عودة الإحتفاء بالأجر الأدنى لكافة العاملين في سويسرا
يُـدعى السويسريون يوم الأحد 18 مايو 2014 مجددا إلى صناديق الإقتراع، للتعبير عن رأيهم بشأن تحديد أجر أدنى لكل العاملين والأجراء. لكن النقاش المحتدّ في العديد من البلدان الغربية والإقتصاديات الصاعدة حول هذه المسألة تحديدا، لا يقف عند حدود الكنفدرالية.
في الولايات المتحدة، أعلن باراك أوباما عن نيّـته الترفيع في الأجر الأدنى بحوالي 40% ليستقِـر عند حدود 10100 دولار. ومع أنه ليس من المؤكّـد أن يحصُـل المقترح على أغلبية في الكونغرس، إلا أن الرسالة واضحة، وتتلخّـص في “امنحوا زيادة في الأجور إلى أمريكا”، مثلما جاء على لسان الرئيس الأمريكي في خطابه السنوي حول حال الإتحاد يوم 28 يناير الماضي.
في نوفمبر 2013، اضطُـرت أنجيلا ميركل للإعلان عن إقرار أجر أدنى شامل في ألمانيا، وهو تنازل قامت به لفائدة شركائها الإشتراكيين الديمقراطيين في الحكومة. وفي منتصف يناير الماضي، أعرب جورج أوسبورن، وزير الميزانية في المملكة المتحدة، عن تأييده للترفيع بـ 11% في الأجر الأدنى للساعة الواحدة، كي يستعيد المستوى الذي كان عليه قبل اندلاع الأزمة. وأخيرا، قررت الصين العام الماضي إعادة تقييم الأجر الأدنى، وزادت فيه بـ 18%.
هذه الإعلانات تُـعتبر، حسب سيرجيو روسّـي، أستاذ الإقتصاد بجامعة فريبورغ، نتيجة مباشرة للأزمة المالية التي اندلعت في عام 2008، ثم للأزمة الاقتصادية الشاملة التي تلتها. ويضيف قائلا: “بدأ قادة العديد من الدول في استيعاب أن الأجور المتدنية، مُـضرّة بالنشاط الإقتصادي، وبالفعل، فإن القدرة الشرائية للعائلات هي التي تُـحدد النمو الإقتصادي على المدى الطويل”.
على صعيد آخر، يُـشير سيرجيو روسّـي إلى أن العجز الخطير الذي تعاني منه التوازنات المالية العمومية، يضع الحكومات أمام خيارين لا ثالث لهما: “فإما أن تقرر الترفيع في الضرائب، وهو إجراء لا يحظى دائما بالشعبية، وإما أن تُـرفِّـع في الأجور الدنيا، سعيا لتخفيض النفقات العمومية في مجال الحماية الإجتماعية”.
المزيد
كيف تعيش بأقل من 4 آلاف فرنك في الشهر؟
تقليص الفوارق
من جهته، يُـشدد ستيفان غاريلّـي، الأستاذ في المعهد الدولي لتطوير التسيير الإداري (IMD) في لوزان، على أن عودة الإهتمام السياسي بالأجر الأدنى، يأتي “نتيجة الفوارق المتنامية في توزيع الثروات ولحساسية متصاعدة تجاه العدد الكبير من (الفقراء العاملين) في أسفل السلّـم”. وفي هذا الصدد، أوضح غاريلّـي، أن 1% من العائلات تملِـك 46% من الثروات على المستوى العالمي، أي ما يعادِل 110000 مليار دولار.
في شهر فبراير 2013، اعتبر خبراء تابعون لصندوق النقد الدولي، أن ظواهر التفاوت الإجتماعي، تُـهدد بـ “خفض النمُـو”، مُـبتعدين بذلك عن وصفات التقشـف الصارمة التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، وخاصة في الحالة اليونانية.
وفي خطاب ألقاه يوم 24 يناير 2014، ذهب غي ريدر، المدير العام لمنظمة العمل الدولية، إلى أبعد من ذلك، حيث قال حرفيا: “إن ظواهر التفاوت الإجتماعي ينجرّ عنها الإستياء في صفوف السكان وتزيد من مخاطر عدم الإستقرار. فالإضطرابات الحالية في العديد من البلدان، تُـغذّيها مشاعر الإفتقار إلى العدل”.
فكرة ليبرالية
إذا ما كان الأجر الأدنى مطلبا قديما لمنظمة العمل الدولية، فإن عودة الإهتمام به من طرف الحكومات في المقابل، أمر مستجَـدّ نسبيا. فإلى بداية التسعينات، كان الإجماع السائد يعتبِـر أن الأجر الأدنى مُـضرٌّ للتشغيل ويمثِّـل عامل كبحٍ للقدرة التنافسية للمؤسسات.
في عام 1994، بدأ الخبيران الإقتصاديان الأمريكيان، ديفيد كارد وألان كروغر، في تغيير المسار، حينما نشرا دراسة تُـقيم علاقة إيجابية بين الترفيع في الأجر الأدنى وارتفاع مواطن الشغل. في المقابل، يُـقرّ الخبراء اليوم أنه من العسير جدا تحديد هذا الرابط، سواء كان إيجابيا أو سلبيا، بصفة موحّـدة، نظرا لأن الإنعكاسات تختلف، حسب البلدان، خصوصا وأن النظام الإقتصادي الحالي يتّـسم بقدر أكبر من الإنفتاح.
هناك مفارقة أخرى، تتمثل في أن الأجر الأدنى – الذي يتبناه اليوم اليسار والنقابات – كان في بداية المطاف، مطلبا صادرا عن الأوساط الليبرالية، مثلما يذكّـر بذلك جون باتو، البروفيسور في معهد التاريخ الإقتصادي والجامعي، التابع لجامعة لوزان، حيث يقول: “الفكرة لا تأتي من الإشتراكيين، بل من الإقتصاديين الليبراليين الذين اعترفوا في القرن التاسع عشر بفشل السوق في تحديد قيمة دنيا للعمل. فمن وجهة نظر جون ستوارت ميل، آخر الإقتصاديين الليبراليين الكبار، يُـفترض أن يسمح إقرار أجر أدنى في نص القانون، بجعل العمل جاذبا بما فيه الكفاية للأجراء”.
تم إيداع المبادرة الشعبية حول الأجر الأدنى من طرف اتحاد النقابات السويسرية في عام 2012، مرفوقة بـ 112301 توقيع سليم، ويُطالب أصحابها الكنفدرالية والكانتونات بحماية الأجور في سويسرا وبالتشجيع على إقرار أجور دنيا في عقود العمل المشتركة (التي تُـبرم دوريا بين أرباب العمل والنقابات في العديد من القطاعات الاقتصادية).
من جهة أخرى، تدعو المبادرة إلى إقرار أجر أدنى شرعي على المستوى الوطني، بقيمة 22 فرنكا للساعة الواحدة. في الأثناء، أوصت الحكومة الفدرالية والأغلبية في البرلمان، التي تتشكل من أحزاب اليمين والوسط، برفضها. ومن أجل أن تتم المصادقة على المبادرة، يتعين عليها الحصول يوم 18 مايو 2014، على الأغلبية المزدوجة، أي موافقة أغلبية الناخبين عليها وتأييد أغلبية الكانتونات لها.
الإستثناء السويسري
في عام 1994، كانت نيوزيلاندا، وهي بلد استيطاني واجه موجة قوية من الهجرة الأوروبية، أول دولة تُـقر أجرا أدنى قانونيا. وإثر ذلك، تم تعميم الأجور الدنيا في البلدان النامية، بعد أزمة الثلاثينات. وفي الوقت الحاضر، تضبط التشريعات أجورا دنيا في 21 بلدا من بين 28 يتشكّـل منها الاتحاد الأوروبي.
في هذا الصدد، يُـشير جون باتو إلى أنه “بالنسبة لبعض البلدان التي لا تتوفر بعدُ على أجر أدنى لعدد من المِـهن، مثل ألمانيا وإيطاليا أو البلدان الإسكندنافية، فإن عقودا مشتركة للعمل تغطّـي أغلبية الوظائف، وهي تشتمل أيضا على إجراءات محدّدة فيما يتعلق بالأجور”.
ولكن، لماذا لم تنخرط سويسرا في هذا التوجّـه؟ يُجيب جون باتو أنه “خلال الثلاثينية الظافرة (ويُـقصد بها فترة النمو الإقتصادي القوي التي تلت الحرب العالمية الثانية) وبسبب النقص المُسجّل في اليد العاملة، كانت الأجور ترتفع بوتيرة أسرع من مطالب النقابات. من جهة أخرى، كان الإيمان بوجود (استثناء سويسري) راسخا جدا، حيث ساد الإعتقاد بأنه من الممكن الحصول على زيادات في الأجور دون اللجوء إلى نضال نقابي”.
البروفيسور بجامعة لوزان لاحظ أيضا أن الحركة النقابية السويسرية، منحت الأولوية في اهتماماتها لفترة طويلة، للمواطنين السويسريين الذكور والمُؤهلين، إلا أن هؤلاء يمثلون حاليا فئة من الأجراء تتقلص شيئا فشيئا، على عكس النساء والمُهاجرين من ذوي الكفاءات المحدودة النشطين في مجالات البيع والخدمات الشخصية (الحلاقة، العناية بالجسم،…) والتنظيف أو الفندقة والمطاعم، وكلها قطاعات تتسم بقلة التنظم على المستوى النقابي.
لهذه الأسباب مجتمعة، تجد النقابات نفسها مُضطرة لتوفير حماية قانونية لهذه الأصناف الجديدة من الأجراء، الذين تتسم أوضاعهم بالهشاشة. وعلى إثر العديد من المحاولات التي بُـذلت على مستوى الكانتونات، تُـوِّجت اثنتان منها بالنجاح في نوشاتيل والجورا، أطلقت النقابات مبادرة شعبية من أجل إقرار أجر أدنى على المستوى الوطني، ستُـعرض على تصويت الشعب السويسري يوم 18 مايو 2014.
أي أجر أدنى؟
الإشكالية الرئيسية تتعلق بمعرفة المستوى الذي يجب أن يتحدد فيه هذا الأجر الأدنى. فإذا ما كان منخفضا جدا، فلن يسمح بالتصدي لظاهرة الإغراق في الأجور. وإذا ما كان مرتفعا جدا، فسيتحول إلى عائق بوجه دخول العديد من الأشخاص إلى سوق الشغل، لأن الشركات ستفضل حينها “إبعاد أنشطتها إلى الخارج أو الإعتماد بشكل متزايد على الآلات”، مثلما يقول ستيفان غاريلّـي.
وفي هذا الصدد، يرى الأستاذ بجامعة لوزان، أن إقرار أجر أدنى بـ 22 فرنكا في الساعة، أي حوالي 4000 فرنك شهريا، مثلما تطالب بذلك المبادرة الشعبية، “سيترك الكثير من الناس وراء الباب”.
على العكس، يُعرب سيرجيو روسّـي عن تأييده لمبدإ اعتماد أجر أدنى قانوني، وخاصة من أجل “حماية أكثر من 50% من العمّـال الذين لا تشملهم تغطية عقود العمل الجماعية في سويسرا”. مع ذلك، يرى أن المبادرة تفتقر إلى الكثير من المرونة، ويقول: “يتعيّن ضبط قيمة مختلفة لهذا الأجر الأدنى حسب القطاعات الإقتصادية والمناطق، وإلا فإننا سنواجه في القطاعات التي تتّـسم أنشطتها بقيمة مضافة ضعيفة، والتي عادة ما تتميز فيها كتلة الأجور بقلة المرونة، خطر سحب الأجور الأخرى نحو الأسفل”.
بدوره، يذهب جون باتو إلى أن فتح الحدود وتنامي المنافسة بين العمال، يبرّر التوجه إلى اعتماد أجر أدنى قانوني من هذا القبيل. وفي السياق، يشدد على أن “النمو الإستثنائي” لإنتاجية العمل في سويسرا خلال العشرية الماضية (يُقدر بـ 50%)، يفنِّـد الفكرة القائلة بأن أجرا أدنى بـ 22 فرنكا في الساعة، سيكون مُبالغا فيه، ويقول: “حين يُـنظر إلى المسألة من الخارج، فقد يبدو مرتفعا جدا، لكنه ليس من السهل إجراءُ مقارنات بين بلد وآخر. فالتكاليف الإجتماعية وغلاء المعيشة تتباين كثيرا بين حالة وأخرى. وبالنسبة لأغلبية العمال الذين يقيمون في المدن السويسرية الكبرى، فإن 4000 فرنك في الشهر، لا تكاد تكفي للعيش بكرامة”.
(نقله من الفرنسية وعالجه: كمال الضيف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.