قضية غسيل أموال تهزّ الساحة المالية في جنيف
الإعلان عن اكتشاف شبكة فرنسية - سويسرية لتبييض الأموال المتأتية من الإتجار في المخدرات لم يُحرج فرنسا وحدها. إذ ترى إيفا جولي، المرشّحة الرئاسية السابقة أن الإتجار في المخدّرات، والتهرّب الضريبي "وجهان" لعملة واحدة.
اعتقال مصرفييْن شقيقيْن في جنيف، والإشتباه في إشراف ثالث على عملية ضخمة للإتجار في الحشيش بين المغرب وفرنسا، واتهام نائبة من حزب الخضر الفرنسي بتبييض مبلغ مالي هام مهرّب في البنوك السويسرية: كل العناصر متوفّرة لكي تحتلّ هذه القضيّة العناوين الكبرى في وسائل الإعلام، وتزيد في تشويه صورة سويسرا، التي تتهم من طرف كثيرين بأنها “ملاذ آمن”، وبأن مصارفها متساهلة في استقبال الأموال القذرة.
في أعقاب تحقيقات سرية استمرت سبعة أشهر، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على 17 شخصا من بينهم (م.)، المشتبه بأنه يشرف على شبكة واسعة للإتجار في الحشيش (القنّب الهندي) بين المغرب وفرنسا، كما وجّهت تهمة تبييض أموال إلى فلورانس لامبلين، نائبة عمدة الدائرة 13 بباريس.
وبعد مهاجمة مقرّ إقامتها، عثرت الشرطة الفرنسية على مبلغ 400.000 يورو من الورقات النقدية الصغيرة في خزانة لحفظ النقود. فما الذي تتهم به هذه النائبة عن حزب الخضر، وسبع شخصيات فرنسية أخرى وجهت إليهم تهم كذلك؟ في أحسن الأحوال، سوف يواجهون تهما تتمثّل في “إيداع أموالهم ” في مصارف سويسرية لسنوات من أجل التهرب من دفع الضرائب المستحقة عليها، وبأنهم قاموا بتبييض تلك الأموال المتأتية من الإتجار في المخدّرات، مع إدراكهم المُسبق بأنهم ينتهكون بذلك القوانين الجاري العمل بها.
في نفس اليوم، ألقي القبض في جنيف على شقيقيْ (م.) بعد التحقيق معهما اتضح أن الأوّل موظّف يعمل في GPF SA، وهي مؤسسة مالية متخصصة في إدارة الثروات، وأن الثاني يشتغل في الفرع السويسري لمصرف HSBC العالمي، وأنهما يحملان الجنسية السويسرية، ويُعتقد أنهما شاركا في تبييض الأموال التي كان يجمعها شقيقهما (م.) من خلال الإتجار في المخدّرات في فرنسا.
تبييض 100 مليون يورو
يُشرف على التحقيق في هذه القضية الكبرى أربعة قضاة في جنيف، من بينهم المدعي العام الأوّل إيف بيرتوسّا، أما الأموال المتأتية من الإتجار في المخدّرات فهي بحسب وزارة العدل الفرنسية مبالغ ضخمة قد تناهز 40 مليون يورو. وقد يصل المبلغ إلى 100 مليون يورو بحسب وزير الداخلية الفرنسي مانيال فالز، إذا أخذنا بالإعتبار المبالغ الإجمالية التي تم تبييضها على مدى عدة سنوات.
عمليا، كانت الأمور تتم ببساطة على النحو التالي: يقترح شقيقا المتهم الرئيسي (م.) العاملان في مؤسستيْن ماليتيْن بجنيف على الحرفاء الفرنسيين الراغبين في تهريب أموالهم سريا إلى سويسرا بعيدا عن أنظار إدارة الضرائب في بلادهم، موعدا قصيرا في أحد المقاهي الباريسية، يسلّم خلالها الحريف إلى أحد المصرفييْن حقائب تحتوي على مبالغ مالية في شكل ورقات نقدية متواضعة القيمة، مقابل عمولة قدرها 8%.
هل كان الوُجهاء المتهمون في هذه القضية يعرفون أن تلك الأموال كانت قذرة؟ بالنسبة للأستاذ جيروم بورسيكان، محامي السيدة فلورانس لامبلين، “لا شيء يثبت ذلك”، ويقول مضيفا: “موكّلتي عرضة لمخالفة تتعلّق بتهرب ضريبي بالنسبة لمبلغ قدره 350.000 يورو، وهو إرث عائلي أودع بحساب مصرفي سويسري في عام 1920”.
هذه القضية أدت إلى توتر سياسي في فرنسا، وتسبّبت في رجّة تهزّ الساحة المالية في جنيف التي يُنظر إليها بريبة واشتباه بل تُتهم بالتراخي مع الأموال الوسخة منذ عدة سنوات، يردّ عليها المسؤولون في مصرف HSBC – رغم تأكيدهم فعلا تورّط أحد زملائهم في القضية – باندفاع وقوة: “لقد تعاونّا بنشاط مع السلطات حول هذه القضية خلال الأشهر الأخيرة”. ووفقا لصحيفة “لوتون” الصادرة بجنيف، فإن شركة GPF SA تستعد لشطب إسم العضو المنتدب لديها والمورّط في هذه القضية.
سويسرا في قفص الإتهام
السؤال الآن: هل تُرضي الإطاحة بهذه الرؤوس أولئك الذين ينتقدون المصارف السويسرية لما تُمارسه من تعتيم وعدم شفافية؟ لا بالتأكيد، فقد ردّت الفعل بسرعة المرشحة السابقة في الإنتخابات الرئاسية عن حزب الخضر إيفا جولي، بعد انكشاف شبكة تبييض الاموال، أوّلا عبر المطالبة باستقالة زميلتها في الحزب فلورانس لامبلين من منصبها كنائبة للعمدة في الدائرة 13 بباريس، ولكن بصفة خاصة من خلال تأكيدها على أن “الإتجار في المخدّرات، والتهرّب الضريبي هما وجهان لعُملة واحدة”.
المرشحة السابقة للرئاسة، التي كانت أيضا قاضية سابقة صرحت لمجلة “لونوفال أوبسرفاتور” الفرنسية أن “الأهمية التي تحظى بها هذه القضية تتمثل في أنها تظهر للعموم بشكل جليّ العلاقة القائمة بين التهرّب الضريبي وغسيل الأموال”. وتواصل هذه المواطنة الفرنسية التي تحمل أيضا الجنسية النرويجية قائلة: “من النادر وضع اليد على ملف يُثبت بشكل قاطع ما داومتُ على قوله منذ 20 عاما: نجد نفس الوسطاء سواء تعلّق الأمر بغسيل الأموال، أو الإعتداء على الممتلكات، أو الفساد، أو الإتجار في المخدّرات. المشكلة تكمُن في أن “مجرّد التهرّب الضريبي لا تعتبره سويسرا مخالفا للقانون أو جريمة، وليس محلّ أي نوع من التعاون الدولي”.
لم يصدر عن الحكومة الفرنسية حول هذه القضية أي رد فعل بعد. واكتفى جيروم كاهوزاك، وزير المالية بإعلانه اتخاذ إجراءات “تهدف إلى تسهيل عمل الجهات المختصة في مكافحة الغش والتهرّب الضريبي”.
وفي بلد حاولت فيه الحكومات المتعاقبة، سواء كانت من اليسار أو من اليمين، محاربة التهرّب الضريبي، فمن المحتمل أن تتحوّل قضية فلورانس لامبلين إلى حجة قوية لمقارعة المدافعين عن السرية المصرفية في سويسرا، وذلك من خلال التلويح برسالة بسيطة مفادها أن “التهرّب الضريبي قد يقود في بعض الأحيان إلى الجريمة المنظمة”.
أكّد جون فرانسوا بوسولاي، مدير فرع مصرف يو بي اس بجنيف، وعضو “مؤسسة جنيف الساحة المالية” عقب تفجّر قضية غسيل الأموال الفرنسية السويسرية أنه يجب على المصارف السويسرية أن تتمسّك بـ “الشفافية في المجال الضريبي” خلال إدارتها للثروات المُودعة لديها.
وبحسب هذا المسؤول فإن “الشفافية الضريبية” هي “النصيحة الأولى التي يجب أن يوجهها أي مصرفي سويسري لحرفائه، فمستقبل صناعة الصيرفة هو مع الأموال التي دفعت مستحقاتها الضريبية”، أي المُعلن عنها لدى السلطات الجبائية في البلد الأصلي للحريف.
وبالنسبة لبوسولاي، فإن العلاقة بين الحرفاء والمصرفيين في سويسرا “تشهد تغيّرا جذريا حاليا، وفي الوقت الذي بدأت فيه برن محادثات ثنائية مع العديد من البلدان، من أجل التوصّل لحل قضية الودائع المالية غير المُعلنة التي تعود ملكيتها لأجانب في حسابات لدى المصارف السويسرية”.
وردّا عن سؤال بشأن “الحرفاء القدامى” الذين يملكون ودائع مالية هامة في حسابات سويسرية سرية”، أجاب السيد بوسولاي: “إن من واجب المصرفيين إبلاغهم بأن الوضع بصدد التغيّر، وأن هناك معايير عمل جديدة، والأمور تسير بشكل حثيث، ولابد من الحديث معهم منذ الآن”.
أمّا بالنسبة لبرنارد دروز، رئيس “مؤسسة جنيف الساحة المالية”، فإن قضية تبييض الأموال التي ضربت أخيرا جنيف وتورّط فيها فرنسيون يملكون حسابات مصرفية في سويسرا يمكن أن “تكون لها تأثيرات سلبية على الساحتيْن الماليتيْن في جنيف وفي سويسرا عامة، إذا ما أثبتت التحقيقات أن هناك خطأً في مكان ما”.
وقال دروز الذي يرأس مؤسسة تضم في صفوفها جميع المصارف المتواجدة في جنيف بعد الكشف عن فضيحة تبييض الأموال: “لقد فوجئنا بأنه مازال حتى اليوم بالإمكان حصول ما حدث. إنها تصرّفات جرّمها القانون منذ عشرين سنة“.
وأضاف رئيس “مؤسسة جنيف الساحة المالية” خلال ندوة صحفية عقدها يوم الأربعاء 17 أكتوبر 2012 في جنيف: “لا يمكننا أن نستبعد أو أن ننفي وجود بعض العناصر السيّئة في أي مهنة من المهن. ولا توجد أي ساحة مالية في العالم بمنأى عن حدوث عملية من هذا النوع”.
هذه القضية تأتي لتزيد من تعقيدات الملف الضريبي بين سويسرا وفرنسا. فقد رفضت باريس رسميا المشاركة في مفاوضات ثنائية مع برن من أجل استخلاص الضريبة بشكل مُسبق على الأموال الفرنسية المُودعة في المصارف السويسرية من طرف السلطات السويسرية، مقابل الإبقاء على سرية هوية صاحب الحساب. في المقابل تفضّل فرنسا تطبيق مبدإ التبادل التلقائي للمعلومات (أي بشكل آلي) والكشف عن هوية الحرفاء الفرنسيين الذين لديهم حسابات سرية في سويسرا.
(نقله من الفرنسية وعالجه: عبد الحفيظ العبدلي)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.