الضغط الشعبي قد يُسفر عن “تعديلٍ” في أسلوب إدارة الشأن العام
مثلت حملة "طلعت ريحتكم"، حدثا مفاجئا للجميع وفي المقدمة، الأحزاب والطوائف اللّبنانية بكل تصنيفاتها. فعشرات الآلاف من الشبّان والفتيات، الذين نزلوا بكثافة ولا يزالون، للشوارع والساحات في قلب بيروت، فعلوا ذلك بعيدا عن الحسابات الطائفية والحزبية، بل وتحرّكوا في اتّجاهٍ مُعاكِس لمصالِح الأطراف المتحكّمة في الوضع اللبناني منذ إعلان اتفاقية الطائف قبل ربع قرن وحتى اليوم.
هناك “شيء ما” يحصل في صُلب هذا البلد، وذلك بالرغم من المناخ الداخلي الصّعب والمعقّد، إلى جانب المناخ الإقليمي الملتهِب والمتفجِّر. ففي لبنان تتفاعل حركة احتجاجية متصاعِدة، رغم مرور أكثر من شهر على اندلاعها.
عندما تنزل من الطائرة وتختلط باللبنانيين، تجِد الجميع لا حديث له إلا الهجوم العاصِف والناقد بقوّة للسياسيين الذين يُديرون شؤون البلد منذ سنوات طويلة، دون أن يخرجوها من وضعها الصّعب. قال لي سائق التاكسي بكل ألَم، وسِنُّـه قد قارب الستّين عاما: “أرهقنا هؤلاء السياسيون وجعلونا نكره حياتنا في هذا الوطن العزيز الذي فقد بهاءه وروْنقه، ولم يعد لبنان الذي عرفناه في الستينات وحتى خلال التسعينات”.
المزيد
لبنان: انتفاضة “ربيعية” على حدّ السكين الطائفي
بدأت القصة بإغراق العاصمة اللبنانية بأطنان من النفايات، بعد القرار الذي اتّخذه جنبلاط بمنع استمرار دفنِها في المنطقة الخاضِعة لسلطته. لكن الوزير السابق، شربل النحاس، يلخِّص المشكلة في قوله، أن “مشاهد القمامة التي تملأ الشوارع اليوم، ليست إلا جريمة شاركت في صنعها أيادي الزعماء الذين عمدوا إلى ملء جيوبهم على حساب شعبهم”، ولهذا، لم يكتف المتظاهرون بالإحتجاج فقط على أكداس القمامة التي لوّثت إحدى أكثر العواصم العربية جمالا، وبدل أن تكون رائحة بيروت هي التي أزكمت الأنوف، قلبوا الآية ورفعوا شعار “طلعت ريحتكم”، أي ريحة الطبقة السياسية بجميع مكوِّناتها.
لا تزال الطائفية قوية ومتجذِّرة في لبنان، وفي هذا الصدد، يعتقد زياد عبد الصمد، المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنميةرابط خارجي، وهو أحد نشطاء المجتمع المدني الفاعلين، أن النظام الطائفي في لبنان غير مهدّد بسقوط قريب، لكنه يتلقّى اليوم رسائل قوية من اللّبنانيين الذين أدرك شبابهم بالخصوص، أن هذا النظام قد استنفد أغراضه وأنه لم يعُد قادرا على حماية البلد أو تحقيق مصالِح المواطنين.
ما قاله عبد الصمد، يردِّده كل المشاركين في هذا الحِراك الإحتجاجي. هناك شكلٌ من أشكال سحب الثقة من النظام السياسي اللبناني القائم، والذي أصبح – حسب اعتقاد عديد المثقّفين اللبنانيين – مُنتِجا باستمرار للأزمات.
.. المشكلة هي النفايات السياسية
يقول المعلِّق السياسي راجح الخوري “ليست الزبالة التي ترتفع جِبالاً في شوارع بيروت والمدن، هي المشكلة التي نراوح فيها، المشكلة هي في نفايات السياسة، التي من عجزها تستفرغ هذا المِقدار من الزّبالة، والتي لن يكون في وُسع لبنان وشعبه اللطيم والبهيم والغشيم [تكراراً] أن يجد حلّاً لها كما يحصل في الدول البدائية، لأن ما اعتبرناه دائماً نِعمة دمّرناه بحماقاتنا فصار في هذا الزمن الرّديء نِقمة، وبكلّ صراحة أقول إن المقصود هو التعددية والتوافق!”، ويضيف الخوري قائلا “نعم وبِلا تردّد وبعيداً من الرومانسيات، التي طالما تَغنّيْنا بها، أقول إننا جعلنا التعدّدية نِقمة والتوافُق لَعْنة، لأن التوافُق في إطار التعدّديات الطائفية والمذهبية المتناحرة في هذا الشرق الأحمق، مستحيل..”.
هناك كثيرون يختلفون مع الخوري ويعتقدون بأن التوافق ليس مستحيلا في لبنان أو في غيره، وإنما احتكار السياسة من قِبل الطوائف والأحزاب، هو الذي يُمكن أن يؤدّي إلى حالة الشّلل السياسي والمؤسّساتي التي بلغها لبنان بعد سلسلة من الأزمات. فلبنان حاليا بدون رئيس للجمهورية، نتيجة عدم توافق المسيحيين، والبرلمان اللبناني في حالة جمود إجباري، بعد أن عجزت الأحزاب عن تنظيم انتخابات تشريعية، ممّا جعل النواب يمدِّدون لأنفسهم، دون الرجوع إلى ناخبيهم، والحكومة تُراوِح مكانها، دون دليل أو وضوح. وعندما تصبح المؤسسات غيْر فاعلة ولا ممثلة لمواطنيها، يتحرك الشارع ويصبح البحث عن الديمقراطية المباشرة أو ما يشبهها، ضرورة حيوية لضمان بقاء المجتمع والدولة.
لا توجد جِهة محدّدة ومتّفق عليها تتولّى قيادة الحِراك الإحتجاجي في لبنان. ومع ذلك، يُوجد توافق ضِمني بين مختلف الفعاليات حول الإعتقاد بأن البلاد لا يمكن أن تستمِر على هذه الحال. في مثل هذه الأوضاع، يتدخّل الشعب ويصنع آلياته ويبتكر أساليبه للتعبير وفرض مطالِبه والدفاع عن مصالحه. ولهذا، عندما رفع شعار “طلعت ريحتكم”، تجاوب معه الجميع بشكل تِلقائي، وبحماس فيّاض.
وعندما شكّك السياسيون في مِصداقية الجموع الشبابية التي تحرّكت وتم اتهامهم بأن هناك جِهات مُعادية للبنان هي التي تغذّي حالة التمرّد الجماعي، كان الردّ على مثل هذه الإتهامات، هو الإستمرار في الإحتجاج والْـتحاق جزء من شباب الأحزاب إلى جانب قِطاعات واسعة من أبناء الطوائف بالحراك، وهو ما عكس وجود وعْي سياسي ما فوق طائفي، وعي يخترِق الحواجز المذهبية والحزبية والمناطقية، ويدلّ على أن لبنان يواجه أزمة وجود بالمعنى البنيوي العميق.
ما يُثير الدّهشة في لبنان، أن هذا الحراك الإحتجاجي المتواصل، يتم في وضع داخلي وإقليمي شديد الصعوبة وبأقل الخسائر. فالأزمة الإقتصادية تزداد حِدّة يوما بعد يوم، ووجود أكثر من مليون سوري هربوا من جحيم الحرب الأهلية، يُضاعف من حجم المصاعِب داخل لبنان، والإشتباكات الأمنية بين الأطراف اللبنانية مُستمِرة، وانخراط حزب الله في الحرب السورية مقابِل وقوف أطراف سُنِية سلفية وغيرها ضد الأسد وحلفاءه، يشكِّل مِحورا هاما من محاوِر الوضع المتفجّر داخل لبنان، هذا بالإضافة إلى استمرار التحرّشات الإسرائيلية.
العودة إلى تنشيط “الحوار الوطني”
لبنان كان من أوائل الشعوب التي مارست الإحتجاج الديمقراطي عندما كانت المنطقة العربية خاضِعة كليا للإستبداد مواطن لبناني
رغم ذلك كله، تتأكّد يوما بعد يوم أهمِية الإحتجاج القاعدي المُتصاعِد بأشكال سِلمية، باستثناء بعض الإشتباكات التي حصلت بين الشباب المحتجّ والقوات الأمنية. يقِف لبنان على فوهة بركان، لكن رغم ذلك، هناك إرادة شعبية وتوافُق إقليمي ودولي لمنع انهيار لبنان، كما حصل في عشية اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.
عند الإطِّلاع على الكمّ الهائل من الشِّعارات وصور الكاريكاتير والأشكال التعبيرية المُبتكرة، يُدرك المراقبون الرصيد الذي يملكه اللبنانيون في مجال المعارضة الشعبية ضد سياسات مصادرة إرادتهم. قلتُ لأحد المواطنين “يبدو أنكم تأثرتم بأدوات الثورة التونسية..”، فابتسم قائلا: “لعلّك نسيت بأن لبنان كان من أوائل الشعوب التي مارست الإحتجاج الديمقراطي، عندما كانت المنطقة العربية خاضِعة كليا للإستبداد”.
رغم إحساس الكثيرين ممّن يقودون هذا الحِراك الإحتجاجي بأن ما يقومون به قد لا يؤدّي إلى ثورة على النمط التونسي، لأنهم يُدركون مدى تكلّس الهياكل الرسمية والموروثة، إلا أنهم يشعرون بوجود هامِش يسمح لهم بتحقيق بعض المكاسب. لقد نجحوا في حشْر الطبقة السياسية في زاوية حادة، وتم نقل ملف النفايات من وزير إلى آخر واتُّخِذت إجراءات، من شأنها دعْم صلاحيات البلديات التي تعتبر جزءً هامّا من إقامة الحُكم المحلي، وفرضوا محاسبة بعض الأمنيين الذين وُجِّهت لهم تُهمة الإعتداء بالعُنف على المحتجّين من الشباب. ونتيجة ذلك كله، يحاول السياسيون اليوم البحث عن مَخرَج من خلال العوْدة إلى تنشيط ما يُعرف بـ “الحِوار الوطني”.
الإحتجاجات مستمرة في لبنان والمأزق السياسي قائم برمّته، لكن المؤكّد أن الضغط الشعبي سيؤدّي حتْما إلى تعديلٍ في أسلوب إدارة الشأن العام، حتى وإن كان كسْر المنظومة الطائفية لا يزال أمرا مُستبعَدا، حسب اعتقاد الكثيرين. لهذا، فإن الإدعاء بتبخّر الربيع العربي يُعتبر موقِفا متسرِّعا، إلى أن تتّضح الرُّؤية النهائية لمتغيِّرات متسارعة لا يعرف أحد متى وأيْن سيكون مُستقرّها.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.