مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

حان الوقت لتجاوز مهاجمة الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات

سيسيل بيكّاري

تعتبر سيسيل بيكّاري، الخبيرة في شؤون الاستثمار المُستدام بأن التحركات التنظيمية الأخيرة، بما في ذلك تلك التي جرت في سويسرا، من أجل تضييق الخناق على ظاهرة "الغسل الأخضر" (بالانجليزية Greenwashing) قد يكون لها في نهاية المطاف أضرار تتخطى منافعها المأمولة.

بالنسبة لأولئك الذي يعملون مثلنا في مهنة التمويل المستدام، كان عام 2022 بمثابة قطار الملاهي الأفعواني. شهد العام أكبر قدر من رأس المال المستثمر في مجال الاستدامة أو في المنتجات المصنفة على أنها تلبي معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (تُعرف اختصارا بـ ESG). ولكن مع اجتذاب هذه المعايير المزيد من الاهتمام العام، فقد خضعت أيضاً للمزيد من التدقيق، وواجهت موجة من الاتهامات مفادها أن العديد من ادعاءات الاستدامة كانت سطحية أكثر من كونها ذات فحوى.

ويبدو أنه كلما زاد الاهتمام بالمشاكل المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، كلما تفاقمت هذه المشاكل.

مع دخولنا في عام 2023 وبعد أن أصبحت لوائح معايير الاتحاد الأوروبي الجديدة بشأن تمويل الاستدامةرابط خارجي سارية المفعول، يجدر بنا التذكير بالهدف النهائي لأسواق رأس المال – الذي كان يكمُن دائماً ، ومن المرجح أن يظل كذلك في المستقبل المنظور، في خلق القيمة من خلال توزيع وتخصيص رأس المال بكفاءة.

ومنذ صياغة مفهوم التنمية المستدامة في عام 1987، كنا في الأساس في رحلة لتكييف تعريفات “القيمة” و “بكفاءة” لتعكس فهمنا المضطرد لحدود كوكبنا ورغبتنا في تحقيق نمو أكثر إنصافاً.

وفي عام 2023، لم يعد مصطلح “خلق القيمة” يشير فقط إلى إنشاء قيمة مالية بمفهوم العملة النقدية؛ وأخذت “بكفاءة” تعني أكثر فأكثر احتساب جميع الموارد التي تساهم في الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك الموارد والخدمات غير الملموسة التي توفرها الطبيعة مثل المياه والتنوع البيولوجي. كما تعني أيضاً تسعير هذه الموارد وفقاً لقيمتها الحقيقية واستيعاب وتحمّل تكاليفها داخلياّ.

المزيد
طب

المزيد

هل تنجح سندات نوفارتيس المرتبطة بالاستدامة في الوفاء بوعودها؟

تم نشر هذا المحتوى على يتساءل منتقدون عما إذا كان لسندات نوفارتيس المرتبطة بالاستدامة أي تأثير على هدفها المزعوم المتمثل في جعل الدواء في متناول البلدان الأشد فقراً أم لا.

طالع المزيدهل تنجح سندات نوفارتيس المرتبطة بالاستدامة في الوفاء بوعودها؟

ومع أخذ ذلك في عين الاعتبار، يتوجّب علينا أن نكون حذرين بشأن بعض التحركات التنظيمية الأخيرة، بما في ذلك تلك التي جرت في سويسرا؛ ففي شهر ديسمبر 2022، اقترحت الحكومة السويسريةرابط خارجي أنه لا يمكن أن تندرج مصطلحات مثل “مستدام” أو “أخضر” أو “ESG” تحت إطار تمويل ما، إذا كان يفي بمعايير استدامة محدودة وضيقة. ومن الناحية العملية، قد يعني هذا أن استراتيجيات الاستثمار الواسعة التي تقوم بشكل منهجي بتحليل مجموعة واسعة من مخاطر الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، والتقليل من شأنها، لن يتم بعد ذلك تصنيفها على أنها “استثمارات مستدامة”. بل وسيقتصر مثل هذا المصطلح  فقط على الاستثمارات التي لها تأثير إيجابي على صعيد البيئة والمجتمع.

يأتي هذا في أعقاب خطوة مماثلة من قبل الاتحاد الأوروبي في أنظمة الإبلاغ عن التمويل المستدام، والتي تهدف إلى تحسين مستوى الشفافية في السوق لمنتجات الاستثمار المستدامة، والاستجابة لمطالبات الاستدامة المقدمة من قبل المشاركين في السوق المالية، في محاولة لمنع ما أصبح يُعرف بـ “الغسل الأخضر” (Green washing).

ولكن ما مدى فائدة فصل مفاهيم كل من إدارة “مخاطر الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات” وإحداث “تأثيرات مستدامة”، وهو فصل نلحظه في العديد من المقترحات التنظيمية؟ هل أضحى تحقيق الكمال التنظيمي مناقضاً لكل ما هو إيجابي وخيّر؟

كما جرت العادة في الشركات منذ عقود، فإن إدارة المخاطر والحصول على الفرص المتاحة، هما وجهان لعملة واحدة. فمثلاً، عندما تقلل شركة التعدين من استهلاكها للمياه، فإنها تخفف من مخاطر نقص المياه التي يُمكن أن تُضعف عمليات التعدين الخاصة بها، وتتيح في الوقت نفسه إمكانية حصول المجتمعات المحلية على كميات أكبر من المياه. وعندما توجّه شركة مصنعة للسيارات الصناعة بأكملها نحو التحول السريع إلى المركبات منخفضة الانبعاثات، فإنها بذلك تقدم مساهمة كبيرة في مكافحة مشكلة تغير المناخ، مع عدم إغفال أن زيادة إنتاج البطاريات الكهربائية تخلق أيضاً مخاطر بيئية جديدة، ومخاطر تتعلق بحقوق الإنسان في سلاسل التوريد الخاصة بالسيارات.

المزيد
نهر جليدي

المزيد

الاستثمارات المستدامة تزدهر في سويسرا

تم نشر هذا المحتوى على زاد حجم الاستثمارات المستدامة في سويسرا العام الماضي بنحو الثلث، حيث وصل إلى عند 1.98 تريليون فرنك سويسري (2 تريليون دولار)، وهو أعلى مستوى له على الإطلاق.

طالع المزيدالاستثمارات المستدامة تزدهر في سويسرا

وتكمن المشكلة في أن تضييق تعريف ما هو “مستدام” وربطه بجانب واحد فقط متعلق بالعملة، من شأنه أن يتسبب في تدفق كميات متزايدة من رأس المال نحو مجموعة صغيرة من الأصول، مما يؤدي إلى المبالغة في تقدير بعض المجالات المتاحة، والتغاضي عن البعض الآخر منها ذات التأثير المحتمل الأكبر.

يمكننا أن نجري النقاشات المطوّلة عبر مختلف وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، وقد نهدر الكثير من الطاقة الفكرية بغية الخروج بمصطلحات وتعريفات جديدة ، لكن ذلك لن يغيّر الواقع على الأرض؛ فالاستدامة هي مفهوم نسبي وليست حقيقة مطلقة. إنها تتعلق بتغيير مسارنا الحالي حتى نتمكن من العيش بشكل جيّد على كوكب يتمتع بالصحة والقدرة على الصمود.ويجب أن يشغل بالنا أمران وحيدان: ما مدى السرعة التي يُمكننا بها تحقيق التغيير على نطاق واسع؟

نحن نعلم بأننا بحاجة مثلاً، إلى تغيير الطريقة التي ننتج بها طعامنا، ولكن لا ينبغي أن يقتصر ذلك على ضخ الأموال في تقنيات مبتكرة مثل التخمير الدقيق، على الرغم من أن هذه التقنية يمكن أن تحقق لنا فوائد ضخمة. كما نحتاج أيضاً إلى الاستمرار في تشجيع كبار مصنعي المواد الغذائية وتجار السلع على الحصول على المواد الخام بشكل مسؤول ووضع حد لإزالة الغابات. لكن التعريف الضيق لمصطلح “مستدام” لن يشجع هذه الشركات على إجراء التغييرات التي نبتغيها ونحتاجها.

كما أن هناك حاجة إلى التنظيم لأن قطاع الصناعة أظهر أنه غير قادر على تغيير ممارساته بالسرعة الكافية إذا استمر هذا التغيير قائماً على أساس اختياري وطوعي. وهذا التنظيم يجب أن يركز على جعل التمويل المستدام هو المعيار بدلاً من إنشاء قطاع صغير من المنتجات المالية.

وإذا كان هدفنا النهائي هو توجيه رأس المال نحو إيجاد قيمة مستدامة، فعندئذ يجب أن تكون هناك رؤية أكثر شمولية لكيفية تشكيل الحوكمة البيئية والاجتماعية لقرارات الاستثمار.

ونحن إذْ نستمر في الانغماس في التفاصيل، فإننا نفقد فرصة التركيز على الجائزة الحقيقية التي يمكن أن نحصل عليها من خلال ضمان إدارة معظم الأصول مع مراعاة الاستدامة. وهذا يتطلب تغيير طريقة تفكير أكثر من 90% من مديري المحافظ والمحللين الماليين في العالم أجمع. هذا التغيير السلوكي سيتم عندما سيحصل مديرو التمويل على معرفة عميقة بقضايا الاستدامة ويتم تحفيزهم من أجل التعاطي معها بجدّية تامة.

وفي الوقت الذي تقوم فيه سويسرا بتقييم خياراتها في اعتماد لوائح معايير الاتحاد الأوروبي أو تبني مسارها الخاص، عليها أن تأخذ في الاعتبار فرصتها الفريدة في أن تبقى عملية وبراغماتية، وأن تشجع تنوع المقاربات التي من شأنها أن تحقق النتيجة المرجوة بالسرعة والنطاق المطلوبيْن.

تحرير: جيسيكا دافيس بلوس / فيرجيني مانجين

ترجمة: جيلان ندا

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية