داعش وأمريكا والعولمة: معركة خاسرة؟
هل يُمكن لتنظيم الدولة الإسلامية، ومعه باقي الحركات الأصولية المتطرّفة، تحدّي الهيمنة الأمريكية على العالم، وبالتالي، وقف تمدد العولمة في العالم الإسلامي؟
السؤال يبدو غريباً بالطبع، إذ كيف لحفنة آلاف من المقاتلين أن يتحدّوا أعتى إمبراطورية عسكرية واقتصادية وثقافية في التاريخ؟ الأمر مستحيل بالطبع. وهذا صحيح على وجه الخصوص، بعد أن باشرت الولايات المتحدة التحضيرات لتشكيل تحالف دولي – إقليمي شامل، سيدك قريباً معاقِل الدولة الإسلامية (داعش)، كما حدَث قبل ذلك مع حركة طالبان في أفغانستان عام 2001.
بيد أن الغرابة تنحسِر قليلاً، حين نضع ظاهرة داعش (التي أذهَلت العالم باحتِلالها السريع والكاسِح لثُـلث كلٍّ من سوريا والعراق خلال فترة زمنية قصيرة، وتحوّلها إلى أثرى تنظيم سياسي – عسكري في تاريخ المنطقة)، في إطار الصِّراع القائم الآن على مستوى الكُرة الأرضية، بين ما يسميه المفكّر الأمريكي بنيامين باربر “الجهاد (والمقصود به هنا كل الأصوليات على أنواعها) وبين عالم ماكوورلد (العولمة)رابط خارجي.
نظرية باربر بسيطة: العولمة النيو- ليبرالية، أي السوق الحرة المنفلتة من عقالها، تريد فرض ثقافتها الاستهلاكية والمادية الخاصة على كل العالم، فتصطدم بالثقافات الخاصة في كل بلد التي تشعر بتهديد لوجودها، فتعمد “قبائلها” في بعض المناطق إلى “إعادة إحياء المقدس” كوسيلة لمجابهة العولمة. وعلى رغم أنها تدين كلا الظاهرتيْن لأنهما تسعَيان إلى تقويض الديمقراطية، إلا أنها تتنبّأ بانتصار العولمة في نهاية المطاف.
“الجهل المقدّس”
قبل باربر، كان أوليفييه روا، أحد أبرز الباحثين الأوروبيين في حقل الأديان المعاصرة، خاصة منها الإسلامية، قد أصدر في عام 2010 كتاباً قيِّماً بعنوان: “الجهل المقدّس: حين يفترق الدّين والثقافة”رابط خارجي. الكتاب كان الأول من نوعه الذي يطرح السؤال الكبير: ما تأثير العولمة على الأديان الكُبرى في العالم.
يردّ روا سريعاً بالقول (كما فعل باربر لاحقاً) أن العولمة أدّت إلى انفِصام بين جماعات الإيمان الدِّيني وبين الهويات الاجتماعية – الثقافية، ما خلق بيئة خصْبة لنشوء الأصوليات المتطرِّفة وازدهارها. وهكذا، فإن العولمة، وبدلاً من أن تقلّص نفوذ الدّين في العالم، أسفرت عن إحيائه. لكن ذلك لم يتم دوماً بشكل إيجابي، إذ أن بروز التطرّف الأصولي أدّى إلى تفشي ما يسميه “الجهل المقدس، وهو منحى معادٍ للثقافة (De – culturalization) والتعددية والديمقراطية، ويضع نفسه في صدام مباشِر مع كل من الثقافة الحديثة والحضارات والأديان الأخرى. وهذا ما يُفسّر برأيه أسباب صعوبة فهْم وتحليل الظواهِر الأصولية الجديدة.
ويجادِل روا أننا، وبدلاً من العِبادة الدِّينية التقليدية أو السلفية، نشهَد هذه الأيام تذرر (من ذرّة) وتفرّد (من فرد) الإيمان الدّيني، وأيضاً فكّ ارتباط جماعات الإيمان مع هوياتها القومية والوطنية والإثنية. وهذا ما جعل المؤسسات الدينية التقليدية الكُبرى في التاريخ، كالكنيستيْن الكاثوليكية في الغرب (أوروبا الغربية) والكنيسة الأرثوذكسية في الشرق (روسيا وأوروبا الشرقية)، والأزهر وباقي المؤسسات الرسمية الإسلامية، واللاهوت اليهودي التقليدي، في مواقِع الدفاع. والبديل؟ إنها التيارات الإنجيلية والخمسينية في المسيحية والحركات الأصولية الإسلامية التي يقودها مثقفون من خارج سِلك رجال الدّين والحركة الحريدية اليهودية الرّافضة لكل أشكال الحداثة، والأصولية الكونفوشيوسية في شرق آسيا والأصولية الهندوكية في الهند.
كل هذه التيارات تحُث الفرد على الانسحاب من الثقافة السائدة (ناهيك عن إعلان الحرب عليها)، خاصة حين تكون هذه الثقافة عِلمانية ومنطقية ومادية. صحيح أن الأصوليين المسيحيين والإسلاميين واليهود والآسيويين يواصلون الانخِراط في مجتمعاتهم، إلا أنهم لم يعودوا في الواقِع جزءاً منها، بل هم يتحرّكون على مستوييْن يبدوَان متناقضيْن: التركيز على الحقيقة المُطلَقة والشامِلة، التي تتفرّد كل جماعة بادِّعاء احتكارها، والعمل في الوقت نفسه على التبشير بالخلاص الفردي عبْر الاتصال المباشِر مع العناية الإلهية.
المسيحيون الخمسينيون، وهم الفرقة البروتستانتية الأكثر انتشاراً هذه الأيام في العالم (نصّرت حتى الأن ربع كوريا الجنوبية وأجزاء واسعة من الصين والبرازيل)، والتي تدعو إلى أن يختبر الأفراد ما حدث لرُسل المسيح حين تعرّضوا إلى “معمودية الروح القُدس”، يصفون عمل الأديان الجديدة بأنها أشبه بـ “السوق”. لكن ما يعرض في هذه السوق، ليس سلعة ثقافية محدّدة، بل هو لا يقل عن كونه اتصالاً مباشراً بالله. هذه الدّعوة، مثلها مثل كل حركات الأصولية الجديدة التي تدعو إلى “تحرير” الفرد، (بما في ذلك دفعه إلى الانتحار لأهداف سياسية كما يحدث الآن في العالم الإسلامي)، شكّلت دعوة جذّابة لأن العولمة أحدثت، كما أسلفنا، تمزّقاً هائلاً في النسيج المجتمعي والقومي والثقافي والاقتصادي في العالم، ما جعل الأفراد يبحثون بينَهم عن حلول خارج كلٍ من الجماعات القومية والمؤسسات الدينية التقليدية.
3 عوامل
ومع ذلك، وعلى رغم هذه النزعة اللاثقافية واللاسياسية، إلا أن السياسة (والعولمة)، لها بالمِرصاد بهدف استثمارها. ويبدو أن ثمّة ثلاثة عوامل تُسهِّل صعود الأدْيان في ظِل العولمة:
الأول، هو العامل الديموغرافي الذي تلعب فيه الأديان دوراً كبيرا. فعدد سكان الشمال الأوروبي الغني، بلغ 32 في المائة من سكان العالم عام 1900 ثم 25 في المائة عام 1970 و18 في المائة عام 2000، ويتوقّع أن يصبح 10 في المائة عام 2050. هذا في حين أن الجنوب كان يشهد انفجاراً ديموغرافياً، لأن الناس المتديِّنين فيه الذين يشكّلون الغالبية، يميلون إلى إنجاب الأطفال أكثر من العِلمانيين.
العامل الثاني، هو التمدين (من مدن) المتزايد لسكان العالم. وبما أن الأديان تاريخياً هي ظاهرة مدينية، يتوقّع أن يؤدّي بروز المدن العِملاقة سكانياً في دول الجنوب، إلى مزيد من الصعود الدِّيني، خاصة في صفوف الطبقتيْن الفقيرة والمتوسطة.
العامل الثالث هو “فك الارتباط” بشكل متزايد بين الغرب وبين المسيحية. فهذه الأخيرة هي في الأصل دِين شرقي اكتسَح العالم القديم، انطلاقاً من فلسطين، وهي لم تُعتبَر دِيانة غربية أو أوروبية إلا بعد ظهور الإسلام وانتشاره. بيد أنها الآن تعود إلى جذورها القديمة، حيث باتت تُسيطر عليها شعوب وثقافات الجنوب في أمريكا اللاتينية وبعض مناطق شرق آسيا.
ويعتقد سكوت توماس، المحاضر الأمريكي في جامعة لندن، أن كل هذه العوامل مُنغرِسة في العوْلمة التي تعمَل على بناء عالَم أكثر توحّداً وأكثر تفتيتاً في آن. ذلك أن الهويات الدِّينية، العالمية والمحلية، باتت تصبح أكثر ارتباطاً لأن العولمة بدأت تُغيِّـر طبيعة الأديان ودورها في الشؤون الدولية. كيف؟ عبْر تسهيل العولمة انفِصال الدّين عن الثقافات الوطنية والقوميات.
فكما أن العولمة تقفِز فوق الحدود القومية وتقلّص إلى حدٍّ كبير من صلاحيات ودور الدولة – الأمة، تقوم الظواهر الدِّينية الجديدة المُتعوْلمة بلعب الدّور نفسه، فتتجاوز هي الأخرى حدود الدولة القومية وقيودها.
فضلاً عن ذلك، تنشط العولمة لجعل كل دِين أكثر تعدّدية، وبالتالي، تُصعّب على المؤسسات الدِّينية الكبرى التقليدية، التي مارست في السابق الاحتكار اللاهوتي، مواصلة مثل هذا الاحتكار. وهنا يأتي دور ثورة الاتصالات والمعلومات التي باتت تجعل الأديان مسألة اختيار فردي، سواء حيال الطقوس أو حتى المعتقدات. ثم أن العولمة أزالت الحدود الفاصلة بين المنظمات الدِّينية في البلدان الأم وبين الجاليات في المهجر. وهذا ما أعطى هذه الأخيرة دوراً كبيراً ومتزايداً في كلٍّ من العلاقات الدولية والأمن العالمي.
ويُلخّص سكوت توماسرابط خارجي وِجهة نظره حول تأثير العولمة على الأديان كالتالي: “إن نوعاً جديداً من العالم قيْد الصّنع الآن. والدول والشعوب والجماعات الدِّينية في الجنوب، هي التي تصنعه. الأديان الكُبرى في العالم، تفيد كلها من هذه الفُرص التي أتاحتها العولمة، وهي تنشط الآن لتغيير نمَط رسالتها بهدَف الوصول إلى جمهور عالمي جديد”.
خلاصة صحيحة؟ الأدقّ أن يقال أنها نصف صحيحة. فكما أن الأديان الرئيسية في العالم تندفِع للإفادة من العولمة، لن تقِف هذه الأخيرة مكتوفة الأيْدي. ولأنها تُمسك بكل صنابير الاقتصاد والعِلم والتكنولوجيا، ستعمل أيضاً على محاولة تجيير الانقلابات الدِّينية والثقافية في العالم لصالحها. وهي قادِرة على ذلك، لأنها تُمسك بكل هذه الصنابير.
النموذج الأول لهذه المحاولة كان توجُّه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان لاستيعاب ما بات يسمّى “الثورة الأصولية المسيحية” الثالثة، ووضعها في خِدمة العولمة. ولم يكن صُدفة بالطبع أن يكون ريغان “المؤمن الذي ولِد من جديد على يَد الرّوح القُدُس”، هو نفسه بطل الرأسمالية النيوليبرالية، التي عملت على نسف دور الدولة في الاقتصاد والأمن الاجتماعي وتقليص الفوارق بين الأغنياء والفقراء، في الوقت نفسه الذي كان فيه على تواصُل مع “الروح القدس”.
وفي عهد باراك أوباما الديمقراطي، تكرّرت في الولايات المتحدة الدعوات الجمهورية والمحافظة إلى توجّهات دينية ريغانية مُماثلة. وعلى سبيل المثال، جادل العالم السياسي الأمريكي وولتر رسل ميد، بأن “الصعود العالمي الجديد للمسيحية، يجب أن يكون أمراً طيباً للسياسة الخارجية الأمريكية (إقرأ للعولمة)، لأن المسيحية “هي أكثر الأديان موالاة لأمريكا”، على حدّ قوله.
معركة العولمةرابط خارجي لاستيعاب الأنماط الجديدة من الصعود الدّيني لا تزال في بداياتها الأولى، وهي تحقّق نجاحات واضحة في بعض المناطق (الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية)، وصعوبات وعراقيل في مناطق أخرى (الشرق الأوسط الإسلامي). لكن طموحها الأكبر لا يزال كما هو: وضع كل الأيديولوجيات الدِّينية وغير الدِّينية والثقافات في خِدمة مشروعها العالمي، القائم على إعادة إنتاج البشر على أساس البُعد الواحد، الاستهلاكي والمادّي والمتذرر.
.. و3 ثغرات
الإجابة إذن على سؤالنا الأول حول داعش وأمريكا – العولمة، هو نعم: داعش والقوى الأصولية الأخرى يمكن أن تعمل على تحدّي الهيمنة الثقافية والعسكرية لـ “الإمبراطورية”، مستفيدة من تهاوي مؤسسات وبني الدول – الأمم في العالم الإسلامي كأحجار الدومينو في دولة تِلو أخرى. لكن هذا التحدّي سيُعاني من ثلاث ثغرات: الأولى ذاتية والثانية والثالثة موضوعية.
الثغرة الأولى، الذاتية، هي بالطبع النزعة الاقصائية الشديدة التي تمارسها داعش، خاصة بعد تحويل نفسها إلى “خِلافة” إسلامية جديدة، ما وضعها في حالة صِدام دموي حتى مع أقرب التنظيمات الإسلامية أيديولوجيا إليها (القاعدة). كما أنها وضعت نفسها في حالة حرب مع كل الدول الكبرى في العالم بلا استثناء، بما في ذلك روسيا، ونفّرت التيار السُنّي العام، بسبب أساليبها الوحشية في القتل والترويع وفرْض الأحكام الفِقهية التي تُعتَبر صارِمة للغاية، حتى وفق المعايير الطالبية الأفغانية.
الثغرة الثانية هي الخلل الفادِح والكبير في موازين القوى بينها وبين قوى “الإمبراطورية”. وهو خلل بان بوضوح بعد أن غيّرت داعش تكتيكات تنظيم القاعدة الأم، المستند إلى حرب العِصابات، وانتقلت إلى عملية السيطرة على الأراضي وممارسة السلطة فيها، ما جعل المعركة صِراعاً بين دولة ودولة، الأمر الذي سيسهِّل على الإمبراطورية سحقها أو على الأقل تشتيت جمعها.
كل دولة أو فئة لا تطبِّق شروط العولمة ستجِد القوات الأمريكية فوْق أراضيها توماس بارنيت
الثغرة الثالثة تتعلق بطريقة تعاطي قِوى العولمة مع ظاهرة داعش. فهذه القِوى (كما أسلفنا) ليست مُعادية من حيث المبدأ للحركات الدِّينية، طالما أنها تعمل على فصل الفرد عن الدولة والجماعة والمؤسسات الرسمية، فتسهِّل بذلك اختراقها لثقافته عبْر ثورة الإتصالات. لكن هذا الدّعم له حدود وشروط، أهمّها أن تضع هذه الحركات نفسها في خِدمة المشروع الاقتصادي لإمبراطورية العولمة، كما فعلت الأصولية البروتستانتية في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وكما تفعل الآن الأصولية الهندوسية في الهند والأصولية الكونفوشيوسية في الصين.
حتى الآن، داعش وأخواتها لم تُظهر فهْمها لهذه المسألة. وكما يقول المحلّل الإستراتيجي في البنتاغون توماس بارنيت: “كل دولة أو فئة لا تطبِّق شروط العولمة، ستجِد القوات الأمريكية فوْق أراضيها”.
والخلاصة؟ إنها واضحة أو يُفترض ذلك: العولمة لن تكون في حالة حرب مُطلقة مع الحركات الدِّينية على أنواعها، على رغم أنها تعمل على تقويضها من تحت، عبْر الثقافة الفردية والاستهلاكية، إلا حين تضع هذه الحركات نفسها في حالة حرب مع مشروعها الإمبراطوري العام أو تهدّد شرايين اقتصادها وأمنها، وهذا ما تفعله داعش الآن، ولغيْر صالحها.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.