عُمّال الحدود.. واقعٌ سويسريّ يثير جدلا مُتصاعدا
شهد عدد عمال الحدود في سويسرا ارتفاعا هائلا منذ دخول اتفاقيات حرية تنقل الأشخاص بين برن وبروكسل حيز التطبيق.
وتواجه هذه الفئة أحيانا انتقادات عنيفة في كانتونيْ تيتشينو وجنيف، بينما يظل التعايش أكثر صفاء في “قوس الجورا” – الذي يضم كانتونات سويسرية ومقاطعات فرنسية – وأيضا في عموم المناطق السويسرية المتحدثة بالألمانية.
“أعداء سكان جنيف! كفانا من العمال الحدوديين! لنحتفظ بمواطن العمل لأبناء جنيف!”، هذه من بين الشعارات التي اختارتها بعد “حركة مُواطني جنيف” (MCG)، ثاني أهم حزب في الكانتون الحدودي، لملصقاتها الإعلانية التي ستُروج لأهدافها ذات الأولوية، استعدادا لانتخاب حكومة هذه الدويلة وبرلمانها يوم 6 أكتوبر القادم.
شقيقتها في كانتون فو (MCV) تبنّت نفس اللهجة الثأرية على موقعها الإلكتروني، حيث أعلنت أن “تدفق العمال القادمين من فرنسا يسهل تدهور البنى التحتية، ويزيد من التلوث، ويمارس ضغوطا على الأجور، ويدفع العديد من مواطني بلادنا إلى اللجوء للمساعدات الإجتماعية”.
“من الصّعب تقبُّل كل هذه الملاحظات، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يستثمرون جهدهم منذ سنوات طويلة من أجل تطوير شركاتهم والبلاد التي يعملون فيها”. هذا الرّد جاء على لسان جون-فرانسوا بيسون، الأمين العام للتجمع الأوروبي لعمال الحدود، وهي الجمعية التي تمثل عمال الحدود الفرنسيين النشطين في سويسرا.
في الوقت الحاضر، يمثل العمال الحدوديون قرابة ربع السكان النشيطين في جنيف، حيث يشغلون وظائف في كافة المجالات، من الإقتصاد المحلي إلى القطاع الصناعي، والرعاية الصحية، مرورا بتجارة التجزئة والقطاع المالي، وحتى المنظمات الدولية. ويتنقل يوميا ما بين جنيف وفرنسا أكثر من 65000 عامل أجنبي، أي ما يزيد بضعفين تقريبا عمّا كان عليه الوضع قبل عشرة أعوام.
بعد أن دخلت حيز التطبيق يوم 1 يونيو 2002، باتت حرية تنقل الأشخاص مع الإتحاد الأوروبي كاملة بالنسبة للعمال الحدوديين ابتداء من 1 يونيو 2007، وهو التاريخ الذي ألغي فيه شرط الإقامة بالنسبة لرعايا دول الإتحاد في مناطق حدودية محددة.
ومنذ ذلك الحين، لم تعد الشركات خاضعة لا لنظام حصص تصاريح العمل، ولا لتفضيل أبناء هذا البلد أو ذاك خلال عملية التوظيف. ويحصل العمال الحدوديون على رخصة عمل من صنف (G) تلقائيا عندما يتم توقيع عقد العمل، ويظل الإلتزام الوحيد الذي يتعين عليهم احترامه هو العودة مرة واحدة على الأقل في الأسبوع إلى منزل إقامتهم ببلدهم.
بنى تحتية في مأزق
في الأثناء، يعتقد بيسون أن “رفض العامِل الحدودي ناتجٌ أساسا عن عرقلة حركة النقل وقلّة وحدات السكن، وليس عن سوق العمل، لأن جميع التحقيقات تُظهر في الواقع أن هذه اليد العاملة كانت ضرورية للنمو الهائل الذي شهدته جنيف في السنوات الأخيرة، وأنها لم تسرق مواطن الشغل من المقيمين السويسريين”.
أما كلاوديو بولزمان، الأستاذ في المدرسة العليا للعمل الاجتماعي بجنيف، ومؤلف كتاب “المهاجرون كل يوم: عمال الحدود”، فيُــشير إلى أن توترا شديدا كان موجودا بالفعل في عقدي الستينات والسبعينات على جانبي الحدود.
ولكن جذور الخوف من ذلك “الغازي الفرنسي” تعود لتاريخ أقدم بكثير، بحيث يُذكر بولزمان أنه عندما التحقت جنيف بالكنفدرالية السويسرية عام 1814، لم تكن قد حصلت من فرنسا نابوليون بونابارت سوى على جزء صغير جدا من الأراضي المجاورة، ما ترك آثار جرح عميق. ولازالت جنيف تحتفل في شهر ديسمبر من كل عام بعيد “التسلق” الوطني الذي يخلد ذكرى انتصار الجمهورية البروتستانتية على قوات مقاطعة “سافوا” الفرنسية المجاورة عام 1602.
وفي بازل شمال البلاد، يظل الوضع أكثر هدوءا رغم أن المدينة التي تتواجد على مفترق الطرق بين ثلاث دول (سويسرا، وفرنسا، وألمانيا)، مُلزمة أيضا منذ زمن طويل بالتعامل مع يد عاملة حدودية وفيرة. سيدريك دوشين-لاكروا، الفرنسي الألماني المقيم في فرنسا على بعد 15 دقيقة فقط بالدراجة الهوائية من جامعة بازل حيث يعمل باحثا في قسم علم الإجتماع، يرى عدة أسباب لذلك قائلا: “إن السكان أقل تركيزا في بازل مقارنة مع جنيف، ونمو عدد العمال الحدوديين كان أكثر اعتدالا – 53000 بما في ذلك نصف كانتون بازل-القرية (أو ريف بازل)، أي أن الزيادة لم تتجاوز 7000 عامل منذ عام 2002 – مما لا يثير الشعور بالتعرض للغزو. وهذا ناجم بالخصوص عن نظام النقل الأقل ازدحاما، وأيضا عن الهيكل الإقتصادي للمدينة”.
بازل.. مدينة منفتحة
وبينما تصل نسبة البطالة إلى 5,5% في جنيف، فهي لا تتجاوز 4% في بازل-المدينة. العديد من عمال الحدود من بازل يتحدثون اللغة الإنجليزية ويعملون لحساب كبريات الشركات الصيدلانية في المدينة. ويشدد عالم الاجتماع دوشين-لاكروا على أن “المدينتين دوليتان، ولكن تكاليف المعيشة في جنيف أعلى، وجزء من الطبقة الشعبية يشعر بالتهميش مقارنة مع الدبلوماسيين، وأصحاب الثروات الكبيرة، والعمال الحدوديين”.
هذا الأخصائي يُوضح أيضا أن بازل تحتفظ تاريخيا بعلاقات أكثر هدوء وصفوة مع جيرانها، قائلا: “تعتبر المدينة منذ زمن طويل كإحدى أكثر المدن انفتاحا في سويسرا، والعديد من المآثر التاريخية يذكر بالروابط القوية مع منطقة الألزاس”.
وفي مناطق سويسرية أخرى متحدثة بالألمانية، “حل محلَّ الخطاب المعادي للعمال الحدوديين الجاري في سويسرا المتحدثة بالفرنسية والإيطالية، جدالٌ حول العدد المبالغ فيه للألمان المقيمين على أراضيها”، مثلما يشرح دوشين-لاكروا. فزيورخ مثلا باتت تأوي 76000 ساكنا ألمانيا، مقابل 8000 فقط من العمال الحدوديين. أما الكانتونات الأخرى الناطقة بالألمانية التي تستضيف أكبر عدد من عمال الحدود، فهي أرغاو
(12700)، وسانت غالن (8500)، وغراوبوندن وشافهاوزن (5000).
ظلت الآثار السلبية لحرية تنقل الأشخاص محدودة جدا في سويسرا منذ عام 2002. هذا هو الإستنتاج الذي تضمنه تقرير نشرته كتابة الدولة السويسرية للشؤون الاقتصادية بتاريخ 11 يونيو 2013، وتناول بالتحليل المُعمّق سوق العمل في المناطق الحدودية.
في تصريحات لـ swissinfo.ch، قال بيتر غاسر، المسؤول عن ملف حرية تنقل الأشخاص في كتابة الدولة: “نحن لم نلاحظ اختلافات كبيرة بخصوص تطور الأجور، ومعدل البطالة بين المناطق الحدودية وباقي سويسرا على مدى السنوات الإحدى عشرة الأخيرة”.
من جانبه، نشر المرصد الجامعي للتوظيف (OUE) بجنيف في شهر أبريل 2013 دراسة تُفند الفكرة التي مفادها أن عمال الحدود يطردون بعض السويسريين من سوق الشغل. وقال المرصد: “إن العاطلين عن العمل المقيمين في الكانتون لا يستجيبون في كثير من الأحيان للمهارات المطلوبة في منطقة بحيرة ليمان”.
في المقابل، يرى اتحاد النقابات السويسرية (USS) أن الضغط على الأجور هو واقع ملموس، خاصة في القطاعات التي لا تتوفر على اتفاقيات عمل جماعية. وبالنسبة لنقابة Travail.Suisse، ينبغي القيام بالمزيد من عمليات المراقبة في المناطق ذات الهجرة العالية، أو التي تستضيف العديد من العمال الحدوديين.
خلال السنوات القليلة الماضية، تم إطلاق العديد من المبادرات على المستويين الكانتوني والفدرالي التي تدعو إلى اعتماد حد أدنى للأجور.
لا ساعات سويسرية بدون عمال حدوديين
الأمر يختلف تماما في كانتون تيتشينو الجنوبي المتحدث بالإيطالية، الذي يستضيف 56000 عامل حدود إيطالي، أي بزيادة قدرها 75% عما كان عليه الوضع في عام 2002. ويعتبر هذا الكانتون، إلى جانب جنيف، كبش الفداء المفضل لليمين الشعبوي.
فهنا أيضا، تتكون طوابير لا نهاية لها من العربات أمام جمارك كياسو، ونسبة البطالة (4,6%) أعلى من المعدل السويسري (3,1%)، والتمسك بإظهار الإنتماء السويسري إزاء الشقيق الأكبر الإيطالي واضحة للعيان، وهذه كلها عوامل رئيسية تؤدي إلى ظهور شعور الكراهية إزاء العامل الحدودي، وإلى استخدام وجوده لتحقيق أغراض سياسية.
ضمن هذا السياق، تقول باولا سولشا، المسؤولة عن مركز البحوث حول الهجرة في جامعة العلوم التطبيقية والفنون بجنوب سويسرا (SUPSI): “كثيرا ما تشكلت الهوية السويسرية بالنفي إزاء هوية جيرانها، وهذه ليست خصوصية لمنطقة تيتشينو بمفردها”.
ويظل إضعاف الأجور أيضا أهم في تيتشينو مقارنة مع باقي مناطق البلاد، مثلما بين ذلك تقريرٌ بثته مؤخرا قناة التلفزيون السويسرية العمومية الناطقة بالإيطالية (RSI). وبدوره، بعث برلمان تيتشينو المحلي منذ فترة وجيزة رسالة إلى الحكومة الفدرالية للطعن في نتائج دراسة يفترض أن تؤكد منافع حرية تنقل الأشخاص، بما في ذلك المناطق الحدودية (انظر المادة المرافقة على الجانب).
ومنذ دخول تلك الإتفاقيات حيز التطبيق، لم يعد عاملو الحدود يشغلون الوظائف منخفضة المهارات فحسب، حيث كانوا في السابق يدخلون أساسا في منافسة مع العمال الأجانب المقيمين في تيتشينو، ولكنهم باتوا يتواجدون بشكل متزايد في مهن الخدمات (الرعاية الصحية، والقطاع المالي خصوصا).
وفي “قوس الجورا” [وهي منطقة جغرافية تمتد على كانتونات سويسرية هي برن، وفو، ونوشاتيل، وجورا، وعلى منطقة “فرانش-كونتي الفرنسية] الذي يعتبر مهد صناعة الساعات السويسرية، يزيد عدد العمال الحدوديين بقليل عن 40000، أي تقريبا ضعف ما كان عليه قبل عشر سنوات.
ويعتبر باتريك ريرا، الباحث في معهد الجغرافيا بجامعة نوشاتيل، أن الوضع في قوس الجورا في منتصف الطريق بين مدينتي بازل وجنيف، مضيفا أن “الجميع يتفق على صناعة الساعات لا يمكن أن تتطور من دون العمال الحدوديين، بما أن 60% من موظفي هذا القطاع لا يحملون الجواز السويسري. وفي الآن نفسه، تَظهر مخاوف فيما يتعلق باختناق حركة السير، وإضعاف الأجور، وتلك المنافسة التي يعتقد أن عمال الحدود يمارسونها على العمال المحليين الأقل تأهيلا”.
أوضحت الدراستان المنفصلتان اللتان أنجزهما كل من باتريك ريرا، من جامعة نوشاتيل، وكلاوديو بولزمان، من المدرسة العليا للعمل الاجتماعي في جنيف، أن العمال الحدوديين غالبا ما يندمجون بشكل جيد في النسيج الاجتماعي السويسري. ويقول بولزمان: “إنهم لا يتواجدون في سويسرا فقط بدافع حسابات اقتصادية انتهازية”، مضيفا: “في جنيف، معظهم هؤلاء يقيمون علاقات صداقة ولهم مجالات اهتمامهم الخاص”.
من جهته، يشدد باتريك ريرا على أنه “سواء تعلق الأمر بالنزهات مع الزملاء، أو حضور مباريات الهوكي، أو الذهاب إلى المسبح، فإن عامل الحدود في قوس الجورا يقضي أوقاته في كثير من الأحيان في سويسرا، خارج إطار العمل”. ويشرح أن هؤلاء العمال يقتنون أيضا جزء من مشترياتهم من سويسرا، مثل البنزين والسجائر التي تقل تكلفتها عن الجانب الفرنسي من الحدود.
(ترجمته من الفرنسية وعالجته: إصلاح بخات)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.