعالية تسمىneuchâteloise (الأشخاص المنتمون لكانتون نوشاتيل) يقوم فيها سكان نوشاتيل كل ثلاثة أعوام بفعالية يُعَبرون فيها عن التنوع الثقافي في نوشاتيل. وكما يقول:”كانت مشاركتي ادبية، حيث قرأت أشعاراً لجبران خليل جبران – بالفرنسية أيضاً – الأمر الذي لم يكن سهلاً (يضحك). 

لو قارنا المُدُن بالأشخاص فأنا أشعر أن حماة هي بمثابة أمّي، ودمشق هي شريكة حياتي. ولكن ليس هناك من شيء مُستمر في هذه الحياة

إضافة إلى تحقيق حلم الدراسة

درس هادي الجندي الكيمياء في جامعة دمشق لمدة ثلاث سنوات، لكنه كان يعمل في هذا المجال إلى جانب دراسته (في معامل للبلاستيك والكونكريت وكل ما يخص الصناعات الكيميائية)، الأمر الذي أخذ وقتاً طويلامن دراسته. وكان من المُفتَرَض أن يُكمِل عامه الرابع (وهي سنة الإختصاص) ويحصل على شهادة الدبلوم في عام 2011. لكن الأحداث التي وقعت في سوريا حالت دون ذلك.

خلال وجوده في السعودية، عمل الجندي في مجال الكيمياء الحيوية في إحدى الشركات القابضة الوكيلة لشركات كبرى للأجهزة الطبية. وهكذا أصبحت لديه خبرة جيدة في مجالي الصناعات الكيميائية والكيمياء الحيوية. ومع وجوده في سويسرا الآن، يَحرص ابن حماة على تحقيق هدفه في مُتابعة العمل في هذا المجال. “لكن الطريق لتحقيق ذلك ليس سهلاً في سويسرا” كما يقول. وبعد سؤال أشخاص وجِهات متعددة، ودراسة مُستفيضة للنظام التعليمي في سويسرا، علم الجندي أن جامعة العلوم التطبيقية لغرب سويسرارابط خارجي (HES-SO)، تُدَرِّس مادة الكيمياء في فرعها الكائن في فريبورغ. “الآن توجد لدي إمكانية لدخول هذه الجامعة بعد إجتياز إمتحان قبول في شهر مايو المقبل، يشتمل على إختبار في اللغة الفرنسية والإنجليزية والرياضيات في يوم واحد. وفي حال نجاحي، قد تُعادَل لي بعض المواد التي درستها بالأساس، ما قد يختصر لي سنة دراسية كاملة. كما أن توفري على خبرة عملية وحَملي لشهادات مُترجَمة جعل الجامعة تتجاوز عن التدريب (الذي يُفترض أن يستغرق 10 أشهر) والذي كان سيكون مطلوباً مني أيضاً.” ومع خبرته العملية السابقة، فإن الجندي مُتفائل من قدرته على تحقيق هذا الهدف.

مع الإنخراط في كل هذه الأنشطة المُمَيزة، هل زال الشعور بالإغتراب والشوق لتراب الوطن؟وهل في سويسرا ما يُعوّض عن هذا الحنين؟

بعد جلوسي مع الجندي والإستماع لحديثه لم تفاجئني إجابته. “أنا أعتبر أن لدي فرصة لكي أكون رسولاً جيّداً لبلادي، وأن أعكس صورة جميلة وإيجابية عن سوريا هنا، وفي نفس الوقت أكتسب الأشياء الإيجابية الموجودة في هذا المجتمع، ولا أنظر إلى السلبيات التي كانت في مجتمعي أو الموجودة هنا لانها لا تعنيني. وهذا ما يعوضني عن مشاعر الألم الكامنة في دواخلي نتيجة مغادرتي لبلدي. ولو قارنا المُدُن بالأشخاص فأنا أشعر أن حماة هي بمثابة أمّي، ودمشق هي شريكة حياتي. ولكن ليس هناك من شيء مُستمر في هذه الحياة، وأنا الآن أمام مهمة أخرى أفيد فيها البلد الذي وُلِدتُ ونشأت فيه بشكل آخر، من خلال تقديم صورة حضارية عنه، أقول من خلالها للسويسريين: ‘أنا سوري، وأتمنى أن تنظروا للسوريين بنظرة جيدة، ونحن ممتنون لاستقبالكم لنا.’ إذا نظرنا للإيجابيات، فكل شيء في سوريا كان جميلاً، كما ان كل شيء في سويسرا جميل”.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية