جون زيغلر: “دماغ الوَحش موجود في سويسرا”
في باريس، دَفَعَهُ كُلٌ من جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار لِلَعب دورٍ سياسي، بينما أعطاه تشي غيفارا نَصائح مِهَنية عندما كان سائِقاً له في جنيف. يُعتَبَر أستاذ عِلْم الاجتماع جون زيغلَر واحداً من أكثر مُنتقدي الرأسمالية والمُمارسات التجارية السويسرية. SWI swissinfo.ch أجرت معه هذا الحوار.
المَنظر الطبيعي من شُرفة منزل جون زيغلر في ‘روسّين’ رائِع جداً. فمِن هذه البلدة التي لا يَزيد تعداد سكانها عن 530 شخصاً، والتي تَقَع على بُعد خمسة عشر دقيقة فقط بالقطار من جنيف، يمكن للمَرء أن يتأمل جبل “مون بلان”، أعلى جبال سلسلة الألب وأوروبا الغربية.
يُعَدّ جون زيغلَر البالغ من العمر 88 عاماً حاليا، والذي يَعتَبِر نفسه ثورياً إلى اليوم، من أهَم المُفكرين في سويسرا. ورغم تَرجَمة كُتُبِه إلى عشرات اللغات، إلّا أنه مُثقَلٌ بالديون بِسَبَب الدَعاوى القضائية المَرفوعة ضد هذه المؤلفات. السياسي، والكاتب، والاستاذ الجامعي المُتخصص بشأن قضايا الأمن الغذائي في العالم، والمفوّض السابق للأمم المتحدة يَفتَح زجاجة نَبيذ مَحلية من نوع ‘ميرلوت‘ ويبدأ حديثه معنا.
SWI swissinfo.ch: أنت تُعتَبَر واحداً من أشَد مُنتقدي سويسرا، ما الذي جعلك كذلك؟
جون زيغلر: لقد وُلِدتُ في أسرة من الطبقة المُتوسطة في سويسرا، وعشتُ طفولة سعيدة وإن كانت مُحافظة جداً. مع ذلك، كانت مشاهد الفَقر تُصيبني بالصَدمة. كان والدي يقول دائمِاً: “هذه مَشيئة الله”. لكن ما كانوا يسمّونه القَضاء والقَدَر كان وَضعاً لا يُطاق بالنسبة لي.
خلال دراستي في باريس في خمسينيات القرن الماضي، مَنَحني جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار أخيراً الأدوات اللازمة لِفَهم العالم والنِضال من أجل التغيير. ومن خِلالَهما، أصبح الكتاب سلاحاً بالنسبة لي. كانت دي بوفوار أيضاً هي من أَطلَق علي اسمي. فعندما رَأَت اسمي الأصلي [هانز] على أول نَصٍ قُمتُ بكتابته لـمجلة Les Temps Modernes (الأزمنة الحديثة)، سألتني: “ما هذا الاسم”؟ قالت لي أن هذا ليس اسماً، وشَطَبَت عليه واستبدلته باسم ‘جون’.
يُعَدّ جون زيغلَر البالغ من العمر 88 عاماً، والذي كان يعمل كأستاذ لعلم الاجتماع في جامعة جنيف، أحد أشهر المُناهضين للعَولَمة في العالم.
كان عضواً في البرلمان السويسري لفترتين (1967-1983) و(1987 -1999) عن الحزب الاشتراكي، كما شغل منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء.
يشغل حالياً منصب خبير ونائب رئيس اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
كتب العديد من الكتب الأكثر مبيعاً، لكنه تَعَرَّض أيضاً لانتقادات مُتكررة بسبب صِلاته بحكام دكتاتوريين مثل معمر القذافي وروبرت موغابي. يعيش مع زوجته إيريكا في بلدية روسين (Russin) الواقعة في كانتون جنيف.
ما هو الدور الذي لَعِبَه تشي غيفارا بالنسبة لك؟
كنت أعمل كسائقٍ له [خلال مشاركة كوبا في مؤتمر السُكَّر العالمي الأول للأمم المتحدة] في جنيف. وعشية رحيله، استَجمَعتُ شجاعتي وقلت له: “سيدي القائد، أريد أن أذهب معك”! لكنه أجابني بأن أشار إلى المباني المُضيئة وَسَط جنيف وقال: “إن مكانك هنا. هنا يكمُن دماغ الوَحش، ومن هنا يجب أن تقاتل”. لقد أعطاني تشي استراتيجية النضال: التكامل التخريبي. يجب أن يكون الهدف هو اختراق المؤسسات واستخدام نفوذها لأغراضي. وهكذا أصبحتُ أستاذاً جامعياً وعضواً في البرلمان، وحتى مُقرراً خاصاً لدى الأمم المتحدة.
كنتَ عضواً في البرلمان السويسري من عام 1967 إلى عام 1999. وفي عام 1989 حَصَلتَ على جائزةٍ لتقديمك 38 مشروع قانون في عام واحد – وهو رقم قياسي. هل ساهَمَ دخولك إلى عالم السياسة في إحداث فَرق؟
نعم، على الرَغم من عدَم امتلاك البرلمان في سويسرا لأي سُلطة فِعلية. انت كعضو في البرلمان لا تحصل سوى على القليل جدًا من المال. لذا، إذا تم انتخابك – وفي حال كنت تنتمي إلى الحزب الصحيح بالطبع – فسيتم تعيينك في مجالس إدارات الشركات الكبرى مثل ‘نستله’ و‘روش’ و‘يو بي أس’ و‘كريدي سويس’، حيث تَكسَب مئات الآلاف من الفرنكات، وتصبح مُرتزقاً بالتالي.
كمثال على ذلك، مارسَت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ضغوطاً من أجل تشديد قوانين مكافحة غسيل الأموال، لأن المحامين الذين يقومون بفَتحِ حسابات خارجية غير مشمولين بهذه القوانين في سويسرا. لقد اقتَرَحَت الحكومة هذا القانون تحت الضَغط، لكن البرلمان رَفَضَ الاقتراح في سبتمبر الماضي. الأوليغارشية المصرفية تتمتع بالأغلبية دائماً.
عضويتك في البرلمان لم تُساعد كثيراً إذن؟
ليس تماماً. بصفتك عضواً في البرلمان، يمكنك أحيانًا خَلق الشفافية وعَرقَلة الطريق [أمام الآخرين]. لقد أيَّدَت سويسرا نظام الفَصل العُنصري حتى نهايته. في عهد الرئيس ريغان، كانت تجارة الذهب من جنوب إفريقيا قد حظُرِت حتى في أمريكا. لقد شَجَبتُ هذه الفضيحة بصفتي برلمانياً، حيث كنتُ قد تلقيتُ معلومات من المخابرات الأمريكية حول ذلك. وقد بَيَّنتُ لِلُجنة الشؤون الخارجية حينذاك أن شركة الطيران السويسرية “سويس إير” كانت تقوم برحلات خارج عملياتها الرَسمية لِنَقل الذَهب الجنوب أفريقي.
أنت تُعتبر أيضاً أحد المسؤولين عن رَفع السرية المصرفية في سويسرا..
السرية المصرفية لَمْ تَختَفِ، والسرقات التي يُمارسها القطاع المصرفي لا تزال قائِمة. إن فضائح مثل “أسرار سويسرا” تُظهر أن الممُارسات مُستمرة. لكن التبادل التِلقائي للمعلومات يُصعّب الحياة على المُضاربين، لأنهم سوف يُكتَشَفون في النهاية.
في كتابك “سويسرا والذهب والموتى” (Die Schweiz, das Gold und die Toten) قُمتَ بالتنديد بالبنوك أيضاً بسبب دَعمها آلة الحرب الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، كانت آخر الجاليات اليهودية الكبيرة التي ظلت سالمة تعيش خلف ‘الستار الحديدي’. كان من بين هؤلاء أطفال أو أحفاد ضحايا الهولوكوست. وعندما سُمح لهم بمغادرة البلاد وأرادوا استلام أموالهم من حساباتٍ في البنوك السويسرية، طالبَهم المسؤولون بشهادات وفاة ذويهم، رغم عِلم الجميع بِعَدَم إصدار مُعسكرات الاعتقال في أوشفيتز أو سوبيبور مثل هذه الشهادات. بالتالي، تم طَرد هؤلاء الأشخاص من البنوك، وهذه فضيحة. لقد دُعيت حينها للإدلاء بشهادتي أمام اللجنة المصرفية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، وهو ما فَعَلته عن قناعة بسبب رَفضي لهذه الجرائم العنصرية. لكن البنوك لم تغفر لي أبداً.
لطالما أثارت مؤلفاتك ضجة كبيرة. لكن نَشْر أحد أشهَر كتبك الذي يحمل عنوان “سويسرا تغسل أكثر بياضاً” (Die Schweiz wäscht sich weisser) في عام 1990 كان له وَقْع القُنبُلة. إثر ذلك، تمت مُقاضاتك تسع مرات من قبل بنوكٍ ومحامين ومن حكام ديكتاتوريين ايضاً. لقد خسرتَ كل شيء في النهاية، بما في ذلك مقعدك في البرلمان.
لقد تَعرَّضتُ للتهديد في ذلك الوقت وكنت أتلقى مُكالمات من أطراف مَجهولة. لقد كتبت الصحافة حينها أني اتقاضى أموالاً من موسكو لقاء ما أكتبه. بعض الاشخاص المجانين كانوا يعتقدون أنني السَبب في طلاقهم. كنت بحاجة لحماية الشرطة لمدة عامين تقريباً. لقد عانَت عائلتي كثيرًا خلال هذا الوقت. لكنني لا أشتكي؛ فأنا شخص مُتميز. لقد خَسرتُ جميع القضايا المرفوعة ضدي، مع ذلك كنت أرى في ذلك فرصة للنضال في المحكمة – حيث تَعَيَّن على المصرفيين الإجابة على الأسئلة المُثارة.
لكن العواقب كانت وخيمة بالنسبة لك..
لقد فقدت حصانتي في البرلمان. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ عام 1939. لكن أُعيد انتخابي بعد ثلاث سنوات. تَمَّت مُصادرة راتبي الجامعي. كنت أعيش بالحَد الأدنى فقط. تم تَجميد كل ما كسبته من كتبي. المنزل الذي تراه هو ملك لزوجتي. لقد تَمَكَّنا من إنقاذ بعض الأشياء في اللحظة الأخيرة. اليوم حتى سيارتي مستأجرة.
ما رأيك في الديمقراطية المُباشرة التي تمثل سِمة خاصة للنظام السياسي السويسري؟
أعتقد أن الديمقراطية المباشرة أمرٌ جَيّد، ولكن في مُجتمع غير متكافئ مثل مجتمعنا، حيث يمتلك 2% من الرأسماليين في البلد أكثر من نصف الثروة في سويسرارابط خارجي – يعني هذا أن أصحاب المال يتحكمون بالأغلبية. مع كل استفتاء على مشروع قانون ما، نَسمع أن الاقتراح سوف يزيد من البطالة والتكاليف التي تتحملها الدولة. ان ضَغط الدعاية يؤدي إلى تصويت الناخبين ضد مصالحهم: ضد اقتراح الأسبوع الخامس من الإجازة، وضد صندوق التأمين الصحي المُوَحَّد – الذي كان سَيُقَلِّل مُساهماتنا الشخصية بنسبة 30% – أو ضد زيادة معاشات الشيخوخة والباقين على قيد الحياة (AHV).
رُغم كل ذلك، قُمتَ بإجراء عدّة مُحادثات مع بيتر برابيك، الرئيس السابق لشركة نستله، وأحد أشهر ممثلي النظام الرأسمالي..
لطالما قادتني عبارة من سارتر في نضالاتي السياسية: “لكي تحب الناس، يجب أن تكره بشدة ما يضطهدهم، وليس أولئك الذين يضطهدونهم”. المشكلة ليست في برابيك ولكن في العُنف الهيكلي. الحقيقة هي أن برابيك ما لم يقم بزيادة رأس مال الشركة، فإنه لن يكون رئيساً لها بعد ذلك. المشكلة ليست في شخصه، ولكن في الشركات مُتعددة الجنسيات.
وفقاً للبنك الدولي، سيطرت أكبر 500 شركة مُتعددة الجنسيات معاً على 52,8% من إجمالي الناتج العالمي في عام 2021. ان الاستراتيجية الوحيدة لدى هؤلاء هي تحقيق أقصى قَدَر من الأرباح في أقصر وقت مُمكن وبأي ثمن.
مع ذلك، انتشلت الرأسمالية في الصين 800 مليون شخص من براثن الفَقر في غضون أربعين عاماً، خاصة بعد إصلاحات دينغ شياو بينغ في السبعينيات. أليس هذا دليلاً على كفاءَة الرأسمالية؟
من المؤكد أن الإنتاج الرأسمالي هو النَمَط الأكثر حَيوية وإبداعاً الذي عرفته البشرية على الإطلاق، لكنه بعيدٌ عن سيطرة الدولة أو النقابات العمالية. تتمتع الشركات بنفوذ لم يمتلكه أي ملك أو حتى بابا فوق هذا الكوكب. هذا يؤدي إلى نظام عالمي غير إنساني: نحن نحارب الجوع، والقوة المُطلَقة للشركات مُتعددة الجنسيات، والاحتباس الحراري.
تتمتع الشركات اليوم بنفوذ لم يمتلكه أي ملك أو حتى بابا فوق هذا الكوكب
هل الرأسمالية مسؤولة عن تغيّر المناخ؟
بالطبع. لا توجد هناك سُلطة عامة يمكنها أن تفرض – باسم المصلحة العامة – التدابير التي اعتمدتها الدول في إطار اتفاقية باريس. لذا فإن تدمير الكوكب هو النتيجة السَبَبية المُباشرة للرأسمالية. خُذْ مثلاً اتفاقية باريس لعام 2015 التي تهدف إلى إبقاء مستوى ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند 1,5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل حقبة الصناعة. نحن الآن في عام 2022، وقد تضاعف إنتاج النفط ثلاث مرات بدلاً من خَفضِه، وكل هذا من أجل تحقيق الأرباح.
كيف تنظُر إلى الشباب الذين يتظاهرون اليوم في شوارع المُدن ضِمن حركة “أيام الجمعة من أجل المستقبل”؟
هذه هي مُعجزة التاريخ بالنسبة لي. هذا الإدراك المفاجئ عظيم لأنه كوكبهم. فجأة هناك هذه الحركة غير العادية. إنها نوع من انتفاضة الوَعي التي أصبحَت مُثيرة للاهتمام للغاية، لأن الشباب بدأوا يفكرون في تأثير الشركات متعددة الجنسيات. إنهم يرون الدَمار والعواصف والصحاري والمجاعات. هذه صحوة حقيقية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.