التَقاضي المَناخي يحط الرّحال في سويسرا لِتَحَدّي الشرِكات الأكثر تَلويثاً للبيئة
لا تَزال قَضية التَقاضي المَناخي في سويسرا ضِد شَركة ‘هولسيم’ العملاقة لصناعة الاسمنت مُستمرة. ويُمكن لهذه القَضية التي تُعتَبَر الأولى من نوعها في البلاد، أن تَفتح الأبواب أمام تدفق المَزيد من الدعاوى التي تركز على ‘الخسائر والأضرار’ المناخية إلى الدولة الأوروبية التي تشقها جبال الألب.
في وقتٍ قريب، قد تصبح مَحكمة كانتونية تَقَع على بُحيرة تسوغ الخلّابة في سويسرا حلبة للمُواجهة حَول الطَرَف الذي يَجب أن يتحمَّل تكاليف تَغَيُّر المَناخ. وكان أربعة أشخاص من سكان جزيرة باري في إندونيسيا قد رَفَعوا دَعوى مَدَنية في شهر يوليو 2022 ضِدّ شركة “هولسيم” (Holcim)، أكبر مُنتج للأسمنت في العالم، فيما يتعلَّق بانبعاثاتها التاريخية من غاز ثاني أكسيد الكاربون، ومُساهمتها في ارتفاع مستوى سَطْح البَحَر الذي يؤثر على الجزيرة.
في مَركَز هذه الدعوى يَقَع تَقريرٌ حَول تاريخ انبعاث غاز ثاني أكسيد الكاربون لشركة ‘هولسيم’ (من 1950 وحتى 2021) صادِر عن معهد المُساءَلة المَناخيةرابط خارجي الذي يَقَع مَقَرُّه في سويسرا. وبِحَسب التقرير، ساهَمَت الشركة العملاقة من خلال أنشطة إنتاج الأسمنت التي تَمتَد من المَحاجِر إلى النَقل، في انبعاث أكثر من 7 مليارات طَنْ من غاز ثاني أوكسيد الكاربون منذ عام 1950. ووفقاً للدراسة، يُمَثِّل هذا الرقم نِسبة 0,42% من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الصناعية العالمية منذ عام 1750. وبالمُقارنة، تُقَدَّر انبعاثات سويسرا من هذا الغاز بـ 43.4 مليون طن سنوياً.
هذا هو أول إجراءٍ قانوني ضِدّ شركةٍ يقَعُ مَقَرّها في سويسرا بِسَبَبِ تأثيرها على تَغَيُّر المناخ. ومَع ارتفاع قَضايا التَقاضي المَناخي ضِدَّ كُبرى الشركات المُلَوِّثة في جميع أنحاء العالم، يُمكن أن يَفتَحَ هذا الفِعل الأبواب أمام دَعاوى مُماِثلة مَرفوعة في سويسرا. وإلى جانب ‘هولسيم’، تظهر شركة “غلينكور” (Glencore) إحدى أكبر مُوردي السِلَع والمواد الخام في العالم أيضاً في قائِمة “مُنتجي الكاربون الرئيسيين” لمَعَهد المُساءَلة المَناخيةرابط خارجي.
تَستَخدم مُنظَمة الإغاثة التابِعة للكنائس البروتستانتية (HEKS/EPER) غَير الحُكومية التي كَلَّفَت بإعداد هذا التقرير الرقم 0,42% في دَعمها للإجراءات المتَّخَذة من قِبَل سُكّان جَزيرة باري الأربعة. وهي تُجادل بأن على ‘هولسيم’ أن تَدفع بما يَتَناسب مع مُساهمتها التاريخية في تَغَيُّر المناخ، ما يَعني أنه يتعيّن عليها تغطية 0,42% من أضرار الفيضانات التي تَكَبَّدها الإندونيسيون الأربعة – أو حوالي 3,500 فرنك سويسري للشخص الواحد. ووفقاً لـمنظمة الإغاثة،رابط خارجي يهدف سكان الجزيرة من خلال هذا المَبلغ إلى المُشاركة في تمويل تدابير التَكَيُّف مع المناخ، مثل زِراعة أشجار المَنغروف، وبِناء السدود للسيطرة على الفيضانات في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، يُطالب سكان جَزيرة باري الأربعة بِخَفض شَركة ‘هولسيم’ لانبِعاثاتها العالمية من ثاني أكسيد الكربون بِشكل “فَوري ومَلحوظ”، من أجل الإبقاء على الاحترار العالمي في حدود لا تتجاوز 1,5 درجة مئوية، كما تَمَّ الاتفاق عليه في اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015. وهذه القضية التي تُرفَع تحت عنوان “دعوة من أجل العدالة المناخيةرابط خارجي“، هي حَملة توعوية تَتَعاون فيها منظمة الإغاثة التابعة للكنائِس البروتستانتية مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وإحدى المنظمات البيئية غير الحكومية من إندونيسيا، بِهَدف استخدام الطُرُق القانونية للضغط على السياسيين لِدَعم الجهود المبذولة لِخَفض الانبعاثات وتَقليل التَلَوُّث الكربوني.
ارتفاعٌ حادٌ في الحالات في جميع أنحاء العالم
في الواقع، فإن هُناك ما هو أكثَر على المَحَك مِن مُجَرَّد مَدفوعاتٍ تَدفعها ‘هولسيم’ لِسُكان جزيرة باري؛ ذلك أن صدور حُكمٍ لِصالح السُكّان المَحَلّيين من شأنه أن يُشكِّل سابِقة لدعاوى قَضائية مُماثِلة، سواء في سويسرا أو في أنحاء أخرى من العالم.
“يُمكن اعتِبار هذه الدَعوى جَديدة وغَير مَسبوقة لأنها تَجمَع بَين نَهجَين: الحَدْ من غازات الدفيئة وَدَفْع التَعويضات”، كما جاءَ في وَصْفِ مَركَز سابين لقانون تغَيُّر المناخ في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا في نيويورك لهذه القضيةرابط خارجي. وتُظهِر مُراجعة أجرَتها كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسيةرابط خارجي أن التقاضي بشأن المَناخ، أصبح مُمارسة مُتزايدة الأهمية لإنفاذ الالتزامات المَناخية التي تَعَهَدَّت بها الحكومات.
تُدرج قاعدة البياناترابط خارجي في جامعة كولومبيا أكثر من 2000 دعوى قضائية تتعامل مع قانون، أو سياسة، أو عِلم تَغَيُّر المناخ. وفي حين أن مُعظَم هذه القضايا قد رُفِعَت في الولايات المتحدة، إلا أن قضايا التقاضي المناخي جارية في أكثر من 40 بلداً، مُعظَمَها بُلدان صناعية. مع ذلك، فإن الدعاوى في الدول النامية تَزداد هي الأخرى، كما يشير أحدث تقرير صادر عن الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ (IPCC)رابط خارجي.
في السياق ذاته، وجدَ تَقريررابط خارجيٌ صادرٌ عَن بَرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن عَدَدَ القَضايا المُتَعَلِّقة بِالمناخ قد تَضاعَفَ تقريباً بين عامي 2017 و2020. وتَستَنِد غالبية هذه الدعاوى على انتهاكات مَزعومة للحَق في الحياة، أو الصَحّة، أو حقوق الإنسان الأساسية الأخرى. وتُظهِر مُراجعة كَمّية لهذه الإجراءات تَحقيق أكثر من نِصفها لِنَتائج إيجابية بشأن تغير المناخ.
من بين هذه الدعاوى التي رُفِعَت مُعظمها ضد حكومات، تبرز حالتان هما قرار المحكمة العليا الهولندية لعام 2019رابط خارجي الذي ألزَمَ هولندا بالحَدْ من انبعاثات غازات الدفيئة بِشَكلٍ أكثر صَرامة واتِساقاً، والحُكم الصادِر عن المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا في عام 2021رابط خارجي، الذي يرغم البلاد على تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2045 بدلاً من عام 2050. وقد ألهَمَت هذه الإجراءاترابط خارجي العَديد من الدعاوى القضائية التي تُشَكِّك في إجراءات الحكومات لِمُكافَحة تَغَيُّر المَناخ في جَميع أنحاء العالم.
هذه الدعاوى وجَدَت طريقها الآن إلى القطّاع الخاص. وهي تُرَكِّز على من يُطلَق عليهم تَسمية “مُنتِجي الكاربون الرَئيسيين” – وهي الشركات المائة – أو نحو ذلك – المسؤولة عن أكثر من 70% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية منذ فَجر العصر الصناعي، وفقاً لِقاعِدة للإفصاح رابط خارجي[تُلزِم الشركات المُتَداوَلة في البورصة بالإفصاح عن كل ما يرتبط بأعمالها من مخاطر المناخ والانبعاثات الغازية المُسَبِّبة للانحباس الحراري].
في هولندا أيضاً، أمَرت نَفْس المَحكَمة التي اعتَبَرَت تَدابير حِماية المَناخ في البلاد غير كافية، شركة النَفط البريطانية الهولندية العملاقة “رويال داتش شَل” بِخَفض انبعاثاتِها الكَربونية. وفيما اعتُبِر قَراراً تاريخياًرابط خارجي، استشهدت المحكمة صراحة باتفاقية باريس للمناخرابط خارجي، وتَوَقَّعت “عواقب وَخيمة” للشركة. وفي ألمانيا، رَفَعَت مُنظمة غَير حكومية دَعاوى ضد شركات صناعة السيارات ‘بي أم دبليو’ و‘مرسيدس بَنز’ و‘فولكس فاغن’ في عام 2021، بناء على السابِقة الناجِحة ضِد الحكومة الألمانية.
يعود تاريخ المُخَطَّط الاساسي للقَضية المَرفوعة ضِدَّ ‘هولسيم’ في سويسرا إلى عام 2015، عندما طالَبَ مُزارع بيروفي شركة “أر دبليو إي” (RWE)، أكبر مُنتِج للكهرباء في ألمانيا، بتعويضِه عن اضطِرارِه لِحماية مدينَتِه من ذوبان أحد الأنهار الجليدية. ولَمْ يُطالب المُزارع الشَرِكة بِتَعويضِه عن التَكلُفة الكاملة، ولكن عن حصة مُحَدَّدة فقط منها هي 0,47%، وهي النِسبة التي يُقَدَّر أنَّ شرِكة الكَهرباء قد ساهَمَت بها في انبعاثات غازات الدَفيئة العالمية مَنذ بداية التصنيع.
عند الاستئناف، أقَرَّت محكمة ألمانية مفهوم المسؤولية التاريخية. وفي مايو 2022، وفيما وُصِفَ بأنَّه خُطوة غَير مَسبوقة، سافَر قُضاة ألمان إلى بيرورابط خارجي لِفَحص خَطَر فَيضان النهر الجليدي، وتَقييم كَيفية مُساهَمة انبعاثات شركة “أر دبليو إي” (RWE) للكهرباء في هذا الخطر بالذات.
اختلافٌ في الآراء
كانت مَسألة إنشاء صندوق لِتَعويض “الخسائِر والأضرار” التي تَتَكَبَّدَها الدول النامية جَرّاء التَغَيُّر المَناخي هي الموضوع الساخِن في مؤتمر المَناخ “كوب 27” الذي عُقِدَ مؤخراً في مَصر. ويَرى ناشطون مِثل مُنَظمة الإغاثة التابعة للكنائس البروتستانتية في هذه التعويضات شرطاً “للعدالة المناخية”، ويطالبون المُتَسَبِّبين في ظاهرة الاحتباس الحراري بِتَحَمُّل مَسؤولية عواقِبِها. وهم يَرَون في الطريق القانوني وَسيلة لتحقيق ذلك.
من جهتها، ترى آن صعبرابط خارجي، الأستاذة المُساعِدة في القانون الدولي بِمَعهَد جنيف للدراسات العُليا، إمكانية أن يَلعَب التقاضي ضِدَّ “مُنتِجي الكاربون الرئيسيين” مثل ‘هولسيم’ دوراً في تأمين التعويضات وتَدابير التَمويل كما في حالة الحماية من الفيضانات. وقالت في رسالة بالبريد الإلكتروني بعثتها لـ SWI swissinfo.ch: “أعتقد أن هناك فُرصة حقيقية لِتَسوية القضايا المُتعلِّقة بالخسائِر والأضرار من خلال الإجراءات القانونية، حتى وإن تم التَوَصل إلى مُعظَم التَسويات خارِج المَحكمة عن طريق التَسوية”. ووفقاً لـ صعب، يمكن لإجراءات التقاضي بالتالي أن تُكَمِّل إجراءات الدولة الأكثر شمولاً فيما يتعلَّق بالخسائِر والأضرار.
رغم أن الأمر قد يَبدو غَير مَنطقي، إلّا أن الباحِثة القانونية لا تَستَبعد إمكانية تَحميل الشركات المَسؤولية عن الانبعاثات التي حَدَثَت في سياق نشاطٍ تجاري قانوني في الماضي. وكما توضح: “يَلعَب عِلْم المَناخ دَوراً مُهِمّاً في التَقاضي المَناخي. ومن المُهم هنا مَعرفة ما إذا يُمكن افتِراض عِلْم الطَرَف الفاعِل بالضَرَر الناجِم عن انبعاثات غازات الدفيئة، ومُنذ متى”.
لكن فالتر شتوفَّل، الأستاذ الفَخري في الاقتصاد والقانون الدولي الخاص في جامعة فريبورغ السويسرية يُبدي شكوكَه في هذا المجال. وكما يقول: “إذا كانت الانبعاثات قانونية بِموجب القانون المَحلي والسويسري في وقتِ حدوثِها، فإن تَحميل المَسؤولية القانونية يَكاد يكون مُستحيلاً”، لكنه يضيف: “مع ذلك، فإن المَعايير الدولية مُهمة أيضاً لِمسألة الشرعية، وهي آخذة في التَطَوُّر. وقد لا تَضطَر الشَرِكة إلى دَفع تعويضات، لكنها تَظَلُّ مُجبَرة على تَغيير سلوكها، إذا لم يَكُن هذا قد حدَثَ بالفِعل”.
سوف تَنظُر المَحاكِم فيما إذا كان بإمكان المُدَّعين مثل سُكان جزيرة باري إثبات تَسَبُّب الشركة التي يريدون مُحاسبتها في الضَرَر الذي عانوا منه. وفي القضية المرفوعة في سويسرا ضد ‘هولسيم’، أوضحت محامية المُدَّعين لورا دويرتي في حَدَثٍ جانبي نُظم أثناء قِمّة المناخ “كوب 27” إنهم يهدفون إلى إثبات ذلك في ثلاث خطوات هي: رَبط نشاط الشركة بأضرار الغلاف الجوي من خلال حساب مُساهَمَتِها في الانبعاثات الصِناعية العالمية، وإظهار تَسَبُّب التَغيرات الجَوّية في ارتفاع مستويات سَطح البَحر، وإثبات أن ارتفاع مُستويات سَطح البَحر يتسبب في فيضاناتٍ وأضرارٍ مُعينة.
أكثَر من مجرد قضية قانونية
مع ذلك، فإن مُقاضاة الشركات ليس حَلاً سِحرياً لِمُعالَجة مسألة الخسائِر والأضرار الناجِمة عن تَغَيُّر المناخ. كما أن المَسار القانوني لا يُستَخدَم لتعزيز حماية المناخ فَحَسْب، ولكن لعرقلتهرابط خارجي أيضاً. وكمثال على ذلك، رَفَعَتْ شركة “آر دبليو إي” دعوى قضائيةرابط خارجي ضِد هولندا بِسَبَب خطَّتها للتَخَلُّص التَدريجي من إنتاج الفَحم، وطالَبَتها بالتعويض.
تَعتَرِف صَعب بأن عدداً قليلاً جداً من الأفراد فقط قد يحصلون على تعويضات بموجب أمر قضائي، وهم في الغالب أولئك الذين يَحظون بِدَعم المنظمات غير الحكومية الدولية، والضالِعين بالنُظُم القانونية الأجنبية، ومِمَن لَديهم القُدرة على تَمويل الإجراءات طويلة الأمَد. وكما توضح صَعب، يوجد هناك بُعدٌ سياسي قوي للتوجّه القانوني حيث “يُمكن أن تكون تَسمية الشركات وفَضحَها أقوى من كَسبِ قضيةٍ في المحكمة. والتقاضي بشأن تَغَيُّر المناخ هو أكثر بِكَثير من مُجَرَّد قَضية قانونية”، حسب رأيها.
في القضية السويسرية ضد ‘هولسيم’، التي تحظى بدعم منظمة الإغاثة التابعة للكنائس البروتستانتية، فَشَلَتْ مُحاولة التوفيق الإلزامية في شهر أكتوبر الماضي. وكما كَتَبَتْ المُحامية لورا دوارتي في رسالة نَصّية إلى SWI swissinfo.ch: “كانت مواقف الطَرَفَين مُتباعدة للغاية”. ولدَى سُكّان جَزيرة باري في إندونيسيا الآن حتى نهاية يناير 2023 لِتَقديم دَعواهم إلى مَحكَمة كانتون تسوغ، وهي المَرحَلة التالية من الإجراءات المَدَنية.
(*) آريان لوتي دبلوماسية سابقة ومتخصّصة في حقوق الإنسان لدى شركة هولسيم. وهي تعمل كصحفية منذ عام 2020.
تحرير: فيرجيني مانجين
ترجمة: ياسمين كنونة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.