المسيرة الطويلة للوصول إلى إلغاء عمل الأطفال
أعلنت الأمم المتحدة عام 2021 سنة دولية للقضاء على عمل الأطفال. في سويسرا، تم حظر عمالة الأطفال منذ القرن التاسع عشر، لكن الأطفال العاملين في المصانع السويسرية تعرّضوا لما يُشبه الاستعباد خلال مرحلة الثورة الصناعية وعمل الكثير منهم إلى حد الإغماء. أما الفضل في منع هذه الممارسات في وقت مبكر نسبياً فيرجع إلى أحد الأشخاص المغرّدين خارج السرب السياسي.
“مطلوب عمال: مطلوب أسرتان كبيرتا العدد، أي لديهما أطفال قادرين على العمل، وستجد مكاناً جيّداً في مصنع للغزل الفاخر”.
بهذا الإعلان في جريدة “أنتسايغر فون أوستر” (صحيفة محلية تصدر بالألمانية في كانتون زيورخ)، أعلن صاحب مصنع سويسري في سبعينيات القرن التاسع عشر عن حاجته إلى عمال. وكان من البديهي حينها أن يضطر أبناء العمال للمشاركة في العمل الشاق. وصحيح أن عمل الأطفال لم يبدأ فقط مع إنشاء المصانع، إلا أن الثورة الصناعية حولته من جزء من الحياة اليومية العادية إلى شكل من أشكال الاستغلال.
وكان الفلاحون والعمال المنزليون ينظرون لأطفالهم قبل الثورة الصناعية على أنهم قوة عاملة. فقد كانت الأسرة في المقام الأول جماعة عاملة، وأما عمل الاطفال فقد كان أساسياً. فبمجرد أن يبلغ الطفل السن التي يستطيع فيها المشاركة، فإنه كان يساعد بالعمل في المزرعة أو في الورشة. إلا أن العمل الشاق كان مقتصرا على البالغين. ولم يكن الأطفال يمارسون إلا الأعمال التي تناسب قوتهم البدنية. لذلك فإنهم لم يكونوا قوة عاملة كاملة.
الثورة الصناعية تطال الأطفال
ثم ما لبثت عجلات الثورة الصناعية أن وصلت إلى سويسرا. ففي القرن التاسع عشر، ظل مفهوم اعتبار الطفل كقوة عاملة سائداً وتحول المشهد فقط من المزرعة إلى المصنع. وهناك بدأ الاستغلال الحقيقي: فبخلاف العمل في المزرعة لم يعد في المصنع فرق بين عمل البالغ وعمل الطفل. إذ أن إدخال الخيط في ماكينات النسيج لا يحتاج إلى الكثير من القوة العضلية.
وأمام ماكينات النسيج والتطريز كان يجلس بصفة خاصة الكثير من “أطفال المصانع”. وكانت أغلب مصانع النسيج تقع في شرق سويسرا وفي كانتون زيورخ. فعلى امتداد بحيرة آباخ، بين بحيرتي “بفيفيكرزيه” و”غرايفنزيه”، نشأ مركز لصناعة النسيج، وتبعا لذلك نشأ مركز لعمل الأطفال. وكان حوالي ثلث العاملين والعاملات في هذه المصانع من الأطفال دون السادسة عشر.
بعض العائلات كانت تمتلك في بيتها آلة غزل أو ماكينة تطريز وكانت تعمل بهذه الطريقة لحساب مصانع النسيج الكبيرة. وحتى في هذه الأعمال المنزلية كان يتم استخدام الأطفال كعمال.
العمل من الصباح إلى المساء
لقد كان مصير أبناء وبنات الأسر التي تعمل في صناعة النسيج سواء في المصنع أو من المنزل محتوماً منذ وقت مبكر. فلم يكن لديهم فرصة لأن يتغيروا وفقاً لإرادتهم. فمنذ نعومة أظفارهم وهم يقضون معظم وقتهم في العمل الرتيب داخل البيت أو في المصنع، ونادراً ما كانوا يقضون وقتاً في المدرسة، أما اللعب فكان غير وارد لديهم بالمرة.
مقطع من موضوع تعبير لطفل في الثانية عشرة من عمره، يصف فيه حياته اليومية كطفل مهمته لضم الخيط في ثمانينات القرن التاسع عشر:
“بمجرد استيقاظي من النوم، يتحتم علي النزول إلى البدروم كي أقوم بلضم الخيط. يكون الوقت حوالي الخامسة والنصف. ويجب أن أظل أقوم بلضم الخيط حتى الساعة السابعة، بعدها يمكنني تناول طعام الفطور. ثم يتحتم علي لضم الخيط مرة أخرى، حتى يحين موعد المدرسة. وإذا انتهت المدرسة في الساعة الحادية عشرة فإنني لابد أن أرجع بسرعة للمنزل وأن أعود للضم الخيط حتى الساعة الثانية عشرة. ويمكنني بعدها تناول الغذاء ثم أعود للضم الخيط حتى الساعة الواحدة إلا ربع. ثم أرجع للمدرسة حتى أتعلم شيئاً مفيداً، وإذا انتهت هذه في الرابعة، فإنني أرجع مع زملائي إلى البيت. وعند وصولي للبيت فإنني أعود للضم حتى يحين الظلام، وقتها يمكنني الاستمتاع بوجبة العشاء. وبعد الطعام يجب علي أن أعود للضم حتى الساعة العاشرة، وأحياناً يتحتم علي لضم الخيط في البدروم حتى الساعة الحادية عشرة، وهذا إذا كان العمل مطلوباً على وجه السرعة. بعد ذلك ألقي على والديّ تحية المساء، ثم أذهب للفراش. وهكذا الحال في جميع الأيام”.
وقد تم استغلال الأطفال وهم دون سن السادسة في لضم الخيوط داخل إبر التطريز، حيث مارسوا عملاً معاوناً للمطرزين. فقد كانت عملية لضم الإبرة عملاً مضيعاً للوقت ويتطلب أصابع رقيقة، لهذا كان يقوم به النساء والأطفال في المقام الأول.
وإذا ما وصل هؤلاء الأطفال إلى سن المدرسة، فقد كان من الطبيعي أن يقضوا بجانب وقت المدرسة حوالي ست ساعات يومياً في لضم الخيط ـ وهذا في الصباح الباكر قبل المدرسة، وفي الظهيرة وبعد المدرسة وحتى ساعة متأخرة من الليل.
عمل الأطفال كعامل اقتصادي
كان من الطبيعي أن تتأثر صحة الأطفال بالعمل الكثير. وقد لاحظ المفتشون الأظهر المحنية والأعين الشاحبة والانطباع المرهق الخالي من القوة الذي يتركه الأطفال. وقد كتب أحد قساوسة أبنزل رودس – الخارجية في عام 1905 عن حياة الأطفال العاملين أن إرهاقهم الزائد يؤدي إلى أن يصبحوا “مرهقين، وناعسين ومنهكين، وأن تنعدم لديهم القدرة العقلية والجسمانية، وأن يكونوا غير منتبهين وأن يجلسوا مشتتين، بدون أن يُظهروا أي نوع من الاهتمام، وأن يشيحوا بنظرهم بسطحية ولامبالاة لكل شيء”.
لقد كان هناك نظام لاستغلال أطفال العاملين، إلا أن ذلك لم يكن بدافع الإيذاء أو التجاهل. فبسبب الرواتب المتدنية كانت العائلات في كثير من الأحيان تعتمد على الدخل الإضافي. فضلاً عن أن الطفل الذي ينشأ في عائلة من العاملين أو الحرفيين أو العمال كان لديه في بداية القرن العشرين مكانة أخرى تماماً عن تلك التي يتمتع بها اليوم. فقد كان لايزال يمثل لوالديه يداً عاملة في المقام الأول.
وقد رأى أصحاب الأعمال في هذا فرصة سانحة، إذ وجدوا في الأطفال قوة عاملة رخيصة جداً. واستنادأ إلى هذه الحجة الإقتصادية، كان الكثير من المواطنين من ذوي التوجه الليبرالي يدافعون عن عمل الأطفال. وهكذا كتب فيكتور بومرت، وهو واحد من أهم رجال الإقتصاد آنذاك، أن أفضل طريقة كي تواجه مصانع الغزل منافسيها من الدول الخارجية هو الاعتماد الحتمي على “عمل الأطفال والسيدات ذوي الرواتب المتدنية”.
انتقادات من الخارج
في أواخر القرن التاسع عشر ارتفعت الأصوات الناقدة بإطراد، حيث نُظر إلى عمل الأطفال على أنه مشكلة حقيقية. حتى أن بومرت، رجل الاقتصاد الذي اقتبسنا قوله سابقاً، أصبحت لديه تحفظات. فقد وصف عمل الأطفال بأنه “الجانب المظلم والمقلق للصناعة الحديثة”.
ومن المستغرب اليوم أن النقد الذي وُجّه لعمل الأطفال جاء من البورجوازية ولم يأت من أسر العاملين. فقد كانت هذه الأسر تخاف ألا تستطيع العيش بدون الرواتب الإضافية لأبنائها. وبرغم أن هؤلاء الساسة البورجوازيين قد أدركوا المشكلة، إلا أنهم لم يقوموا سوى بالقليل لتغيير الأوضاع. أما أول من ألقى حجراً في المياه الراكدة فقد كان أحد الساسة المُغرّدين خارج السرب.
أصوات منفردة ذات مهمة اجتماعية
في عام 1867، تقدم النائب المستقل في الغرفة العليا بالبرلمان الفدرالي فيلهلم يوس بأول مقترح لوضع قانون فدرالي للمصانع. وكان ابن مدينة شافهاوزن هذا معروفاً بتكريس نفسه للدفاع عن الفئات الأضعف في المجتمع. وكان هذا في وقت لا تثير فيه مثل هذه الموضوعات الاجتماعية سوى الاستهجان. وبينما كان يُنظر إليه أثناء حياته على أنه شخصية عنيدة، فإنه يُعتبر اليوم سياسياً صاحب رؤية.
حينما تقدم يوس بأول مقترح على المستوى الفدرالي، كانت لدى بعض الكانتونات بالفعل قوانين تنظم العمل داخل المصانع ـ بما فيه عمل الأطفال. إلا أن هذه القوانين كانت فضفاضة إلى حد بعيد وكانت متباينة بشدة في قواعدها.
وقد استغرق الأمر الكثير من الوقت حتى وجد مقترح يوس بسن قانون فدرالي آذاناً صاغية. إلا أنه في النهاية وتحديداً في عام 1877، أي بعد مرور عشر سنوات على التقدم بأول مقترح بهذا الشأن، سنت سويسرا أول قانون فدرالي للعمل بالمصانع. بهذا تم أيضاً منع عمل الأطفال. وقد كان القانون الفدرالي الأول للعمل بسويسرا واحداً من أشد قوانين العمل في العالم صرامة. وقد أطلق عليه الوزير الفدرالي الاشتراكي السابق هانز بيتر تشودي أنه “إنجاز رائد بالمعايير العالمية”.
عمل الأطفال بعد سنّ قانون المصانع
نظرياً كان من المفترض أن يختفي الأطفال بعد ذلك من المصانع. لكن حتى يتم احترام القانون الجديد في كل أرجاء سويسرا تطلب الأمر مرور بعض الوقت. ففي كانتون تيتشينو على سبيل المثال، ظل الأطفال يعملون بالمصانع حتى بعد مرور عشرين عاماً على دخول هذا القانون حيز التنفيذ.
صحيح أن الأمر قد استغرق وقتاً، إلا أنه رويداً رويداً بدأ عمل الأطفال يختفي من المصانع. بينما اختلف الأمر في مجال الزراعة، فقد استمر عمل الأطفال به حتى وقت متأخر من القرن العشرين. بل إن هناك الكثير من عائلات الفلاحين التي احتفظت بأطفال أيتام وغيرهم يعملون لديها مقابل إيوائهم وإطعامهم. ولم يتم تناول هذا الفصل الأسود من تاريخ سويسرا إلا قبل سنوات قليلة.
المزيد
طفولة مأساوية
غرامات تفرضها سويسرا على عمل الأطفال بالخارج
في الأثناء، اختفى عمل الأطفال من سويسرا تماماً. إلا أنه يحدث من آن لآخر أن يتم الإعلان عن شركات سويسرية تستفيد من عمل الأطفال بالخارج. وكان آخر مثال على ذلك هو شركة الأسمنت لافارج هولسيم التي اتُهمت بشراء مواد خام من شرق أفريقيا تم استخراجها بواسطة أطفال.
أما أن يتم محاسبة مثل هذه الشركات في سويسرا، فهو ما يطمح أصحاب مبادرة “مسؤولية الشركات” إلى تحقيقه. إذ تطالب هذه المبادرة الشركات السويسرية في الخارج بأن تعمل بمقتضى القوانين السويسرية. وهو مطلب مثير للجدل، ذلك أنه إذا تم قبول المبادرة، فإن هذا سيُصبح ضربة لسويسرا كموقع اقتصادي، حسبما يتوقع ممثلو الدوائر الاقتصادية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.