“لا ينبغي أن تكون الكثافة السكانية كبش فداء لأزمة كوفيد – 19”
ظهرت أسوأ حالات تفشي الأوبئة التي عرفها العالم في المدن الكبرى، كما أثارت جائحة كوفيد-19 عددا من التساؤلات حول مستقبل المناطق الحضرية. في الأثناء، يسعى أندري غيربر، الباحث السويسري في مجال التصميم المعماري - مُستعينا بلعبة فيديو - إلى إقامة الدليل على أنه من الممكن إعادة تصميم المناطق المكتظة بالسكان من أجل مواجهة تحديات الصحة العامة المرتقبة.
تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2050، سيعيش 68% من سكان العالم في المناطق الحضرية. وجادل الكثيرون بأنه من الضروري زيادة الكثافة الحضرية إذا أردنا زيادة كفاءة الطاقة في المدن. في المقابل، بات واضحا أن المدن المكتظة بالسكان اليوم هي أيضا أماكن يُمكن أن تنتشر فيها فيروسات مثل كوفيد- 19 بسهولة.
تتيح لعبة الفيديو المسماة Dichtestressرابط خارجي (وتعني إجهاد الكثافة) التي طوّرها فريق بحثي يشرف عليه غيربر، للاعبين استكشاف العلاقة بين الكثافة السكانية وخطر الإصابة بالعدوى.
ويعتقد غيربر، وهو أستاذ محاضر في قسم الهندسة المدنية في جامعة زيورخ للعلوم التطبيقية أن السؤال الأساسي في عالم يُواجه تهديدات شتى كالأوبئة وتغيّر المناخ يتلخص في كيفية تكثيف السّاكنة في المدن ولكن بأمان.
في اللعبة التي تحمل تسمية “Dichterstress”، ينتقل اللاعب من منظور الشخص الأوّل عبر ستّة مستويات من الكثافة السكانية في مدن مختلفة تغطي أكثر من 500 عام من التاريخ المعماري، بما في ذلك “نموذج المدينة المثالية” الذي صممه المهندس المعماري فرانشيسكو دي جورجيو مارتيني في عام 1490 و”المدينة المسوّرة” في كاولون بهونغ-كونغ، والتي هدّمت في عام 1995، وضاحية نيدردورف في زيورخ في عام 2020، إلخ..
يتمثل الهدف من اللعبة فيما يلي: بناءً على قاعدة المسافة البالغة 1.5 متر التي أوصت بها السلطات الصحية، يجب على اللاعبين العثور على المخرج وإصابة أقل عدد مُمكن من الأفراد.
اللعبة متاحة على نظامي iOS و Android، لكن الأجهزة المحمولة غير مدعومة. يُمكنك العثور على المزيد من المعلومات من خلال هذا الرابطرابط خارجي
swissinfo.ch: كيف تصف العلاقة بين التخطيط الحضري والأوبئة؟
أندري غيربر: الأوبئة بطبيعتها، بشكل من الأشكال، مناهضة للمدن، لأن المناطق الحضرية الكبرى تتطلّب من الناس التجمّع والتشارك في مساحات متقاربة. من الواضح إذن أن هذا يتعارض مع مبدإ التباعد الاجتماعي بغرض منع انتشار الأمراض المُعدية. فمجرد تجميع الأشخاص معا، يكون هناك خطر انتقال الأمراض المعدية.
إذا نظرت إلى زيورخ، على سبيل المثال، التي عانت من العديد من الأوبئة على مر القرون، فقد توفي فيها مئات الآلاف من الأشخاص بسبب تفشي الكوليرا وحمى التهاب الكبد، وأمراض أخرى. ومع ذلك، فإننا كنا أميل إلى نسيان هذا التاريخ إلى حين ظهور جائحة كوفيد – 19.
ومنذ العصور اليونانية والرومانية القديمة، كانت فكرة المدينة مُرادفة للأمان و التحضّر، في مقابل الفوضى والخطر خارجها. ولطالما كانت المدن عنوان النظام والترتيب المُحكم للأشياء. وتميل الطبيعة البشرية إلى النسيان أو تجنب التفكير دون وعي في التهديدات المحتملة مثل جائحة كوفيد – 19 الحالية.
لذلك، فإن تاريخ التخطيط الحضري هو أيضا تاريخ الأوبئة ومحاولات إنشاء مساحات حضرية أفضل وأجود على المستوى الصحي.
swissinfo.ch: يبدو أن التخطيط الحضري أعيد النظر فيه دائما في أعقاب تفشي مرض ما. هل هذا يعني أن التخطيط الحضري هو دائما استجابة أو علاج لمشكلة ما، وأن دوره ليس وقائيّا؟
أندري غيربر: نعم ولا. منذ بداية التحضّر، حتى لو نظرت إلى زمن الإغريق، فقد فكروا بالفعل في كيفية اختيار موقع مناسب لبناء مدينة صحية. فقد اقترح أبقراط أصيل كوس (إحدى الجزر اليونانية) وطبيب يوناني من عصر بيركليتس، أوّلا استخدام عِرافة الكبد لتقييم صحة الموقع قبل وضع الأساس لمدينة جديدة. لكن هذه الطريقة كانت متشددة جدا. كانت هناك حيوانات ترعى في المكان الذي ستشيّد فيه المدينة. وأثناء طقوس التضحية بالحيوانات، كانوا يفحصون كبد تلك الحيوانات بعناية. فإذا ما عُثر على كبد مريضة، تجرى عمليات تأكّد مما إذا كانت الحيوانات مصابة ببعض الأمراض المعدية. وبمجرد أن يستنتجوا أن الماء والطعام في ذلك المكان مُشاب بالأمراض، فإنهم يتخلون عن الموقع ويبحثون عن بديل عنه.
يُمكننا أن نرى أنهم يقيّمون الوضع الصحي من خلال سلامة عناصر مثل الهواء وضوء الشمس ودرجة الحرارة عند التخطيط لتشييد المدن.
swissinfo.ch: عندما ننظر إلى تاريخ سويسرا والبلدان الأخرى، هل هناك أي تدابير فعالة تم اتخاذها فيما يتعلّق بالتخطيط الحضري لمحاربة الأمراض المُعدية؟
أندري غيربر: قبل منتصف القرن التاسع عشر، ركز أسلافنا بشكل أساسي على إقامة البنية التحتية الحضرية الضرورية مثل الشوارع والنقل الجماعي ومرافق الرعاية الصحية. وبمجرد أن تفشى المرض في المدينة، قاموا فقط بطرد الأشخاص المُصابين بمرض مُعدٍ منها. هذا الإجراء يتعلّق بالتحكم في المرض بدلا من تغيير تخطيط المدينة بهدف منع الأوبئة المحتملة. والذي لا يمتلك فكرة عن مصدر الأوبئة، لن يتمكّن من الرد عليها بشكل فعال.
لكن رسم خرائط المرض حقق قفزة كبيرة إلى الأمام في القرن التاسع عشر. في عام 1854، رسم جون سنو، الذي يُعرف غالبا بأنه “أب علم الأوبئة”، خريطة لتفشي مرض الكوليرا في لندن. لقد أدى ذلك إلى تغيير كامل لمقاربة نظام الصرف الصحي العام والتخطيط الحضري لموضوع الأوبئة.وحثنا على إجراء تغييرات على البنية التحتية للمدينة.
ومنذ ذلك الحين، تمت إعادة النظر في البنى التحتية الحضرية بأكملها، خاصة فيما يتعلق بنظام توزيع المياه والصرف الصحي، وتم اتخاذ كل التدابير للوقاية من الأمراض الوبائية ومكافحتها. كما تم استبدال العديد من سمات المدن حتى لا تصبح قديمة، قد عفا عليها الزمن. ويمكن اعتبار الخنادق التي شُيّدت في العصور الوسطى على جانبيْ نهر “ليمّات” في زيورخ مثالا نموذجيا (على ذلك). وقبل بداية استخدام المراحيض ومدّ نظام الصرف الصحي تحت الأرض، كانت هذه الخنادق الضيقة (المتواجدة) بين المباني بمثابة المجاري المفتوحة. فقد كانت نفايات المطابخ والمخلفات البشرية تسقط مباشرة في تلك الخنادق.
swissinfo.ch: ووهان، المدينة الصينية التي انطلق منها تفشي كوفيد-19، هي المدينة الأكثر كثافة سكانية في الصين. كذلك، نيويورك، التي شهدت أوسع انتشار للوباء في الولايات المتحدة، هي أيضا أكثر المدن الأمريكية كثافة سكانية في البلاد. هل يمكن أن نخلص من ذلك إلى أن الكثافة العالية هي السبب الرئيسي أو المحدد في انتشار المرض؟
أندري غيربر: لن أدعم استنتاجا من هذا القبيل. ولا ينبغي الإلقاء باللائمة على الكثافة السكانية في حد ذاتها أو أن تكون كبش فداء لأزمة كوفيد-19. القضية الأساسية هي كيف يمكن تصميم المدن وبناؤها بكثافة ولكن بطريقة معقولة.
إذا نظرت إلى نيويورك، فهي مدينة معزولة من منظور التصميم الحضري، مع عدد قليل جدا من المساحات الخضراء، و”سنترال بارك” الضخم. ليس هذا هو التصميم المثالي من وجهة نظر الحجر الصحي أو مقاومة الأوبئة. إنها حقا بحاجة إلى المزيد من المساحات الخضراء المتفرّقة. تتمتع المدن الأوروبية التقليدية بالمزيد من المساحات الخضراء والحدائق الحضرية، مما يمنحها مناعة أكبر ضد الأوبئة.
مع ذلك، ليس هناك أدنى شك في أن الشوارع ذات المنازل الضيقة التي تعود إلى القرون الوسطى في مدينة زيورخ القديمة، على سبيل المثال، ليست جيّدة لمنع (انتشار) الأوبئة بسبب كثافتها السكنية المرتفعة نسبيا.
من الواضح أن الكثافة مسألة يجب أن نفكّر فيها عندما يتعلّق الأمر بالعلاقة بين الأوبئة والتخطيط الحضري. هذا ما حاولنا معالجته في لعبة الفيديو Dichtestress، حيث توجد مستويات مختلفة من الكثافة السكانية، وطرق مختلفة لبناء المدن. اللعبة سياسية للغاية وتهدف إلى تحدي النقد الحالي للكثافة السكانية في المناطق الحضرية. فأنت تفهم من اللعبة أنه من المنطقي إنشاء مساحات كافية للاشخاص للخروج والاستمتاع بالهواء الطلق مع احترام التباعد الاجتماعي حتى لو كانت المدينة مكتظة بالسكان.
swissinfo.ch: وفقا لتعريف الأمم المتحدة للمدينة الكبيرة، لا توجد مدن ضخمة في سويسرا. هل يعني هذا أن المدن السويسرية لديها مقاومة أكبر لجائحة كوفيد – 19 بسبب انخفاض كثافتها السكانية وعدم تكدّس بناياتها؟
أندري غيربر: في الواقع ليس لدينا مدن ضخمة في سويسرا. ولكن بالإمكان اعتبار سويسرا بأكملها مدينة كبرى بحكم الواقع، ولكن تظل الكثافة السكانية للبلد الذي تشقه جبال الألب منخفضة نسبيا.
مشكلة سويسرا تكمُن في أن جميع المدن والبلدات والقرى مترابطة ومتقاربة للغاية بسبب وجود شبكة نقل عام فعالة، ونسبة كبيرة من الأفراد العاملين يتمتعون بحركة عالية، ومن الواضح أنه ليس بالأمر الجيّد لاحتواء انتشار وباء كوفيد – 19.
swissinfo.ch: يزعم العديد من الباحثين أن مدن المستقبل بحاجة إلى أن تكون أكثر محلية وموضعية، خاصة في حقبة ما بعد الجائحة. فقد استحدثت ملبورن بأستراليا مفهوم “مدينة 20 دقيقة”، حيث يكون متوفّرا كل ما تحتاجه تقريبا – التسوّق، وخدمات الأعمال، والتعليم، والمرافق الترفيهية والرياضية، والرعاية الصحية- في قُطر عشرين دقيقة سيرا على الأقدام، أو عبر ركوب الدراجة انطلاقا من المنزل. هل سيُصبح هذا النوع من التجمعات الحضرية المكتفية ذاتيا وسيلة فعالة للوقاية من الأوبئة؟
أندري غيربر: المثال الآخر هو المدينة التي تستغرق الحركة فيها خمسة عشر دقيقة والتي كانت تجري تجربتها في فرنسا. هذه الأفكار هي مُلهمة بالتأكيد ولا تتم مناقشتها في ملبورن أو في باريس فقط، ولكن أيضا في سويسرا.
بالمقارنة مع البلدان الأخرى، فإن المدن السويسرية أصغر حجما، لذلك يعيش السكان بالفعل في مدينة مدة الحركة فيها تستغرق خمسة عشر دقيقة. لكن في سويسرا، هذا شيء له ما يبرره من وجهة نظر الاستدامة وليس من منظور الصحة العامة. وبعبارة أخرى، لا يعتبر هذا المفهوم نهجا هادفا وفعالا لمنع الأوبئة.
وكما يتوقّع العديد من الباحثين، من المحتمل أن يظل كوفيد-19 متعايشا معنا إلى الأبد، وستظهر أوبئة أخرى. لذلك أعتقد أن المدينة المثالية الناجحة في المستقبل يجب أن يراعى خلال بنائها قدرتها على التكيّف مع التهديدات المختلفة- ليس فقط الأوبئة، ولكن أيضا الحروب والكوارث الطبيعية والمخاطر البيئية وكل حالات الطوارئ الاخرى. إذا كانت الأمراض المعدية ستصبح جزءًا من حياتنا، فيجب أن تكون المدن التي نعيش فيها أكثر مرونة وقدرة على التكيّف.
(نقله من الإنجليزية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.