البرلمان السويسري يُقرّ قانونا نموذجيا لمحاصرة وتعقّب أموال الطغاة
انتهى البرلمان السويسري يوم 30 نوفمبر 2015 إلى إقرار قانون سوف يُيسّر مستقبلا تجميد ومن ثم استرداد الأصول غير المشروعة التي هي بحوزة طغاة أجانب أزيحوا عن السلطة. وقد باءت محاولات تمييع مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة الفدرالية بالفشل في نهاية المطاف أمام الغرفة السفلى بالبرلمان.
كان هذا الموضوع الأوّل الذي دُعِي البرلمان المنتخب حديثا للتصويت عليه بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الخمسين. وهذا الأمر له دلالة رمزية قويّة: فمنذ أن اندلعت قضية ماركوس (رئيس الفلبين الأسبق) في عام 1986، واجهت الكنفدرالية عددا كبيرا من أصول الطغاة غير المشروعة المودعة في المصارف السويسرية مما شوّه صورتها وألحق الضرر بلسمعة ساحتها المالية. وبعد الثورات العربية، ما يزال حوالي مليار من الفرنكاتن مجمّدا في الخزائن السويسرية.
القانون الجديدرابط خارجي الذي أقرّ يوم الإثنيْن 30 نوفمبر الماضي بشأن الودائع المالية غير المشروعة من المفترض أن تكون له آثار ردعية على كل الطغاة الذين لا يزالون ينظرون إلى سويسرا كملجإ مناسب لإيداع الأرصدة المالية التي نهبوها من شعوبهم. وبالمناسبة، أشار ديدييه بوركهالتر، وزير الخارجية الذي عرض مشروع القانون أمام البرلمان إلى أن “هذا المشروع يلبّي من ناحية حاجة قانونية وأخلاقية، ويخدم مصالح سويسرا من ناحية أخرى”.
في نهاية المطاف، تم إقرار هذا القانون في نسخة قريبة جدا مما اقترحته الحكومة، رغم تعرّضه إلى محاولات تمييع من الأغلبية اليمينية في مجلس النواب (الغرفة السفلى من البرلمان الفدرالي).
وخلال القراءة الأولى لهذا المشروع في شهر يونيو 2015، أراد مجلس النواب على وجه الخصوص تحديد فترة التقادم – في العموم 15 عاما منذ ارتكاب الأفعال التي يُعاقب عليها القانون – لمصادرة الأصول غير المشروعة. وخلال المداولات التي استمرت أربع ساعات، تكرّر تأكيد ممثلي أحزاب اليمين الرئيسية في المجلس على “ضرورة احترام مبدأ دولة القانون لتبرير العمل بمبدأ التقادم”.
مراوغات لوبي المحامين
من ناحية أخرى، نددت العديد من وسائل الإعلام السويسرية ومن المنظمات غير الحكومية بمراوغات لوبي المحامين. ذلك أن مبدأ التقادم الجنائي يسمح في واقع الأمر للمحامين المدافعين عن الحكام الفاسدين، وعن طريق اللجوء إلى الاعتراض المتكرّر على الأحكام التي يُصدرها القضاء، إلى تطويل الفترة الوصول إلى فترة التقادم، وهو عمل مُربح للغاية بالنسبة إليهم. وهو ما يؤكّده فعلا أوليفييه لونشام، خبير القضايا المالية لدى منظمة “إعلان برن” غير الحكومية في حديث سابق أدلى به إلى يومية “در بوند” (تصدر بالألمانية في برن)، حيث أشار إلى أن “النيابات التي تخص أرصدة الطغاة تحوّلت إلى مصدر لأموال طائلة بالنسبة لبعض شركات المحاماة”.
آتّهم كريستيان لوشّر، النائب عن الحزب الليبرالي الراديكالي بجنيف، والعضو في لجنة الشؤون القانونية في مجلس النواب، بممارسة لعبة مزدوجة خلال صياغة هذا القانون. فقد شارك وبشكل فعال في العملية التشريعية اثناء صياغة بنود هذا القانون، في حين كان يعمل في نفس الوقت لصالح شركة محاماة حصلت على عمولة تقدّر بمليونيْ فرنك مقابل خدماتها دفاعا عن إبن الجنرال النيجيري السابق ساني أباشا، الذي يُتّهم باخفاء مبالغ كبيرة أودعها في حسابات بالمصارف السويسرية. لكن لوشّر دافع عن نفسه عبر صفحات أسبوعية “هيبدو”، مؤكدا أنه أعلم زملائه من النواب بالنيابة الخاصة التي كان يقوم بها كمحام.
ووفقا لديديي بوركهالتر، الذي يعتبر أن أي حديث عن مبدإ التقادم يمثّل تراجعا كبيرا إلى الوراء، فإن إجراءات استعادة الأموال تظل عموما طويلة وشاقة، وهو ما جعل مجلس الشيوخ (الغرفة العليا) يتخلّى لاحقا عن هذا التعديل خلال الدورة الخريفية الأخيرة. وخلال القراءة الثانية، أيّد النواب في النهاية وجهة نظر الحكومة ومجلس الشيوخ. ولم يحتفظ سوى حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي) بموقفه الأوّل الذي يعترض فيه على القانون من الأصل.
من جهة أخرى، تراجع مجلس النواب عن سعيه السابق لتضييق دائرة “أقارب الطغاة” التي ينصّ عليها القانون الدولي. ففي بداية الأمر، كان النواب يرغبون في أن لا يمسّ القانون الجديد إلا بالأشخاص الذين ساعدوا او استُخدموا لسرقة ونهب أموال الشعب. وهو تعريف ضيّق جدا كان يُمكن أن يتسبّب في حدوث مشكلات كبيرة خلال التطبيق، وكان من الممكن أن “يحدّ من فعالية هذا القانون”، وفقا لوزير الخارجية.
تعاون أكثر نشاطا
القانون الجديد، الذي يعتبره خبراء القانون الدولي، نموذجا يُقتدى به، يعزّز ويجمع ضمن قانون واحد التدابير والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفدرالية خلال السنوات الأخيرة في مجال تجميد واسترداد الأصول المنهوبة ويسمح لها بتجنّب اللجوء مستقبلا إلى قانون الطوارئ لتجميد ودائع الطغاة الذين فقدوا السلطة، أو الذين يبدو سقوطهم “حتميا”.
ومن بين النقاط الهامّة التي يشملها هذا النص أيضا مبدأ عكس عبء الإثبات. فلم يعد من واجب سويسرا أو سلطات البلد المعني، مثل تونس أو مصر، توفير الحجّة أو الدليل على أن مصدر أصول حكامهم السابقين غير مشروعة. بل انقلبت الآية وبات على الطغاة السابقين والمقربين منهم – من الآن فصاعدا – إثبات أن أصولهم المودعة في المصارف السويسرية قد تم اكتسابها بطريقة سليمة.
ثمة مسألة أخرى حاسمة: بناءً على المعايير الجديدة المقترحة من طرف الحكومة، سوف تتعاون سويسرا في المستقبل بشكل أكبر خلال التحقيق مع البلدان المتضرّرة من عملية الأموال المنهوبة. فهي بمقدورها تحديدا أن توفّر معلومات حول الحسابات المصرفية التي تعود ملكيتها إلى الطغاة، حتى قبل تسلمها طلبا بالمساعدة القضائية. ومع أن هذه النقطة بالذات قوبلت بالإعتراض من طرف الدوائر المصرفية، إلا أنه تم إقرارها من طرف مجلسي النواب والشيوخ، بعد أن أدخلت عليها بعض التعديلات الطفيفة.
أي عضو يحترم نفسه في حكومة تحترم نفسها لا يمكن أن يُودع ثروته في سويسرا
طوماس ميندر
وعلاوة على ذلك، إذا كانت دولة المنشأ دولة فاشلة، أصبح بإمكان الحكومة السويسرية تجميد الأموال في انتظار البدء في إجراءات المصادرة. ويحتفظ المشروع في هذه الحالة باحكام القانون المتعلّق باسترداد الأصول غير المشروعة، الذي دخل حيّز النفاذ في عام 2011، والمستلهم من حالة هايتي. وأخيرا، ينصّ القانون الجديد بشكل صريح على أن يتم استخدام الأصول المستردّة في “تعزيز دولة القانون” في بلد المنشأ.
المشكل الرئيسي لم يجد حلاّ..
رغم كل هذه الإيجابيات، يرى المنتقدون لهذا القانون، أنه لا يحل المشكلة الرئيسية المتمثّلة في قبول المصارف السويسرية لهذه الأموال أو الإحتفاظ بها. وفي هذا السياق، تساءل النائب طوماس ميندر خلال المداولات داخل مجلس الشيوخ: “لماذا يكون من الصعب علينا أن نقول إننا لا نريد أموال الطغاة في مصارفنا؟ أيّ ساحة مالية نظيفة ليست في حاجة إلى هذه الأموال المشكوك في شرعيتها، إلا إذا كان الغرض حصول المصرفيين على مكافآت مبالغ فيها. أي عضو يحترم نفسه في حكومة تحترم نفسها لا يمكن أن يودع ثروته في سويسرا”.
تبعا لذلك، كان ردّ الوزير ديديي بوركهالتر أن “التدابير التي تسمح بالتدخّل موجودة وتعمل بشكل جيّد”، مشيرا بذلك إلى قانون تبييض الأموال وإلى العناية الواجبة من البنوك عند التعامل مع الشخصيات العامة المُعرّضة سياسيا (PPE)، لكن وزير الخارجية استدرك معترفا: “ربما لا تعمل هذه التدابير إلى حد الآن بشكل فعّال، ولهذا السبب هناك حاجة إلى قانون بشان الأصول المنهوبة، لأن هذه الأخيرة ستكون من القضايا المطروحة باستمرار، ولا يمكن تجنّبها في مرّة واحدة”.
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.