اليسار الأوروبي ينأى بنفسه عن الشيوعية الصينية في ذكراها المئة
بينما تستعد الصين لإقامة احتفالات كبرى هذا العام بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الحزب الشيوعي، لا تعير الأحزاب اليسارية في سويسرا وفرنسا وبريطانيا، أي اهتمام لهذه المناسبة وتنآى بنفسها عنها.
“إن الصين تلك التي تمارس اقتصاد سوق توسعي وسياسة تخدمه، لهي بعيدة كل البعد عن التعبير عن أهداف “الحزب العمالي و الشعبي رابط خارجيفي الكانتون الذي أنتمي إليه”، مثلما يقول جوليان غريسو، المستشار البلدي بمدينة لا شو- دو- فون.
يمتلك كل من الحزب العمالي والشعبي (Parti Ouvrier et Populaire) وحزب العمل في سويسرا (Parti suisse du travail) عشرة فروع موزّعة على الكانتونات التالية: نوشاتيل، وفو، وجنيف، وفاليه، وجورا، وتيتشينو، وبرن، وزيورخ، وبازل ـ المدينة، وسانت غالن. هذا بينما يُعدّ فرع كانتون نوشاتيل الأكثر نشاطاً من بينها.
ويحظى هذا الفرع من الحزب الشيوعي السويسري، الذي كانت الحكومة الفدرالية قد حظرته عام 1940، بشعبية متزايدة في مناطق جورا بكانتون نوشاتيل، ويبلغ عدد أعضاء الحزب العمالي والشعبي هناك حالياً حوالي 350 مناصراً.
ويتزايد عدد أعضاء هذا الحزب منذ 2019، خاصة بسبب صعود الحركات النسائية والمنظمات المدافعة عن المناخ. أما حزب العمل السويسريرابط خارجي، فيتراوح عدد أعضاءه في هذا الكانتون ما بين 1000 و1200 عضواً.
كذلك يحقق الحزب منذ عامين قدراً من النجاح في كانتون فو. “لم يحدث هذا منذ 12 عاماً قط”، مثلما تؤكد أمانة الحزب بالفرع المحلي في الكانتون. وينطبق هذا أيضاً على سويسرا الناطقة بالألمانية، حيث استعاد فرع حزب العمل بمدينة بازل نشاطه من جديد قبل عامين.
سياسيون تحت المراقبة
في سياق متصل، نجح أعضاء هذه الأحزاب اليسارية الراديكالية في الفوز بمقاعد في مجالس محلية على غرار تيو برنيار الذي يشغل خطة نائب رئيس بلدية مدينة لا شو -دو -فون.
وعلى بعد خمسة عشر كيلومتراً أخرى، في بلدية لو لوكل، يتولى عضو آخر من أعضاء الحزب العمالي والشعبي دفة الحكم منذ حوالي 25 عاماً، إنه دينيس دو لا رويسي، الذي انتخب أيضاً كنائب في الغرفة السفلى بالبرلمان الفدرالي السويسري (مجلس النواب)، وسار في ذلك على نهج والده شارل. حيث التحق هذا الأخير بالحزب العمالي وهو لا يزال في الثامنة عشر من عمره، وهذا بعيد تأسيس الحزب عام 1944.
“لقد كانت موضوعات الحملات آنذاك تتمثل في تعزيز تأمين الشيخوخة ومنح الأيتام القصر، وإعانات الأسر، والحصول على ثلاثة أسابيع كعطلة سنوية، وكذلك حق المرأة في الاقتراع والانتخاب”، مثلما يتذكر شارل دو لا رويسي في كتاب الصحفي نوربرت نوسباوم والذي يحمل عنوان “ذكريات عضو الحزب العمالي والشعبي ولاعب هوكي الجليد والرحالة المحبوبرابط خارجي“.
في نهاية ثمانينات القرن العشرين ذهل الشعب السويسري حينما تبين له أن أكثر من تسعمائة ألف مواطن ومواطنة ممن يؤدون وظائف حكومية، قد وضعوا تحت المراقبة، بسبب انتماءاتهم السياسية في المقام الأول (فضيحة الملفات السرية).
المزيد
من هم ضحايا المكارثية السويسرية؟
وقد كان شارل دو لا رويسي من بين هؤلاء الذين راقبتهم السلطات. وحينما تمكن هذا السياسي من الاطلاع على ملفه، لاحظ أنه ذُكِر فيه أن لديه علاقات بـ “شيوعيين من بلدية لا شو- دو -فون”. لقد أطلقوا عليَّ اسم ˈالشيوعيˈ، لكنني كنت ولا زلت عضواً بالحزب العمالي والشعبي. ولم يقم هذا الحزب أبداً بوضع ديكتاتورية البروليتاريا – وهي الهدف الذي تسعى إليه ˈالأحزاب الشيوعية الحقيقيةˈ – على لائحته”، على حد تصريحات هذا المناضل المبكر.
“في بداية الأمر كان الحزب العمالي والشعبي يضم مناهضي الفاشية وأعضاء سابقين بالحزب الاشتراكي والذين خاب أملهم في هذا الأخير، لأنه ساهم آنذاك في حظر الحزب الشيوعي. لقد كان قراراً غير ديمقراطياً بالمرة”، مثلما يقول السيد غريسو، عضو البرلمان المحلي بلا شو_دو_فون.
إلهام لليسار السياسي
أنجز المؤرخ بيير جانيريه بعض الدراسات حول الحركة العمالية في سويسرا. وبحسب هذا الخبير فإن الحزب العمالي والشعبي سجّل إقبالاً كبيرا عليه، حينما قام زعماؤه بـ “فك ارتباطهم بموسكو”. إذ يذكر على سبيل المثال عضو الحزب العمالي عن كانتون فو جوزيف زيزياديس، ودوره الهام في سويسرا أثناء تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.
آنذاك، كان هذا العضو بمجلس الشيوخ متواجداً في كل مكان، كما تميز بإصراره وحضوره الإعلامي اللافت. ويؤكد جانيريه أن المبادرات التي تقدم بها الحزب العمالي والشعبي كانت ولا تزال حتى اليوم “حافزاً” لكل اليسار السياسي.
“لقد ولدت فكرة الحد الأدنى للأجور بين صفوف الحزب العمالي والشعبي”، على حد قول المؤرخ. “وفي الوقت الراهن يدافع الحزب عن فقراء المجتمع، وعن موظفات السوبر ماركت، والبائعات، والعمال بقطاع الضيافة، وغيرها”.
فالاحتفال بمرور مائة عام على الشيوعية الصينية إذن يبدو أمراً شديد البعد عن انشغالات أعضاء الحزب العمالي والشعبي السويسري. وهذا برغم الآثار التي خلفتها الحركات الماوية في سويسرا.
ونذكر هنا على سبيل المثال نيلس أندرسون الذي ولد في سويسرا لأب سويدي، حيث طُرد في منتصف الستينيات من سويسرا، لأنه قام بنشر بعض الكتابات التي تدافع عن معاناة الشعوب في كل من الجزائر وفيتنام. بل أن أندرسون قد أصدر نسخة فرنسية من أفكار “القائد الكبير” ماو. أما اليوم، فإن الحركات التي لا تزال تدافع عن مثل هذه العقيدة، “لم يعد لها أي أثر على الإطلاق”، على حد قول جانيريه.
بريطانيا العظمى: صداقة وثيقة
إلا أن الصين الشيوعية لا تترك أوروبا وشأنها تماماً. فـ الحزب الشيوعي البريطانيرابط خارجي، والذي احتفل مؤخراً كذلك بالذكرى المئوية لتأسيسه، يسعى للوفاء لصداقاته القديمة. إلا أن هناك بعض الموائمات التي طرأت.
“في السابق كنا دائماً نتصرف بقدر من التضامن مع الشعب الصيني مقابل أي سيادة أجنبية. ولكن منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بدأت تطفو على السطح تباينات بشأن الطريق نحو المستقبل”، على حد قول أمين الحزب الشيوعي البريطاني روبرت غريفيث.
“إننا في بريطانيا العظمى نرى، أن الرأسمالية قد خنقت التطور البيئي والثقافي والسياسي. لكن الصين تعتمد الآن على الاقتصاد للتغلب على الفقر العام هناك”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب الشيوعي البريطاني كذلك شهد زيادة كبيرة في عدد أعضائه ومناصريه في عام 2020، كما استحوذ على صفوف من حزب العمال، والذي يقف منذ الانتخابات الأخيرة في عام 2019 على حافة الانهيار.
لقد نشأ هذا الحزب من اتحاد الحركات الماركسية والاشتراكية في عام 1920. وهو يضم اليوم أكثر من ألف عضو في إنجلترا، واسكتلندا وويلز. “فمنذ مؤتمرنا الأخير في عام 2018 سجلنا زيادة في أعداد طلبات الالتحاق تُقدّر بحوالي 30%”، بحسب تصريحات السيد غريفيث.
ولا تزال لافتة الحزب الشيوعي تحمل العقيدة التي لم تتزحزح: “يا عمال العالم، اتحدوا…”. أما بالنسبة لزمن ما بعد البريكست، فإن أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني يسعون إلى تحقيق مجتمع، توضع فيه خطط الإنتاج والتوزيع والتجارة لصالح الجميع. وهو برنامج يتطلب “تغييرا ثوريا للمجتمع وإنهاءًا للرأسمالية”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
اكتب تعليقا