سوق العقار في سويسرا مـدعــوّة للنأي بنفسها عن عمليات غسيل الأموال
توفر بعض الثغرات القانونية التي لا زالت قائمة في مجال تجارة العقارات في سويسرا فرصة لازدهار نشاطات غسيل الأموال. في الأثناء، يسعى خبراء قانون العقوبات إلى سدّها ووضع حد لهذه الظاهرة الجديدة.
وفي حديث مع swissinfo.ch، يقول الخبير مارك بيت: “إن تجارة العقارات في سويسرا يجب أن تخضع لقانون محاربة غسيل الأموال”. ويشدّد الأستاذ المتخصص في قانون العقوبات وأصيل مدينة بازل، على أن الأزمة المالية لعام 2008 أدت إلى حدوث تغيير في المسار “حيث أصبح هناك تركيز أكثر على الإستثمار في العقارات لأموال كانت تستثمر في شراء الأسهم”.
وفي هذا السياق، تعرف سويسرا تدفقا كبيرا لأموال من مصادر غير معروفة. ويشير مارك بيت إلى الأموال الروسية تحديدا فيقول: “هناك حالات كثيرة نجد فيها أشخاصا من روسيا يدعمون مشاريع مثل شراء الفنادق أو المنشآت السكنية الكبيرة”.
توسيع مجال تطبيق القوانين
هنا لا بد من التذكير بأنه عندما يُقدم مواطن عادي في سويسرا على إيداع مبلغ يفوق العشرة آلاف فرنك في حساب مصرفي، فإنه يتعرض لمساءلة دقيقة حول مصدر الأموال. ولكن عندما يُقدم شخص ما على شراء عقار وبدفع المبلغ نقدا، فإن ذلك لا يتطلب في الوقت الحالي أية مساءلة .
هذا الواقع أدى عمليا إلى تشجيع عمليات غسيل (أو تبييض) الأموال عبر شراء المساكن واقتناء العقارات مثلما يقول الخبير القانوني. كما أن لهذه الثغرات القانونية تأثيرات شتى، حيث ستظل سويسرا (ما لم يتم تغيير التشريعات) قاعدة أو منصة لتمرير وإعادة استخدام الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة، وهو ما سيتسبب أيضا في حدوث ضغط كبير باتجاه ارتفاع أسعار العقارات في سويسرا، وإلى تفاقم الضغط على سوق السكن المتأزمة أصلا.
في هذا السياق، يرى مارك بيت أن “الإستراتيجية الجديدة بخصوص “المال النظيف” التي اعتمدتها المصارف السويسرية، أدت إلى تحويل الأموال المتأتية من مصادر غير معروفة في اتجاه تجارة العقارات. وقد حان الوقت لكي يتم إخضاع تجار العقارات للقانون”. وهو ما يعني وجوب إخضاع الموثقين والوكلاء القانونيين وليس فقط رجال البنوك والتأمينات لمقتضيات قوانين محاربة غسيل الأموال، الأمر الذي كانوا غير مُلزمين به لحد الآن.
سويسرا ليست مطابقة للمعايير الدولية
وفي مناسبة انعقاد الملتقى السادس لقانون العقوبات التجاري تحت شعار “غسيل الأموال واستعادة الأموال المُهرّبة”، الذي نظمه يوم 12 أبريل 2012 معهد أوروبا التابع لجامعة زيورخ، اعتبر ميخائيل كيلشلينغ، الخبير العلمي بمعهد ماكس بلانك والمتخصص في قانون العقوبات الدولي والأستاذ المحاضر في جامعة آلبير لودفيغس بمدينة فرايبورغ الألمانية، أن عملية غسيل الأموال عبر شراء العقارات “من المظاهر الجديدة لعملية غسيل الأموال”.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch أكّـد كيلشلينغ على أن “الأمر يتطلب في سويسرا، من باب الإحتياط على الأقل، إخضاع تجارة العقارات لقوانين محاربة غسيل الأموال، ومن أجل ترقية الوعي لدى أصحاب القطاع “، وأضاف أن الأمر “يتعلق بمعايير دولية نلتزم بها في دول الاتحاد الأوروبي من خلال المرسوم رقم 3 المتعلق بمحاربة غسيل الأموال، الذي يُخضع تجارة العقارات لقوانين محاربة غسيل الأموال”.
الإستثمار في العقار.. أكثر ضمانا!
على صعيد آخر، أكد ميخائيل كيلشلينغ ما قاله مارك بيت بخصوص تداعيات الأزمة المالية لعام 2008 التي أدت إلى تحويل الكثير من رؤوس الأموال وجهتها باتجاه القطاع العقاري، ما أسهم في ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وقال: “لم يعد توافد كميات كبيرة من الأموال في هذا القطاع أمرا غير عادي، كما أن المضاربة في هذا القطاع تعتبر من الثوابت”.
فإذن كيف يمكن التوصل الى الإقناع بأن غسيل الأموال هو من الأعمال الإجرامية إذا كان المثل يقول: “من ينتمي إلى هذا القطاع سوف لن يتوقف إلى الأبد عن البحث عن الفرص السانحة؟”. وبالفعل، اكتَشف الكثير من المستثمرين ومن بينهم الكثير من الساهرين على غسيل الأموال المكتسبة بصفة غير مشروعة أثناء الأزمة المالية لعام 2008، أنهم فقدوا الكثير من الأموال في السوق المالية التقليدية “في الوقت الذي ظلت فيه الإستثمارات في العقارات مضمونة”.
المعايير الأوربية
وبخصوص السؤال، عما إذا كانت الضغوط الكبرى الممارسة على أسعار العقارات هي التي كان من نتائجها أن تحولت سويسرا إلى قاعدة لتمرير الأموال غير المشروعة، أجاب كيلشلينغ بالقول: “قد ألتزم ببعض التحفظ تجاه ردود من هذا النوع، لأن أي بنك يضطر بمجرد اتضاح تورطه لتقديم توضيحات بخصوص مصدر الأموال”.
ومن المفروض، مثلما يقول أستاذ القانون بمعهد ماكس بلانك، أن يتم الشيء نفسه في سويسرا بالنسبة لجميع العمليات التي يقوم بها الوسطاء الماليون، والموثقون، مثلما هو مُطبّق حاليا في كافة الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي.
رد فعل قطاع العقارات
عندما حاولت سويسرا إخضاع قطاع تجارة العقارات قبل سنوات لقوانين محاربة غسيل الأموال، تمثل رد فعل القطاع في تعزيز نفوذ جماعات الضغط (اللوبيات) التابعة له. واليوم وبعد طرح الموضوع مجددا على طاولة النقاش، يبدو أن الإتحاد السويسري لتجار العقارات يتجه لاعتماد نفس المواقف الدفاعية.
ففي حوار مع مجلة “Beobachter”، قال مدير الإتحاد تايفون سيليكر: “لدينا ما يكفي من الآليات لمحاربة غسيل الأموال. وسنقاوم كل ما من شأنه أن يجعل من قطاع تجارة العقارات القطاع الذي يثير الشكوك”.
ومن جهته، يرى الخبير مارك بيت أنه “من الطبيعي أن يُبدي قطاع تجارة العقارات مقاومة من هذا النوع”، ويضيف متسائلا: “أليس القطاع في حاجة الى بذلة بيضاء؟”، لكنه يختتم كلامه مبتسما: “أتمنى أن يكون الأمر كذلك”.
ضغوط من بروكسل
على العكس من ذلك، يقول ميخائيل كيلشلينغ: “إن التجارب التي قامت بها ألمانيا، تسمح لي بالقول بأن كل القطاعات التي يتم إخضاعها للرقابة تبدي هذه المقاومة. وهذا حتى بشكل مبدئي ومن أجل الدفاع عن المصالح الخاصة”.
ومن جهة نظره، فإن ذلك سوف لن يعمل إلا على مزيد تعقيد الأمور حيث “أننا عرفنا قبل سنوات نفس الشيء في ألمانيا، عندما تم فتح النقاش من أجل إخضاع الموثقين لبنود المرسوم الخاص بمحاربة غسيل الأموال، وقامت الإتحادات المهنية بتنظيم معارضة ساخنة، لكن بدون أية نتائج”.
أخيرا يبدو أن هذا دفع كيلشلينغ إلى إعادة تأكيد ما أشار إليه كثيرون سابقا، وهو أن “الضغط الممارس بطبيعة الحال من قبل بروكسل هو الذي سمح بتطبيق بنود المرسوم الخاص بمحاربة غسيل الأموال”.
في عام 2010 ، إشترت كوليباييفا نازرباييف، ابنة رئيس كازاخستان فيلا فاخرة على ضفاف بحيرة جنيف بسعر مبالغ فيه يناهز 75 مليون فرنك سويسري. ولم يتم التأكد من مصدر الأموال التي تم بها شراء الفيلا. لكن السعر المبالغ فيه دفع النيابة العامة الفدرالية الى رفع دعوى قضائية بتهمة غسيل الأموال ضد زوج مالكة الفيلا تيلمور كوليباييف.
هناك أمثلة أخرى عن صفقات قام بها مشترون روس إشتروا عقارات بأسعار مرتفعة جدا في منطقة إينغادين، وفي المناطق المجاورة لبحيرتي زيورخ وجنيف. من بين هؤلاء إلياس كرابونوف، ابن وزير سابق في كازخستان، الذي اشترى فندق “دي بارك” في منطقة مونبيلران في كانتون فو، وكان متملكا لفيلا فاخرة في كولوني (بحيرة جنيف) يفوق سعرها 32 مليون فرنك.
هناك أيضا الروسي اليكساندر أودودفوف الذي اشترى” قصر غوتش” في لوتسرن. وقامت الشرطة الفدرالية بإجراء تحقيقات ضد أودوفوف الذي اشترى فندق ” ألبانا” الواقع في منطقة “فيغيس” بكانتون لوتسرن بمبلغ 4 ملايين فرنك. وهو يعتزم اليوم إعادة بنائه بحوالي 45 مليون فرنك. ولم تتضح بعدُ مصادر هذه الأموال.
من أسباب جاذبية القطاع العقاري لعملية غسيل الأموال: الإستثمار المضمون، الإستثمار الخاضع للمضاربة (إذ أن المضاربة في هذا المجال تظل من الصفات المميزة لهذه السوق)، ليست هناك قيود على الأسعار، مشاريع معمارية كبرى بإمكانات استثمار كبرى، استثمار مربح، تحقيق مردود “نظيف” (عبر مكاسب الإيجار أو الرهن)، عدم الإلتزام بإظهار ظروف الملكية بوضوح والإنحراف عن الإلتزام بالقيود المفروضة في السجل العقاري (من خلال التقليل من الآثار المُوثقة).
يعتبر الإتحاد الأوروبي أنه لا يمكن رفض مستثمر أجنبي بصورة تلقائية، كما أنه بالإمكان استخدام عقارات لأغراض إجرامية. ومن هذا المنطلق يمكن أن يصبح ذلك مصدر اكتشاف لعملية إجرامية أخرى: لذلك يمكن أن تلعب عملية شراء العقارات دورا مهما في أية مرحلة من مراحل غسيل الأموال.
(المصدر: ميخائيل كيلشلينغ، الملتقى السويسري السادس حول قانون العقوبات التجاري، يوم 12 أبريل 2012 في جامعة زيورخ)
(نقله من الألمانية وعالجه: محمد شريف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.