الحد من تأثير الأنشطة التجارية على تغيّر المناخ يمر عبر معالجة طرق الانتاج
تُعتبر عمليات إنتاج السلع والاتجار بها جزءاً أساسياً من سوقنا الاقتصادية المعولمة، ولكنها تؤثر بشكل كبير على البيئة والمناخ. ومع ذلك، فخلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في غلاسكو، كانت المناقشات التي دارت حول كيفية جعل عمليات الإنتاج وتجارة السلع أكثر استدامة محدودة للغاية، بحسب ما صرح به المدير السابق للمعهد الدولي للتجارة في حوار أدلى به إلى swissinfo.ch.
إن السلع التي نستهلكها نقوم باستيرادها من جميع أنحاء العالم – ولا تتم عمليات إنتاج الغالبية منها وفق معايير الاستدامة. ويعتقد طوماس كوتييه، الأستاذ الفخري بجامعة برن والمدير العام السابق للمعهد الدولي للتجارة، أن اتخاذ القرارات التجارية الصائبة لناحية مصادر الإنتاج ومكافأة مستوردي السلع التي يتم إنتاجها بطريقة مستدامة يمكن أن يساعد بشكل كبير في تحقيق الأهداف المناخية التي تمّ تحديدها في مؤتمر الأمم المتحدة الأخير المعني بتغير المناخ “كوب 26”. وتشمل هذه الأهداف العمل على منع درجة الحرارة العالمية من تجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وتقديم ما لا يقل عن 100 مليار دولار سنوياً لتمويل المشاريع التي لا تؤثر سلباً على المناخ في البلدان النامية.
إن اتفاقية التجارة الحرة بين سويسرا وإندونيسيا والتي تسمح بدعم استيراد زيت النخيل الذي يتم إنتاجه وفق معايير الاستدامة، هو خير مثال على رغبة سويسرا في تحقيق تلك الأهداف. مع ذلك، فإن مسألة التدابير والاجراءات التي من شأنها أن تحد من تغير المناخ خلال النشاطات التجارية لم تمنح الوقت الكافي لبحثها من قبل الأطراف المعنية خلال مؤتمر المناخ بغلاسكو الذي انعقد قبل أشهر من الآن. ويعتبر كوتييه أن الأطراف المشاركة قد أضاعت فرصة حقيقية لمناقشة هذه المسألة بشكل جدّي. كما يرى أن الحكومات بحاجة إلى التركيز على البنية التحتية التي تحترم البيئة ومعايير الإنتاج الصناعي بدلاً من التركيز على سوق المستهلكين.
SWI swissinfo.ch: ما هي النتائج التي يمكن استخلاصها من القرارات المتخذة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في غلاسكو (كوب 26) الذي انعقد في نوفمبر المنصرم؟
طوماس كوتييه: إن القرارات التي تم اتخاذها في غلاسكو والمبنية على أساس اتفاقية باريس لعام 2015، هي في الأساس التزامات أحادية الجانب من قبل الدول، ولا يمتلك المجتمع الدولي الوسائل القانونية لجعلها قرارات عامة ملزمة. وإذا لم تقدم دول مثل الهند والصين تعهدات واضحة بشأن هذه الالتزامات فليس بمقدورنا أن نفعل شيئاً إزاء ذلك. من ناحية أخرى، تم تقديم تمويلات قليلة جداً للبلدان النامية بهدف تطوير إجراءات وتدابير من شأنها التكيف مع مسألة التغيرات المناخية، ولم تتعهد البلدان الصناعية بعد بتقديم مساهمات إلى الصندوق الأخضر للمناخ [منصة عالمية تهدف إلى الاستجابة لمشكلة التغيرات المناخية من خلال الاستثمار في مشاريع منخفضة الانبعاثات]، وغيره من صناديق تمويل آليات السياسات المناخية في البلدان النامية.
إذن نفهم من ذلك أنه ما زال علينا بذل جهود إضافية؟
نعم بالتأكيد، فخلال قمة غلاسكو (كوب26)، لم تجرِ مناقشة حقيقية حول الاجراءات والتدابير المتعلقة بالنشاطات التجارية والتي من شأنها أن تسهم في تحقيق أهداف المؤتمر، لا سيّما وأن العديد من هذه الاجراءات والتدابير التي تتبناها البلدان لها تأثيرها على التجارة الدولية للسلع والخدمات. وعلى الدول أن تسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة بشأن هذه الاجراءات والتدابير من خلال منظمة التجارة العالمية.
حتى اللحظة، يتخذ أعضاء منظمة التجارة العالمية، ومقرها جنيف، موقفاً سلبياً إلى حد ما؛ فباستثناء المفاوضات الجارية بشأن مصائد الأسماك، والتي تسعى إلى خفض دعم الوقود الأحفوري لأساطيل الصيد، يمتنع هؤلاء عن العمل بشكل استباقي من أجل معالجة مشكلة تغير المناخ أو التنوع البيولوجي.
المزيد
سويسرا غير الطموحة تريد إقرار استراتيجيات طموحة في مؤتمر غلاسكو
SWI: ما هي القضايا المتعلقة بالأنشطة التجارية التي تعتقد أنه يجب أن تكون ضمن أولوية الاهتمامات؟
طوماس كوتييه: أهم القضايا التجارية هي تلك التي تتعلق بفهم أساليب الإنتاج والتصنيع (PPMs)، فهي تحدد عملية تجهيز السلع والخدمات. لقد أصبح للطرق التي يتم بها إنتاج السلع، كما لكيفية إنتاجها بطريقة مستدامة أم لا، أهمية متزايدة. فظروف السوق اليوم تختلف بحسب معايير الاستدامة المتبعة في دورة الإنتاج.
على سبيل المثال، يتم إنتاج الفولاذ بشكل مستدام، عن طريق استخدام الطاقة الكهرومائية، والطاقة الحرارية، وطاقة الرياح، والهيدروجين الشمسي. وفي حين أن فهم أساليب الإنتاج من شأنه أن يسهم في تسهيل عملية وصول الفولاذ إلى الأسواق، إلا أنه يؤدي إلى فرض رسوم أعلى على المنتجات القائمة على الوقود الأحفوري التي تتسبب في تلوث البيئة. وفي ظل شروط معينة، يقوم جهاز تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية بأخذ ذلك في عين الاعتبار، لكن المسألة تتطلب إجراء مفاوضات على نطاق أوسع.
لماذا العمليات وطرق الإنتاج مهمة وفقاً لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، فإن مصطلح PPMs (أساليب الإنتاج والتصنيع) يحدد الطريقة التي يتم بها تصنيع المنتجات أو معالجتها، كما يأخذ في الاعتبار كيفية استخراج الموارد الطبيعية أو الحصول عليها. وقد تؤثر أساليب الإنتاج والتصنيع على خصائص المنتج نفسه، وهو ما يؤدي في بعض الحالات إلى تلوث البيئة أو تدهورها عند استخدام هذا المنتج. كما قد يكون لأساليب الإنتاج نفسها تأثير واضح على البيئة، كإطلاق الملوثات في الماء أو في الهواء.
يعد تبنّي السياسات المتعلقة بأساليب الإنتاج والتصنيع (PPMs) آليات مهمة لتعزيز التنمية المستدامة، لا سيّما عندما تضمن تحميل المتسببين بالتلوث المسؤولية عن تكاليف الأضرار البيئية، على سبيل المثال.
هل يمكننا القول أن أساليب الإنتاج والتصنيع تمثّل أدوات مفيدة لفهم سلسلة التوريد الكاملة لمنتج معين وتقييم استدامته؟ وكيف يمكن تحديد التأثير البيئي الحقيقي للمنتج؟
وفقاً للقوانين المتداولة تقليدياً والمتعلقة بسياسة عدم التمييز بين المنتجات المستوردة، تُدرج هذه الأخيرة مع المنتجات المحلية على نفس اللوائح وتخضع لنفس الضرائب المفروضة بغض النظر عن أساليب الإنتاج المستخدمة فيها. إلا أن مبدأ الاستدامة، الذي يهدف إلى خلق التوازن بين الاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية يغير هذه المعادلة؛ حيث تحتل اليوم مسألة حماية معايير العمل، وكذلك المخاوف المتعلقة بالبيئة، كالتغيرات المناخية أو المحافظة على التنوع البيولوجي، مركز الصدارة في الاهتمامات المتعلقة بالنشاطات التجارية.
من خلال معرفة أساليب الإنتاج، يمكن للبلدان المستورِدة أن تقوم بتقييم الأثر الاجتماعي والبيئي للمنتَج على البلد المنتِج. والمسألة لا تتعلق بتتبع أصول جميع المنتجات ومكوناتها وقد أصبحت سلعاً جاهزة للتصدير، فهذا غير ممكن من الناحية العملية، لكنها تتعلق بالتركيز على عدد من المنتجات التي تخلّف عمليات إنتاجها درجة عالية من التلوث، مثل الأسمنت والصلب والمعادن الأخرى، وكذلك الكهرباء وبعض السلع الأساسية الأخرى.
ما زلنا حتى اليوم، نعتمد بشكل كبير على التعهدات الطوعية والأحادية التي تمكننا من معرفة أساليب الإنتاج والتصنيع، وهذه التعهدات غير مُلزمة بموجب القانون الدولي. ولهذا فنحن بحاجة إلى تحسين الأنظمة عن طريق فرض إجراءات تجارية وإنشاء إطار عمل مناسب بشأن هذه المسألة في منظمة التجارة العالمية، أو في الاتفاقيات الثنائية التفضيلية.
ما هي الصورة التي ستبدو عليها هذه الإجراءات؟
أحد الأمثلة الحديثة يتعلق باتفاقية التجارة الحرة بين سويسرا والرابطة الأوروبية للتجارة الحرة (ETA) من جهة، وإندونيسيا من جهة أخرى والمتعلّقة بإنتاج زيت النخيل. ويُعتبر تطبيق هذه الاتفاقية بمثابة نقلة نوعية في نموذج PPM، حيث ترتبط حصص التعريفة التفضيلية على زيت النخيل المستورد من إندونيسيا بأساليب الإنتاج المستدامة واحترام المعايير المتفق عليها.
يُعتبر تحول الطاقة تحديًا كبيرًا لجميع البلدان، ولكن بشكل خاص للديمقراطية المباشرة
لقد ذكرت سويسرا كمثال على البلدان التي قامت بخطوات إيجابية بهذا الشأن، لكن الناخبين السويسريين رفضوا قانون ثاني أكسيد الكربون الذي تم اقتراح التصويت عليه. إذن، أين يمكن أن تحسن سويسرا من أدائها؟
يجب أن نستخلص من رفض الشعب لقانون ثاني أكسيد الكربون أهمية اعتماد التدابير المتعلّقة بتحوّلات التكنولوجيا التي من شأنها ألا تخل بمقوّمات العدالة الاجتماعية. من الصعب مثلاً التعامل مع المدن، ذات وسائل النقل العام الكثيفة، بنفس طريقة التعامل مع الريف، حيث يعتمد الأفراد على السيارات أو على التدفئة اللامركزية. وبدلاً من المضي قدماً في الاستفتاءات بشأن الأساليب التي تركز كثيراً على حاجات المستهلكين، يتوجب علينا أن نركّز اهتمامنا على ماهية البنية التحتية للإنتاج والصناعة والتحولات التي يمكن أن تطرأ نتيجة ذلك على المدى الطويل. هذه المسألة هي الكفيلة بإيجاد الفرص لخلق النمو وابتكار التقنيات الجديدة واستحداث الوظائف.
يشير تقييم أجراه مركز أبحاث المناخ “كلايمت أناليتيكس” Climate Analytics إلى أن جهود سويسرا للحد من التغيرات المناخية غير كافية، وإذا حذت دول أخرى حذوها، فقد ترتفع درجات الحرارة إلى 4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن. في غضون ذلك، ارتفعت الواردات بشكل حاد في السنوات الأخيرة مما يعني زيادة البصمة الكربونية. ألا تبدو الصورة قاتمة جداً…؟
إذا قمنا بتضمين الواردات في البصمة الإجمالية، نرى أنه يتوجّب على سويسرا القيام بالكثير من الخطوات، على جميع مستويات الحكم، الفدرالية والكانتونية. يعتمد الكثير من هذه الخطوات على سياسات المدن الكبرى، والتي ينبغي تعزيزها. يمثل تحول الطاقة اليوم تحدّياً كبيراً لجميع البلدان، وبشكل خاص لدولة مثل سويسرا تتبنى الديمقراطية المباشرة. وستكون سويسرا بحاجة إلى التعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق أهدافها المتعلّقة بالبيئة وبالتغيّرات المناخية. وعلى المستوى الدولي، يمكن للدولة أن تقترح على منظمة التجارة العالمية، مبادرات بشأن التجارة وتلتزم بجدية من خلال تبسيط قطاعها المالي العامل عالمياً بهدف تأمين الاستثمار المستدام. وفي هذا الصدد أيضاً، نشير إلى أن قضية المسؤولية الاجتماعية للشركات تبقى مطروحة على جدول الأعمال.
المزيد
“يجب علينا التحول إلى نماذج تنموية أكثر استدامة”
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.