المجالس البلدية في ليبيا.. أداة للمشاركة ومدرسة للديمقراطية
تُـعتبر المجالس البلدية المُنتخَبة، تجربة جديدة على اللّيبيين الذين عانَـوْا طيلة قُـرابة نصف قرن من اللِّجان الشعبية والمجالس البلدية المُعيّنة من الحكّام بلا مقياس، سوى الولاء لـ "القائد" الراحل معمر القذافي وحاشيته، مما جعلها مجرد ميليشيات تخدم الطُّغاة وتتسلّط على المواطنين.
عمليا، لمس الليبيون هذه الممارسة الجديدة في مستوييْن، أولهما الإنتخابات التعدُّدية والشفّافة، التي لا عهْد لهم بها من قبْل. وثانيا، الطريقة الديمقراطية في إدارة شؤون البلدية. وفي هذا الصدد، يقول حمزة عبد الله الناجح لـ swissinfo.ch، وهو مستشار الحُكم المحلّي بمشروع “بلديتي” ببلدية غريان: “تم انتخاب المجالس البلدية منذ سنة وبضعة أشهر، ولذا لدينا الآن مجالس بلدية وأخرى محلية”. وأضاف شارحا أنه “بعد الثورة برز جِسم تمّ تسميته بالمجالس المحلية في كل المناطق، وتمّ انتخاب أعضائه في انتخابات كانت الأولى بعد انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان الإنتقالي). فالمجالس المحلية، هي إذن مرحلة سابقة للمجالس البلدية، ولكن لأسباب أمنية وأيديولوجية وأخرى سياسية، لم تتم عملية الإنتخابات في بعض المُدن للإنتقال لمرحلة المجالس البلدية. ولهذا، لا تزال المجالس المحلية في بعض المُدن قائمة إلى اليوم”.
102 بلدية في ليبيا
مع اندلاع ثورة 17 فبراير وتشكيل المجلس الوطني الإنتقالي (حكومة مؤقتة)، تشكلت مجالس محلية بطريقة التوافق (تشكلت مجالس تسييرية بتوصيات من المجلس الإنتقالي إلى غاية شهر أغسطس 2012، حيث بدأت الإنتخابات لاختيار مجالس محلية)، إلى حين إجراء أول انتخابات بلدية.
انطلقت أول (*) انتخابات بلدية ديمقراطية في ليبيا يوم 30 نوفمبر 2013 في مرحلة أولى، تلتها مرحلة ثانية في 26 أبريل 2014 وشملت البلديات التي لم يجر فيها اقتراع في الموجة الأولى. وشارك في إعداد تلك الانتخابات الأولى وأشرف عليها، أربعون ألف موظف من أعضاء اللّجنة المركزية للانتخابات البلدية.
ثُم قامت اللّجنة المركزية للانتخابات لاحقا بالإشراف على عمليات انتخاب عمداء (رؤساء) البلديات في 91 بلدية حتى الآن (من أصل 102) بالرّغم من الوضع الأمني المُتدهْـور في غالبية مناطِق البلاد.
جاء قانون المجالس البلدية للتخفيف من حِدّة الحُكم المركزي، وتضُم مجالس البلديات سبعة أعضاء، من بينهم ممثل من الثوار السابقين الذين فقدوا أحد أطرافهم، إضافة إلى مقعد مخصص للمرأة.
(*) تجدر الإشارة إلى أنها كانت أول انتخابات بلدية فعلا، ولكنها لم تكن أول انتخابات في ليبيا، فقد سبقتها انتخابات المؤتمر الوطني التي أجريت يوم 7-7-2012، وتلتها انتخابات المجالس المحلية يوم 24-8-2012.
نقائص قانون البلديات
وعن سؤال حول دوْر المجلس المحلي، أجاب الناجح بأنه يشكِّل هيْئة مُنتخبة على المستوى المحلّي، لكنه لا يرقى إلى مستوى الخدمات التي يقدِّمها المجلس البلدي. ومضى قائلا: “لمسْنا اليوم تطوّرا في العمل الخدماتي مع مساهمة السياسيين فيه، والذين كان تأثيرهم كبيرا. كما كانت هناك دعوات لاجتماعات عقدها عُمداء (رؤساء) البلديات في ليبيا وبروكسل والجزائر والمغرب، وآخرها في تونس بمشاركة عشر بلديات من مختلف مناطق ليبيا من الجنوب والشرق والغرب، وقد انصبّ الإهتمام فيها على مواضيع سياسية وأخرى عملية للجواب على السؤال المركزي: كيف نقدِّم الخدمة للمواطن؟ وبفضل الممارسة، وقفنا على نقائص قانون 59 الصادر سنة 2012 والخاص بالبلديات الذي كان قانونا مُعطّلا نوعا ما، لاسيما في مسألة اللامركزية. فكيف نُحاول إرساء إدارة محلية من دون أن نُعطي الفُرصة والموارد اللّازمة لذلك؟ فأنت تُـكرِّس بهذا المركزية، بينما طبيعة العمل البلدي أن يكون قريبا من المواطن”.
وطرحت swissinfo.ch سؤالا على السيد حمزة عن المعايير المُعتمدة لتكوين مجالس بلدية في المدن، فضرب أمثلة من مُدن المنطقة الغربية، حيث أقيمت بلديات في المُدن الكبرى، مثل زوارة وصبراتة وغريان وزليتن، فعدَدُ سكّان غريان مثلا يقارب 200 ألف ساكِن، لكن المعوِّقات تتمثل بحسب ما قال، في انعدام الإمكانات أو ضآلتها. فزوارة مثلا تُواجِه تحدِّيات كبيرة، باعتبارها مدينة ساحلية وحدودية (مع تونس) في الوقت نفسه، مما حمل أعضاء مجلسها البلدي على القيام بوظائف كبيرة، اقتصادية وأمنية واجتماعية، بما فيها التواصُل مع الحكومة التونسية، كما قاموا بدحر وسِجن عناصر من التونسيين المحسوبين على “داعش” في ليبيا، بالتنسيق مع السلطات التونسية. ومضى حمزة ضاربا مثلا آخر ببلدية صبراتة، حيث تمّ اكتشاف حقْلٍ ضخْمٍ للغاز، وبفضل التوافق بين الحكومة الليبية والبلدية، تم تيسير مهمّة الشركة الإيطالية التي تعهّدت باستثمار الحقل، بما في ذلك ضمان الظروف الأمنية المناسِبة للقيام بمهامِّها.
عُمداء أتى بهِم الصندوق
من نماذج الممارسة الديمقراطية الجديدة في ليبيا، الطريقة التي تمّ بها اختيار عميد بلدية الكفرة (جنوب)، وهي من المدن الليبية الكبرى، إذ تنافس على المنصِب مُرشّحان وفاز به مفتاح بن خليل في إطار عملية شفّافة عبْر صندوق الإقتراع، أسْوة بسائر البلديات الأخرى. غير أن الكفرة شهِدت في الأسابيع الأخيرة قِتالا عنيفا بين قبيلتيْ “الزوية” العربية و”التبو” ذات الهوية الزنجية العربية، أدّى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى.
واللافت أن المجلس البلدي كان له دور بارز في إرساء الأمن في المدينة، بحُكم المِصداقية التي يحظى بها، إذ رعى مُصالحات كانت مُثمِرة في الفترة الماضية. إلا أن عناصر تنتمي إلى جماعات إرهابية، بحسب مراقبين، هي التي أشعلت فتيل القتال بعد الهجوم على نقطة تفتيش أمنية في المدينة أواخر شهر يوليو الماضي.
استقبال المُهجّرين
وعن سؤال عمّ إذا كانت للبلديات اهتمامات بالنشاط الثقافي، أوضح حمزة عبد الله الناجح أن المركز الثقافي في غريان مثلا رعى كثيرا من النشاطات الثقافية، مُشيرا إلى بُعد آخر يتمثّل في التواصل بين المجالس البلدية، وخاصة مع البلديات التي تعرّض سكانها للتهجير في الجبل الغربي. فقد وجّهت بلدية صبراتة دعوة للمُهجّرين في غريان، إذ استقبل سكّان بلدية غريان في أوقات الأزمة في الجبل الغربي، أكثر من 3000 عائلة مُهجّرة بسبب الحرب من مناطق مجاورة (طرابلس وورشفانة والقلعة ويفرن وككلة) بعضها منذ 2011 والأخرى منذ 2014، وحتى الآن لا تزال هناك عائلات مهجّرة ببلدية غريان من عدة مناطق، كالقواليش والعوينية وككله وغيرها. وفي المقابل هناك مُدن تعذَّر فيها إجراء الإنتخابات البلدية بسبب الوضع الأمني الخطِير، مثل مدينة الجْميل (بتسكين الجيم) التي دعت اللّجنة المركزية للإنتخابات إلى إجراء انتخابات بلدية فيها في ديسمبر 2013، لكن لم يكن ذلك مُمكنا.
وفي هذا السياق، قال حمزة لـ swissinfo.ch إن عدد البلديات في ليبيا ككل، يتجاوز المائة (102 تحديدا)، إلا أن المجالس المُنتخَبة والقائمة حاليا، لا تتعدّى 70 أو 80 مجلسا فقط. وأشار إلى أن بعض المُدن كان يُعتقَد أن مجلسا واحدا يكفي لإدارتها، لكن جرى تقسيمها إلى أربع أو ثلاث بلديات لأسباب عملية، ومنها بلدية الزاوية (300 ألف ساكن)، التي قُسِّمت إلى أربع بلديات.
إطفاء حرائق الصِّراعات القَبَـلية
وفي سياق متّصل أيضا، تحدث أبو عزوم اللافي، مستشار الحُكم المحلّي التابع لمشروع “بلديتي” ببلدية سبها عن الدور الذي لعِبه المجلس المحلّي في المدينة، في التقريب بين المتخاصِمين من قبيلتين غريمتين. وأكّد أن الوساطة التي قام بها المجلس البلدي، ساهمت في إطفاء الحرائق القَبَـلية التي تندلِع من وقت لآخر مُنذرة بدَمار كبير. واعتبر أن المجلس تجاوَز دوره الاجتماعي والبِيئي التقليدي إلى القيام بأدوار سياسية، تُعزز المشاركة في إدارة الشأن العام وترسّخ تقاليد المسؤولية والالتزام بالمواطنة لدى عامّة الناس. وكان سكّان سبها، عاصمة إقليم فزان (جنوب)، أقبلوا بكثافة على انتخاب أول مجلس بلدي في 3 مايو 2014 وسط انتشار أمني كبير حول مراكز الاقتراع، لكن من دون تسجيل خروقات لافتة.
بهذا المعنى، تكون ليبيا – رغم كل ما يكتنف أوضاع بعض مناطقها من اضطراب ومواجهات – بصدد التدرب شيئا فشيئا على المُمارسة الديمقراطية، بعد نصف قرن من الجمود الذي سبّبه الإستبداد. ومن الواضح أن المجالس البلدية والمحلية، هي أفضل مدرسة لتطبيق مبادئ التمثيلية والحوْكمة وشفافية الإدارة. فعلى رغم تبعية تلك المجالس لوزارة الحُكم المحلي، فهي تتمتّع في الوقت نفسه بصلاحيات واسعة، تجعل منها أداة للحُكم وإدارة الشأن العام، وليست مجرّد عيْن للحكّام للتلصُّص على شعبهم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.