المجتمع المدني في جنيف يُطلق مبادرات تعِدُ بعالم أفضل
تنشط على هامش البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية الحكومية في جنيف شبكة واسعة من الشخصيات ومؤسسات المجتمع المدني متعددة الجنسيات تساهم من خلال مبادراتها وأفكارها البديلة بفعالية في رسم صورة عالم ما بعد كوفيد-19، وفي تقديم إجابات مبتكرة لتحديات مستجدّة. ونكتفي هنا بتقديم ثلاثة منها.
في حديث أدلى به إلىswissinfo.ch على إثر صدور كتابه الأخير “126 قلبا ينبض من أجل جنيف الدولية”، نوّه الكاتب والمدوّن السويسري زاهي حداد، بحيوية وفعالية هذه المؤسسات الأهلية لما تتميّز به في عملها “من مرونة وقدرة على التدخّل السريع، وترك تأثير مباشر في ميادين مختلفة”.
هذه المبادرات لا تهدف فقط إلى تغيير الأوضاع الميدانية بل تنشد أيضا «تغيير حالتنا الذهنية ومنح البشرية نظرة جديدة للأشياء تمكنها من العيش في تناسق وانسجام مع بيئتها الإنسانية، ومع عوالم الحيوانات والنباتات من حولها”، يضيف حداد في حواره مع swissinfo.ch.
وتزداد أهمية هذه المقاربات خاصة في هذه المرحلة الاستثنائية التي تمر بها البشرية بسبب الأزمة الصحية الحالية نتيجة انتشار وباء كوفيد – 19، حالة كشفت هشاشة المكتسبات الإنسانية، وضرورة التفكير في عالم الغد بطريقة مغايرة، “لكن هذا العالم الذي نحلم به لن يتحقق بتغيير قانون هنا أو هناك، بل بتغيير جذري في نظرتنا للأشياء”، يقول حداد.
swissinfo.ch اختارت التحدّث مباشرة إلى بعض القائمين على هذه المبادرات المتميّزة التي ورد ذكرها في الكتاب، والهادفة إلى تعزيز السلام والحفاظ على البيئة والدعوة إلى مجتمعات إنسانية أكثر عدلا ومساواة، ولأنه – بفضل مبادرات من هذا القبيل – يزداد إشعاع جنيف في الداخل والخارج.
من أجل مجتمع أكثر عدلا ومساواة
على بعد أمتار من جنيف الدولية، تعيش روسيو ريستريبو، بعد أن لجأت إلى جنيف هاربة من جحيم النظام الاستبدادي في كولومبيا سنة 1999، وفي جعبتها شهادتان جامعيتان، في مجالي الاقتصاد والتجارة وتجربة مهنية تفوق 18 عاما.. ورغم ذلك عجزت عن الاندماج في سوق العمل بجنيف.
وبدلا من توجيه اللوم إلى المجتمع والقاء المسؤولية عليه، تقول ريستريبو في حديث إلى swissinfo.ch: “قررتُ الخروج لملاقاة النساء اللواتي يعشن تجارب مماثلة (80 امرأة في البداية) وإنشاء جمعية “ديكوفرير”رابط خارجي ( Découvrir أي “اكتشاف”) بهدف مكافحة ظاهرة هدر الخبرات، وتحسيس الجهات الحكومية والشركات بأهمية الانفتاح على النساء المهاجرات المتحصلات على شهادات علمية وخبرات طويلة في تخصصات متنوعة ومتعددة”.
ورغم أن الانطلاقة كانت شاقة وصعبة، بحكم أن هذه الجمعية لم تكن تحظى بأي اعتراف من السلطات في البداية، وكان يتعيّن عليها إثبات جدواها والحاجة إليها ولم يزد عدد المنخرطات فيها عن أربعين امرأة في السنة الأولى لانطلاقتها، لكنها اليوم تقدّم الدعم إلى أكثر من 700 امرأة في السنة في عدة كانتونات سويسرية.
وتضيف ريستريبو: “إن الإدارة السويسرية ذكية وتحسن إدارة الموارد المالية التي بين يديها، لكنها أقلّ انتباها إلى تثمين الخبرات القادمة من خارج سويسرا”. وبفضل تواصل هذه الجمعية مع الشركات خاصة، تقول ريستريبو: “تعيد بعض الشركات الآن النظر في الشروط التعجيزية التي تضعها للالتحاق بوظائفها كالتوفّر على حق إقامة دائمة (من صنف (Cأو الجنسية السويسرية”.
إن عالم الغد بحسب ريستريبو “يجب أن يمنح لجميع أفراده فرص استثمار خبراتهم وتجاربهم بشكل عادل، بعيدا عن أي تمييز بسبب الجنس او اللغة أو الانتماء الجغرافي”.
“بيت الأمل” من أجل السلام
مبادرة أخرى هذه المرة في مجال نشر ثقافة السلام والتقريب بين الشعوب، اشترك في إطلاقها زوجان: ميرا ريمر، السويسرية المسلمة من أصل إيراني، ودافيد ريمر، اليهودي من أصل كندي اللذان يتقاسمان الإدراك المشترك بأهمية “تغيير المسلمات الثقافية والتجارب الإنسانية من أجل تذوّق جمالية القواسم الإنسانية المشتركة”.
لكن رحلة قادت هذان الزوجان إلى منطقة النزاع في الشرق الأوسط (إسرائيل وفلسطين) في عام 2015 أحدثت نقلة كبيرة في فكرهما ونشاطهما. يقول دافيد: “خلال تلك الرحلة التقينا نشطاء سلام منخرطين في حوار حقيقي، بعيدا عن الصمت المحرج الذي يفرض نفسه في العادة عندما يتم التطرق إلى العلاقة بين الشعبين”.
أما ميرا، التي تحدثت في اتصال مع swissinfo.ch فلا تخفي اعجابها بتجربة أبي عواد، وهو سجين فلسطيني سابق شارك في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفقد شقيقه في صدام مع جنود إسرائيليين قبل عدة سنوات، ورغم ذلك تحوّل في الأخير إلى داعية للكفاح السلمي، يؤمن بأن “سلاحه هو إنسانيته، وأن قوة إنسانيته تكمن في قدرته على اقناع الآخرين”.
وفيما يلي فيديو يشرح أفكار أبي عواد، والأرضية التي تأسست عليها جمعية “بيت الأمل”.
استلهاما من هذه التجارب، قرر الزوجان بعد عودتهما إلى جنيف إنشاء جمعية “بيت الأمل” B8 OF Hope رابط خارجي“من أجل حشد الدعم لصالح دعاة السلام من الإسرائيليين والفلسطينيين الذين كانت لهم الشجاعة في التعبير عن قناعاتهم بأن هناك طريق آخر لتحقيق أهداف شعبيهما بعيدا عن الوسائل العنيفة”، تقول ميرا في حديث إلى swissinfo.ch.
وبالفعل، تضيف ميرا: “بسرعة اكتشفنا وجود العشرات من المجموعات في إسرائيل وفلسطين التي تناضل من أجل نشر ثقافة السلام، واليوم نحن ندعم 16 منظمة غير حكومية على الجانبيْن”. وبعض هذه المنظمات إما ممثلة لأسر ضحايا فقدوا أبناءهم في هذا النزاع أو هيئات ممثلة لمقاتلين فلسطينيين وجنود إسرائيليين ألقوا سلاحهم وتبنوا شعار “المقاومة المشتركة من أجل العيش في سلام”.
فدعاة السلام هؤلاء، تضيف ميرا “يؤمنون بأن ما حدث قد حدث، وإذا كنا لا نستطيع تغيير الماضي، فلابد أن نعيش الحاضر بنظرة مشتركة متفائلة تجاه المستقبل”.
وكما تقول هذه الناشطة من أجل ثقافة السلام، يريد أصحاب هذه المبادرة “استلهام روح التسامح التي تميّز مدينة جنيف واللطف الذي يسود العلاقات بين مجموعاتها السكانية المختلفة في خلق واقع جديد داخل إسرائيل وفلسطين يقوم على الاحترام المتبادل وضمان حياة كريمة للجميع”.
من لاجئ إلى مستثمر في البيئة
تتعلق الحلقة الثالثة في هذه السلسلة من المبادرات التي تجد لها جذورا في جنيف والحالمة بعالم أكثر إنسانية وعدلا بمسيرة نات فيوم، الذي قدم إلى جنيف لاجئا مع أسرته في عام 1980 وهو لايزال رضيعا، بسبب الحرب بين جنوب فيتنام وشماله. وفي جنيف، كبر فيوم، ودرس ليتخرج في الأخير مهندسا من المدرسة العليا للتجارة بلوزان.
يقول فيوم متحدثا إلى swissinfo.ch عن محطة مهمة في حياته سوف تغيّر نظرته إلى الواقع بطريقة جذرية “بعد حصولي على الجواز السويسري سنة 1995، ذهبت مع أسرتي لزيارة بلدنا الأصلي، فوجدت نفسي لأوّل مرة في مواجهة مع مآسي الفقر والحرمان وانتهاك حقوق الأطفال في التعلّم والعيش الكريم، ما جعلني أشعر بأننا في سويسرا نعيش داخل فقاعة، وننسى خلال حياتنا اليومية المصاعب التي تعاني منها الشعوب الأخرى”. ثم يضيف: “هذا الامر آلمني ودفعني إلى التفكير في فعل شيء من أجل مساعدة الآخرين”.
بعد تجارب متعددة، وعلى إثر عثوره صدفة على إعلان يتعلّق بتكنولوجيا جديدة ابتكرها مهندس إسباني تحوّل الهواء الرطب بعد تنقيته من الملوثات إلى مياه صالحة للشرب، يقول فيوم: “مباشرة فكرت في مساعدة اللاجئين، خاصة وقد تزامن ذلك مع تصاعد النزاع في سوريا، ونزوح الكثير من السوريين إلى لبنان، اعتقادا مني بأن هذه الآلة لا يجب أن تبقى مركونة في مأرب”.
ونتيجة وعيه الحاد والمبكّر بالأزمة المرتقبة التي تنتظر العالم نتيجة نقص المياه في المستقبل، بادر فيوم إلى تأسيس “منشأة المياه” «Water Inception» في شكل منظمة غير حكوميةرابط خارجي، وبدأ في جمع التبرعات عبر آليات التمويل التشاركي، ما مكنه من جمع حوالي 30000 فرنك سويسري، اشترى بفضلها أوّل جهاز، تم تثبيته في مخيم للاجئين السوريين بطرابلس شمال لبنان، وبفضله سيتم قريبا انتاج 500 لتر من الماء الصالح للشرب كل يوم انطلاقا من الهواء الرطب، وقد استغرق ذلك منه جهد سنتيْن كاملتيْن.
وخلال عام 2019، أطلق فيوم شركة ناشئة جديدة لا علاقة لها بالمياه هذه المرة، لأنه كان لابد من إيجاد مصدر لتمويل مشروعاته الخيرية، ونشط مع شريك فيتنامي، في صناعة منتجات صديقة للبيئة، تُنتج في فيتنام وتُصدّر إلى بقية بلدان العالم، وتكون بديلة للمنتوجات المصنعة من البلاستيك، وقابلة لإعادة التدوير.
البداية كانت بإنتاج قصب الشرب (les pailles) المصنوع من البطاطس والمغنيسيوم، والقابل للاستهلاك أو إعادة التدوير بعد الاستخدام. في سويسرا، يوزّع هذا المنتج على المهرجانات الكبرى ويباع في متاجر “كوب”، إحدى أكبر سلسلة لمراكز البيع بالتجزئة في البلاد. في الأثناء، أعلن فيوم متحدثا إلى swissinfo.ch عن منتج ثان، تزامنا مع الازمة الصحية الحالية يتمثل في كمامات صحية معتمدة في سويسرا ومضادة للبكتيريات، وتباع اليوم في مراكز إدارات البريد، والهدف منها أيضا الحدّ من التلوث الذي يسببه رمي الكمامات غير القابلة للاستخدام أكثر من مرة واحدة.
جنيف مختبر الأفكار المبدعة
أما المنتج الثالث والذي هو بصدد الإعداد ويُعلن عنه لأوّل مرة، فيتمثل في صناعة سكاكين وملاعق وأشواك من مادة الأرز، قابلة أيضا لإعادة التدوير والتحلل، ويأمل فيوم أن تصل إلى الأسواق في شهر مارس المقبل. وتزداد أهمية هذه المنتجات الصديقة للبيئة بحسب فيوم “إذا ما علمنا أن الاتحاد الأوروبي، سوف يحظر ابتداء من شهر يناير المقبل بيع كل مواد مصنوعة من البلاستيك ومصمّمة للاستخدام مرة واحدة”.
ويعتقد فيوم الذي يعيش اليوم في مدينة نيون المجاورة لجنيف بأن “العالم بحاجة إلى مبادرات مستدامة بقدر ما تحافظ على البيئة وتحفظ مواردها من التبذير، بقدر ما تترك أثرا إيجابيا على الفئات الضعيفة”. ورغم يقينه بأنه “لا يمكن تغيير العالم بجرة قلم أو برمشة عين”، لكنه موقن بأن “كل شخص يمتلك القدرة على جعل هذا العالم أفضل متى امتلك الإرادة لفعل ذلك”.
إن هذه الأمثلة تجعل من جنيف، هذه المدينة الدولية الواقعة غرب سويسرا، مختبرا رائدا لإطلاق أفكارا خلاقة تروم رؤية عالم أكثر إنسانية وعدلا وسلاما تماما مثلما احتضنت في الماضي مبادرات كبرى تجسّدت لاحقا في هيئات متعددة الأطراف استفادت البشرية منها كاللجنة الدولية للصليب الأحمر التي أسّسها هنري دونان في عام 1864 أو عُصبة الأمم التي انطلقت أشغالها قبل قرن من الآن.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.