“شيخوخة” السدود الكبرى خطرٌ جاثم يهدد حياة ملايين البشر
تجاوزت آلاف السدود الكبيرة حول العالم نصف قرن أو أكثر منذ تمّ تشييدها، وبالتالي يكون أغلبها قد تجاوز عمره الافتراضي. فهل هي الآن أقل أمانًا؟ تكشف عملية إعادة تأهيل سد فيرزاسكا في جنوب سويسرا عن طريقة مناسبة لمواجهة "شيخوخة" السّدود وعواقب تغيّر المناخ.
المهندس المدني فرانتشيسكو أمبرغ لا يُخفي حسرته، فقد زار خلال حياته المهنية عشرات الأحواض الاصطناعية في سويسرا وحول العالم، ولكن ندر أن رأى مثل تلك المناظر.
بينما اعتلى أمبرغ قمة سد فيرزاسكا، الذي يقع على بعد بضعة كيلومترات من مدينة لوكارنو في كانتون تيتشينو الجنوبي، وقف يرمق ما تبقى من البحيرة أسفل منه، فالمياه الفيروزية اللون قد فرغَت من الحوض الكهرمائي مخلّفة منظرًا طبيعيّا هلاليًا رماديًا قاحلًا، ويقول أمبرغ : “إن رؤية البحيرة فارغة يثير المشاعر”.
يُعتبر سُدّ فيرزاسكا أحد أعلى السدود في أوروبا إذ يبلغ ارتفاعه 220 مترًا، وفي عام 1995 غمر صيت جيمس بوند العالم من خلال الفيلم الشهير “العين الذهبية” (Goldeneye)، ومن هنا، حيث أقف في أعلى السد برفقة أمبرغ في يوم مُشمسٍ من أيام شهر فبراير، ألقى العميل السري البريطاني، الذي لعب دوره بيرس بروسنان، بنفسه في الفراغ وكان مشدودا بشريط مطاطي.
شاهد الصور المدهشة للبحيرة الفارغة تقريبا بمحاذاة سد فيرزاسكا:
في عام 1965، تم افتتاح هذا السد، وبعد أكثر من نصف قرن من الخدمة، أصبح بحاجة إلى تحديث، ومع أن شيخوخته قد تؤثر على وظيفته وسلامته، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام العالمي اللائق، باعتبار أنّ التآكل قد طال آلاف السدود الكبيرة الأخرى كذلك.
تمدّد الخرسانة
تشمل عملية إعادة تأهيل سد فيرزاسكا وفق أمبرغ، أحد المهندسين المشاركين في الأشغال، كافة الأجزاء المتعلّقة بجلب المياه من الحوض الاصطناعي إلى مجرى النهر. ويتعيّن، وعلى وجه التحديد استبدالَ صمّاميْ الفراشة (اللذان يعملان على إيقاف تدفق المياه إلى التوربينات) وتحديثَ مرافق الحماية المثبتة داخل الأنابيب من التآكل، بالإضافة إلى أشغال خاصة بغرفة التوسعة، التي هي عبارة عن حيّز محفور داخل الصخور يُستخدم لتنظيم تغيّرات المياه التي يُرسلها السد، وتقدر تكلفة مشروع التأهيل بحوالي سبعة ملايين من الفرنكات.
غير أن الجدار المقوّس لا يحتاج لأي نوع من التدخّل، نظرًا لأن خرسانته، على عكس السدود الأخرى، لم تُصب بتدهور كيميائي، لكن قد تحدث له مع مرور الوقت ظاهرة رئيسية يطلق عليها “تفاعل الركام القلوي”، تَنتج عن تفاعل الماء مع معادن داخلة ضمن الخرسانة، مثل السيليكا، وتؤدي إلى تمدّد الخرسانة وإطالة السد، ثم الضغط على الصخور الاستنادية.
هذه الظاهرة معروفة منذ أربعينيات القرن الماضي، وتتسبّب، أيضًا ، في عطب الهياكل الرئيسية الأخرى كالجدران الاستنادية والجسور، بينما يقول أمبرغ: “المشكلة ليست ملحة لأنها لا تؤثر على صلابة الهياكل، ولكنها تحتاج إلى مراقبة مستمرة”، وفي حال حصول تمدد مفرط للخرسانة، يقوم المهندسون بقطع رأسي باستخدام سلك ماسي لتقليل الضغط الداخلي على السد.
وهناك ظواهر تدهور أخرى محتملة، ذات وتيرة أقل حدة، قد تؤثر على الجدران الاستنادية، ويشرح أمبرغ ذلك قائلا: “بالنسبة لسد مونتْسالْفِنْز في كانتون فريبورغ، قد يحصل مثلًا أن تتجه طبقات الصخور إلى الانزلاق فوق بعضها البعض، عندئذ تكون هناك حاجة لاستخدام المراسي”.
مقاومة لأعنف الزلازل
ليس هناك تلازم بالضرورة بين قدم السد ودرجة الخطورة التي يمثلها، فكثيرًا ما يكون العكس هو الصحيح، ويؤكد أمبرغ أن سدّ فيرزاسكا هو اليوم أكثر أمانًا منه يوم تشغيله، مضيفًا أن “لحظة البداية، أول ملء، وأول هزة زلزالية، هي الأكثر أهمية”، وتؤكد الدراساترابط خارجي الدولية أن كثيرًا من الحوادث تقع في السنوات الخمس الأولى لبداية التشغيل.
في سويسرا، تمّ تصميم السدود بحيث تتحمّل خرسانتها الزلازل التي تحدث مرة كل عشرة آلاف عام، ويشير أمبرغ إلى أن التشريع صارم جدًا بخصوص السلامة، فعلى سبيل المثال، يُشترط لإخراج السدّ من الخدمة، أن يكون مجموع السدود قادرًا على تصريف المياه بسرعة كبيرة.
فضلًا عن أن السدود السويسرية تخضع للفحص في فترات منتظمة ويُعاد تقييمها على أساس الخرائط الزلزالية المحدّثة، أمّا “على الصعيد الدولي، فالأمر ليس هكذا دائمًا”، كما يلاحظ المهندس السويسري.
متوسط عمر السد في سويسرا 69 عامًا
تشير إحصاءات اللجنة الدولية للسدود الكبيرةرابط خارجي، إلى وجود ما يقرب من 58700 سد كبير يزيد ارتفاعها عن 15 مترًا أو تتجاوز سعة أحواضها ثلاثة ملايين متر مكعب على المستوى العالمي، ويوجد أكثرها ~(قرابة 24000 سد منها) في الصين بمفردها.
كذلك تُعتبر سويسرا من بين البلدان ذات أعلى كثافة بالنسبة للسدود، حيث نجد فيها 188 سدًا كبيرًا، تنتج طاقة كهرومائية تعادل 58٪ من إجمالي حجم الطاقة الكهربائية المنتجة على المستوى الوطني.
ووفقًا للجنة الدولية للسدود الكبيرة، هناك نحو 19000 سد كبير في العالم، بُني ثلثها قبل أكثر من خمسين عامًا، وقد تجاوزت الحد الأدنى المفترض لعمر السد، وبالتالي فهي تحتاج، من الناحية النظرية، إلى تحديث، ذلك أن العديد من السدود الكبرى في العالم بُنيت بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثم تواصل بعد ذلك تراجع بناء السدود بشكل مطرد حتى يومنا هذا ، بسبب المخاوف المتزايدة من تأثيرها على البيئة.
يتم تحديد العمر الافتراضي للسدّ بناءً على عدة عوامل مختلفة، من بينها نوع السد (خرساني أو حجري أو ترابي) ، وأيضا بحسب جودة المواد المستخدمة في البناء، إلا أنّ: “السدود الخرسانية المسلحة هي الأكثر تدهورًا لكونها عرضة للتآكل بسبب عملية الكربنة”، وفق تصريح جان كلود كولي، المهندس المدني ومسؤول الاتصالات بلجنة السدود السويسرية ، في حديث أدلى به إلى .SWI swissinfo.ch.
وتتمتع السدود في المملكة المتحدة واليابان بأعلى متوسط عمر في العالم (106 و111 عامًا على التوالي)، بينما يبلغ متوسط عمر السدود في سويسرا 69 عامًا. ويقول كولي: “لقد اصبحت متقدمة في العمر نسبيًا، ولكنها، قد تُضاعِف عمرَها في حال عدم وجود تفاعلات قلوية تراكمية أو كربنة، من دون أي مشكلة”.
وخير مثال على ذلك، سد ميغروج في كانتون فريبورغ، الذي بدأ تشغيله في عام 1872، وهو أقدم سد خرساني في أوروبا، وتم تحديثه في عام 2005 وهو “اليوم ، يعمل بشكل مثالي” ، على حدّ قول كولي.
مخاطر شيخوخة السدود
ونظرا لكون جميع السدود في العالم ليست بالضرورة شبيهة بسد ميغروج، فقد حذر باحثون في جامعة الأمم المتحدة من أن شيخوخة السدود الكبيرة تمثل “خطرًا ناشئًا” لم يحظ بعد بالاهتمام الكافي.
ويُشار إلى أن السد إذا صمّم وبُني وتمت صيانته بشكل جيّد يظل قيد التشغيل من دون أي اشكال. غير أن العديد من السدود حول العالم لا تلبي هذه المعايير، فعلى مدى العقدين الماضيين عانت عشرات السدود من أضرار جسيمة أو انهارت بالكامل كما حصل في الولايات المتحدة والهند والبرازيل وأفغانستان ودول أخرى، ولم يستبعد تقريررابط خارجي صادر عن جامعة الأمم المتحدة الصادر في عام 2021 إمكانية ارتفاع عدد تلك الحوادث.
من جهة أخرى، لا تُضر شيخوخة السدود بكفاءة محطات الطاقة الكهرومائية ووظيفتها فحسب، بل إنها تشكل أيضًا تهديدًا محتملاً لحياة وسلامة مئات الملايين من البشر، ويشير التقرير إلى أن أكثر من نصف سكان العالم سيعيشون، بحلول عام 2050، في مجاري أنهار سدود كبيرة بُنيت في القرن العشرين.
يحتاج الأمر إذن إلى جهد دولي يعزّز صيانة هذه السدود لكي تكون قادرة على مواجهة كافة ما يمكن أن تتعرّض له من مخاطر ناشئة، فبالإضافة إلى خطر التآكل الطبيعي، لابد من الأخذ في الاعتبار عواقب الاحتباس الحراري، ذلك أن السيول القوية وتغيرات هطول الأمطار قد تعجّل بتدهور هذه المرافق وتزيد من احتمالية انهيارها، كما يُلاحِظ دوميندا بيريرا، المؤلف الرئيسي لدراسة جامعة الأمم المتحدة.
ذوبان الأنهار والقمم الجليدية
علاوة على ما سبق، تواجه السدود السويسرية خطرًا متزايدًا، بسبب الفيضانات والسيول، يقول أمبرغ: “نحن نعيد تقييم قدرة وحدات تصريف المياه الزائدة”، فأكثر ما يقلق المهندس هو تراكم الأخشاب نتيجة هطول الأمطار الغزيرة، وهو ما يقتضي العناية بالغابات والأحراش الموجودة حول الأحواض المائية لمنع الجذوع والأغصان من الوصول إلى مجاري المياه ومنها إلى وحدات الصرف.
ويزيد من احتمالات حدوث انهيار ات باتجاه البحيران، وبشكل غير طبيعي ومدمّر، عدم استقرار السفوح الجبلية عند ارتفاع درجات الحرارة وذوبان جليد القمم، كما حدث في سد فايونت في إيطاليا عام 1963، فضلًا عن الرواسب التي تحملها مياه ذوبان الأنهار الجليدية، فهي ولا شك تثير قلق المشرفين على السدود لكون هذه الترسّبات بما تحويه من أملاح ومعادن تعمل على كشط الأنابيب والتوربينات، والأدهى من ذلك أنها قد تتراكم في الحوض فتقلل حجمه.
يجدر الإشارة إلى أن الرواسب لا تسبب أي مشكلة لسد فيرزاسكا، لأن بحيرته تتغذى بشكل رئيسي من الأمطار، وستنتهي أعمال تحديثه في فصل الربيع الذي هو على الأبواب، وسيتم ملء حوضه تدريجياً، وسيستعيد الوادي مياهه الفيروزية. لكن في هذه اللحظة، يُلقي أمبرغ نظرته الأخيرة من أعلى السد باتجاه أسفله مرددًا: “مَن يدري متى ستتاح لي فرصة الاستمتاع بهكذا منظر مرة أخرى”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.