مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“عدالة”… عندما يقف عرض أوبرا في وجه العملاق السويسري غلينكور

مشهد من العدالة
تستند مسرحية "العدالة" إلى حادث حقيقي مرتبط بنشاط التعدين الذي تقوم به شركة سويسرية متعددة الجنسيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية. Carole Parodi/GTG Justice

هو "صفعة في الوجه"، أو ربّما انقلاب إبداعي يأخذ الأوبرا إلى عوالم غير مستكشفة. هكذا بدا لنا "عدالة" في عرضه العالمي الأوّل، في المسرح الكبير بجنيف هذا الأسبوع.

إذا كنت تعتقد.ين أن الأوبرا هي مجرّد ضرب قديم من ضروب الترفيه النخبويّ، فسوف يجعلك “عدالة” تفكّر.ين مرّة أخرى. يسلّط هذا العرض الحديث ضوءًا قاسيًا على تجّار وتاجرات السّلع في سويسرا الغارقين والغارقات في الرفاهية على ضفاف البحيرة، فيما تظلّ نضالات الأشخاص في الأراضي، التي تحرقها الشمس ويغرقها المطر، غير مرئية إلى حدّ كبير للجمهور الدولي.

” عدالة” هو في المقام الأول صرخة من أجل العدالة. وهي تتحقّق بفضل حملة التمويل الجماعي الواعي، لضحايا حادث فظيع لانقلاب شاحنة حمضيات، كان قد أدّى إلى مقتل 21 شخصًا وتشويه الناجين والناجيات تمامًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية. الموت والتشويه والكرامة وإحباط العدالة هي أفكار متكرّرة في هذه الأوبرا للملحّن الكاتالوني هيكتور بارا، والمخرج المسرحي السويسري ميلو راو، وكاتب الأغاني الكونغولي فيستون موانزا موخيلا.

يخوض هذا التعاون العالمي في هياكل السلطة الاستغلالية بين الماضي والحاضر من خلال عدسة حادث مأساوي. وترتبط أكبر دولة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بالغرب بشكل مؤلم بسبب العبودية والاستعمار، وهي حقائق قاتمة يتردّد صداها في ديناميكيات القوة الاقتصادية العالمية اليوم. يتمّ تفكيك هذه الروابط على خشبة المسرح مع الموسيقى التي تستمدّ قوتها من نبضات الرومبا الكونغولية الجريئة، والرئتين الصاخبة لمجموعة نجوم من العازفين والعازفات المنفردين.ات في اتّحاد يجسّد الشخصيات الحقيقية والمستعارة.

>>> الفيديو التشويقي لعرض الأوبرا “عدالة”: 

محتويات خارجية

الكارثة

مصدر الإلهام الواقعي لهذه اللجنة والإنتاج المشترك هو حادث وقع في عام 2019. حيث اصطدمت ناقلة تحمل مادة حامضة بحافلة صغيرة على أحد الطرق في كولويزي. بالنسبة للبعض، كان المصير هو الموت السريع. وبالنسبة للبعض الآخر، فقد كان العذاب الجهنمي الممتدّ لساعات من العجز تحت الحطام. كانت الشاحنة متّجهة إلى منجم للكوبالت تابع لشركة غلينكور السويسرية متعددة الجنسيات. بالكاد انتبه العالم لتلك الكارثة. لكنّ إعادة تجسيد للأحداث تعرض الآن في جنيف.

يقول راو لسويس إنفو (SWI swissinfo): “جزء كبير من عملي هو محاولة إحداث تأثير حقيقي، والحديث عن الواقع وإبرازه على المسرح. ومن ناحية أخرى، استخدام المسرح كمكان للسموّ والجمال”.

تتكشّف الأوبرا، مثل الحادث، في كابوي. تقع القرية بين كولويزي ولوبومباشي، مسقطا رأس الكونترتينور* الكونغولي الشابّ سيرج كاكودجي وكاتب الأغاني موانزا موخيلا. تضيف الجغرافيا الجاذبية إلى مسعاهما المعلن. خاطب كلاهما الجمهور، ونقلا ما يعنيه بالنسبة لها شخصيًا أداء وإبراز أصوات الضحايا في جنيف، مركز تجارة السلع العالمية.

لا تغيب عن بال الرّجلين المفارقة الوحشية المتمثلة في أن الكوبالت ** يكتسب قيمته في السوق الدولية فقط. ويضمن تعاونها الفنّي الجادّ مع راو، الذي يغوص في عالم الأوبرا للمرة الثانية مع “عدالة”، انتباه الحضور إلى تلك المفارقة أيضًا. ومن الناحية الفنية، يقول موانزا موجيلا، إن التحدّي يكمن في الجمع بين الخيال والواقع على الأرض، وإنصاف الضحايا الحقيقيين.يات لهذه الأحداث.

وصرّح موجيلا للصحافة قبل العرض الأّول: “هناك من أسمّيهم.هن الضحايا الرئيسيين.يات والضحايا الجانبيين.يات. يتأثر جميع الشعب الكونغولي، بطريقة أو بأخرى، بواقع التعدين. في هذا البلد يوجد الذهب والنحاس والماس وجميع أنواع الخامات المعدنية لكن الشعب الكونغولي لا يستفيد منه.” في “عدالة”، ليس كاتب السيناريو مجرّد ضمانة في البرنامج، ولكنه هو نفسه شخصية قوية على المسرح.

كونترتينور ومخرج المسرح
العارض سيرج كاكودجي والمخرج ميلو راو أثناء التدريبات على المشهد الذي تم عرضه بالفيديو خلال أوبرا “العدالة”. وخلفهما، أحد مناجم الكوبالت العديدة في كولويزي. Moritz von Dungern/GTG Justice

يقدّم إخراج راو نظرةً لا تتزعزع على كارثة عام 2019 التي دمّرت مجتمعًا، وألحقت ندوبًا بالأمّة. فقد سافر إلى المنطقة ثلاث مرات. وينعكس هذا الجهد في الأصالة النفسية للقطعة، واختياراتها المسرحية، التي تمزج بين الدقة التوثيقية والذوق الأوبرالي. الشيطان يكمن في التفاصيل، وكذا هي “عدالة”، تقدّم ما يكفي من الواقع لتكريم الضحايا، ومن الدراما لصدمة الجمهور.

يقول لـسويس إنفو: “بالنسبة لي، “عدالة” هي نصب تذكاريّ للحزن. ففيها الكثير من الحزن، في الكلمات، في الإخراج الركحي، في كل شيء. فيها جانب جمالي وجانب نقدي وقانوني.”

الرمزية والواقع

تقدّم السوبرانو الفرنسية أكسيل فانيو أداءً لاذعًا في دور لأمّ فتاة قُتلت في الحادث. إنّها قصّة حقيقية. “لقد ذابت ابنتي وأحلامها في الحمض”، تهتف فانيو، بلسان حال الأمّ الثكلى، متأسّفة في أغنية مؤثّرة توثّق رحلة الطفلة اليائسة من الحياة إلى الموت. في ذلك اليوم المشؤوم، وبعد أن أحرق حمض الكبريتيك عيون الضحايا والأطراف والجلود، انتشر بفعل المطر إلى مقبرة وحقول زراعية مجاورة.

في بعض الأحيان، يكون الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة ضبابيًا بشكل مثير للقلق. تفسح مشاهد السّوق المجالَ أمام لقطات مقرّبة لرؤوس الماعز المقطوعة ولحمها وعظامها. يكافح الجمهور لمعرفة ما إذا كان اللحم يعود لحيوان مذبوح في السّوق أو لبشر تمّ تمزيقه بواسطة القوة التآكلية لحمض الكبريتيك، والذي يستخدم عادة لترشيح الموادّ التي تحتوي على الكوبالت.

“حياتي ليست قمامة، ساقاي تساويان الماس،” يقول كاكودجي على خشبة المسرح. إنه يلعب دور ميلامبو كايامبا، أحد الناجين من الحادث، والذي فقد ساقيه، ويعرف محليًا باسم الملياردير (الملياردير). دورُه الذي كان على كرسي متحرّك منح الفنان الكونغولي تأثيرًا مزدوجًا. فقد شهد كاكودجي عندما كان طفلاً كيف غيّر التعدين مدينة كولويزي. وعندما أصبح شخصًا بالغًا، تعرّض في إيطاليا لهجوم عنصري شرس عام 2015، ممّا جعله مُقعدًا على كرسيّ متحرّك.

يقول: ” كان من الواضح أنه كان عليّ أن ألعب هذا الدور، حتى لو كان مؤلمًا عاطفيًا بالنسبة لي”.

يضيف التصوير على المسرح، والموادّ الأرشيفية، ولقطات الطائرات بدون طيار إلى الشعور بالواقعية. في “عدالة”، يتم نقل ألم الضحايا في وضعه الخامّ إلى الجمهور من خلال تفاصيل بأسلوب وثائقي يتم دمجها في ألحان قوية. ومن بين هذه الآلام، تسوية بقيمة 250 دولارًا (215 فرنكًا سويسريًا) عن فقدان طفل، و1000 دولار عن فقدان أفراد بالغين من العائلة. يلاحظ كاكودجي في مقابلة هاتفية بين العروض: “250 دولارًا مبلغ فظيع، وفي بعض الأحيان كان أقلّ من ذلك حتّى.” .

أكسل فانيو على المسرح
تلعب مغنية الأوبرا أكسيل فانيو دور والدة فتاة قُتلت في الحادث عام 2019. Carole Parodi/GTG Justice

لعبة اللّوم

من المسؤول عن هذه المهزلة؟ أنت. أنا. هواتفنا الذكية. السيارات الكهربائية التي تعمل بالكوبالت، والتي تهدف إلى إنقاذ الكوكب. الطلب العالمي على الكوبالت هو الذي حوّل مجتمعات التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى المعذّبين والمعذّبات في الأرض. جشع الشركات متعددة الجنسيات التي تأتي بوعود بالوظائف والمستشفيات والمدارس. لامبالاة الشركات متعددة الجنسيات التي تفشل في تحمّل مسؤولية ذات معنى كلّما ساءت الأمور.

“إنه خطأ الطريق. إنه خطأ الطريق. إنه خطأ الطريق”، تكرّر الميزو سوبرانو*** براديتش، التي تلعب دور سائقة تهرب بعد القيام بحادث، وهي شخصية مستوحاة من طياري.رات المروحيات الروسية الذين واللواتي واجههم.ههنّ راو في جمهورية أفريقيا الوسطى. كان الجاني الحقيقي صوماليًا، وهو الآن حرّ، وفقًا لمحامي في جمهورية الكونغو الديمقراطية يتابع القضية.

ثيوفيستا كازادي كابوي
فقدت حفيدة ثيوفيستا كازادي كابوي (في الصورة) بصرها أثناء حادث كابوي في قلب أوبرا “العدالة”. Moritz Von Dungern/GTG Justice

بحث محبط عن العدالة

أُسقطت القضية، التي تشمل 11 مدّعيًا ومدّعيةً، على المستوى المحلي في يناير 2021. وهي الآن مدرجة في قائمة محكمة الاستئناف في العاصمة الكونغولية. رحلة لأكثر من أربع ساعات لا يمكن للضحايا وفريق المحاماة تحمّل تكاليفها.

“لا نعرف متى ستصدر محكمة النقض حكمها، لأنه لا يملك المدّعون والمدّعات الوسائل المالية لمواصلة القضية في كينشاسا”، يوضّح الأستاذ خوسيه كاشال من مركز المساعدة القانونية المرافق للضحايا (CAJJ)، في رسالة عبر البريد الإلكتروني.

تهدف حملة التمويل الجماعي المرتبطة بأداء الأوبرا إلى المساعدة بهذا الخصوص. حيث قال أفييل كان، رجل القانون السويسري الذي يرأس حاليا المسرح الكبير في جنيف، للصحفيين والصحفيات قبيل العرض الأوّل: “عندما يغادر الجمهور القاعة، يمكنه في الواقع مساعدة الشخصيات التي يراها على المسرح، فيما هي تناضل من أجل حياة أفضل، ومن أجل العدالة”.

      +رابط خارجيالمساهمة في حملة التمويل الجماعي “العدالة من أجل كابوي”رابط خارجي

يقول يوهانس ويندلاند، المستشار القانوني لشؤون الأعمال التجارية وحقوق الإنسان في إحدى المنظمات الخيرية التابعة للكنيسة (HEKS-Swiss Church Aid): “إن التجارة العالمية تعني المسؤولية العالمية”.

قد تحقّق المحاكمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية العدالة، وقد لا تحقّقها؛ ناهيك عن فرض التغيير في صناعة تحقّق أرباحًا هائلة. في بعض الأحيان، تأتي أفضل فرصة لتحقيق العدالة من الأشكال الفنية المبتكرة التي يمكنها تغيير الوعي في محكمة الرأي العامّ. في هذا السياق، كانت الأوبرا خيارًا جريئًا لمسرح جنيف. بالنسبة لكاكودجي، تعتبر الأوبرا وسيلة لتحقيق العدالة على وجه التحديد بسبب المكان الذي تم تقديمها فيه: سويسرا، قلب التجارة العالمية للموادّ الخامّ.

* نوع من الأصوات الغنائية الرجالية. وهو يعتبر أعلى من المجال الوسطي.

** عنصرٌ كيميائي، يصنّف كيميائياً ضمن الفلزّات الانتقالية.

***نوع من الصوت الغنائي الأنثوي الكلاسيكي الذي يقع نطاقه الصوتي بين السوبرانو والرنانالتو.

المزيد
عامل بغلينكور في جمهورية الكونغو الديمقراطية

المزيد

كيف تقوم غلينكور بواجباتها المجتمعية؟

تم نشر هذا المحتوى على من استخراج المعادن إلى تجارة النفط والمنتجات الزراعية، تعمل غلينكوررابط خارجي في أكثر من 50 دولة. بعضها، مثل أستراليا، لديها تاريخ طويل في التعدين والضوابط الصارمة له. وأخرى، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالكوبالت، هي أماكن عالية الخطورة وتتجنبها شركات عديدة.  منذ عام 2015، تشغل آنا كروتيكوف منصبها كمسؤولة عن سياسة الاستدامة في غلينكور. وقد…

طالع المزيدكيف تقوم غلينكور بواجباتها المجتمعية؟

تحرير: إدواردو سيمانتوب، وأناند شاندراسيخار

ترجمة: أمل المكّي

مراجعة: مي المهدي

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية