مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“كم من بحار بيننا”.. أو عندما يختار المُبدع السباحة ضد التيار

سمح العمل المسرحي "كم من بحار بيننا" للثلاثي (من اليمين إلى اليسار) السويسرية ميرات بودامير، والتونسي عون البغدادي، والإيراني مهران مهداوي بالقيام بادوار التمثيل مستخدمين في بعض الأحيان لغاتهم الأصلية المختلفة. zvg

تعلن المسرحية السويسرية - التونسية "كم من بحار بيننا"، انتهاء زمن المبدع المحلي، جغرافيا وثقافيا، وحلول عصر المبدع الكوني المنشغل بقضايا الإنسان عامة. ويعرض هذا العمل، الذي تم انتقاء شخصياته وموضوعاته بعناية فائقة، رؤيتيْن واحدة من الجنوب وأخرى من الشمال لأبرز القضايا والمشكلات التي ظهرت في سياق تطوّرات الأوضاع على ضفتي البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2011.


تتشكّل هذه التجربة الفنية من عدّة طبقات تهدف بحسب منتجيها إلى “إطلاق حوار يتمّ فيه، من خلال الكلام والأداء فوق الركح، توضّح أنماط مختلفة من وجهات النظر ومن التجارب من ناحية، وإطلاق دعوة إلى التأمّل والتفكير في الدلالات والرسائل والنتائج التي انجرّت ولا تزال عن تسونامي الأحداث المتسارعة التي عاشتها وتعيشها ضفتا البحر الأبيض المتوسّط من ناحية أخرى”. ولعلّ آخرها ظاهرتا الهجرة السرية الجماعية أو ما يسميه سكان بلدان المصدر بـ “الحرقة”، والأحداث الإرهابية التي وصلت إلى المدن والعواصم الغربية بعد أن أثخنت الجراح في الجنوب..

وما كان لهذا المولود أن يرى النور لو لا وجود هذه الإرادة المشتركة لدى القائمين عليه: جهات تونسية يمثلها الفكاهي عون البغداديرابط خارجي، وصالح حمّودة (ممثلا لـ ماس آرت بتونس العاصمةرابط خارجي)، وجهات سويسرية كمسرح مارلام بزيورخرابط خارجي، ومسرح بومييه بنوشاتيلرابط خارجي، ومسرح روتبريك بزيورخرابط خارجي، إلى جانب واضع السيناريو بالإشتراك مع عون البغدادي، الكاتب السويسري رولان ميركرابط خارجي (Roland Merk)، وتحت أعين ورقابة مهندس الإخراج والمدافع القوي عن التسامح والحوار بين الشمال والجنوب ومؤسس مسرح مارلام، بيتر براشلر. كما ساهم في التمثيل أيضا مهران مهداوي (سويسري من أصل إيراني)، والمبدعة السويسرية ميرات بودامير. 

جرد للقضايا

ككل عمل فني جاد، واع بإشكالات عصره ومعضلات مجتمعه، تستعرض لوحات هذه المسرحية صورا مختلفة من حياة المجتمع الإنساني المعاصر: شاب من الجنوب يريد عبور البحر فيغرق، وأحمق مجنون يريد أن يتصدّر القيادة على كوكب الأرض، ورجل أعمال غربي يعيش فوضى فكرية بسبب الأحكام المُسبقة التي لديه حول الشرق، وتاجر عربي في سويسرا يضطرّ إلى غلق متجر للتحف للإشتباه به في قضايا إرهاب، وطلاب لجوء أجانب ضاقت بهم الأرض فعزلوا في مأوى بجبال الألب، ومأساة شقيقة لم تتمكّن من دفن شقيقها المتوفى وفقا لطقوس ديانتها، بسبب التمسّك المتشدّد بقيم اللائكية. حول هذه القضايا وما شابهها تتكثّف اليوم سحب الصراعات والنزاعات التي يشتد وطيسها من يوم إلى آخر. وقد اختار هؤلاء المسرحيون السباحة ضد التيار، ذلك أنه “أيّ معنى للعمل النقدي إذا لم يغيّر مسار الأحداث ويفرض أجندته الخاصة؟”، على حد قول رولان ميرك.

مشهد من مشاهد المسرحية الذي يعلي من قيم التسامح والتعايش المشترك برغم الإختلاف والتنوع. zvg
إذا ما انتقلنا إلى الطبقة الثانية من هذا العمل، نجد أن المسرحية هي عبارة عن حوار بين واقعيْن ونمطيْن اجتماعييْن. فهي تُجسّد من ناحية معاناة الشاب التونسي، الذي يضطر، بسبب قسوة الظروف الإجتماعية وعدم توفّر مواطن الشغل التي تضمن العيش الكريم، إلى الهجرة عن طريق قوارب الموت، مخاطرا بحياته ورافضا للإستقرار في بلده الأصلي، فيجد في مواجهته واقعا لا يقلّ سوءًا وصعوبة بدءً بالرفض والإقصاء، وعدم الإعتراف بخصوصياته الثقافية، وعدم تمكينه من شروط الإندماج الناجح والمشاركة الفعلية في بناء مستقبله في موطن الهجرة. وهي من ناحية أخرى، جرد للتحوّلات التي تشهدها المجتمعات الصناعية، كظاهرة الإسلاموفبيا التي حلّت محلّ معادة السامية، وأجواء الخوف والتوجّس وكراهية الأجنبي التي احتلت مكان التسامح والتقاليد الإنسانية. وصعود اليمين المتطرّف الذي ليس سوى الوجه الآخر للتيارات الأصولية المتشدّدة في عدد من بلدان الجنوب. 
المسرحي التونسي البغدادي عون يتساءل أين ذهبوا بهم، بعدما عجز عن الوصول إلى مركز يأوي طالبي اللجوء وسط جبال الألب، في لوحة تعبّر عن الإقصاء والإبعاد الذي يلاقيه هؤلاء. Maralam
عندما ننزل إلى الطبقة الثالثة، نجد أن هذا العمل ينطلق بطرح سؤال بسيط في ظاهره، لكنه عميق إلى حد بعيد: هل يُوحّد البحر الأبيض المتوسّط بين ضفتيه أم هو يفصل بينهما؟ والجواب بالنسبة لكل من السويسري رولان ميرك، والتونسي عون البغدادي أن “ما يجمع بيننا أكثر مما يفرّق”، وأنه “بدلا من الوقوع في فخّ الحروب والصراعات، لابدّ من تطوير آليات التثاقف والتعاون”. ومن هذا المنطلق، يرى ميرك أن غاية هذه المسرحية تتلخص في “رسم طريق آخر في العلاقة بين الشمال والجنوب غير طريق الصراعات والحروب”. 

وحدة المصير

في هذا الحوار الذي أجرته swissinfo.ch معه، وضمّنه موقفه من جملة القضايا المشار إليها آنفا، يؤكّد ميرك، رئيس تحرير مجلّة “لسان”رابط خارجي الناطقة باللغة الألمانية والمتخصصة بالأدب العربي، ومؤلف كتاب “ثورات الربيع العربي”، والمنتج للعديد من البرامج الإذاعية بسويسرا، أن “ضريبة تخاذل الغرب في دعم ثورات الربيع العربي ستكون باهضة الثمن بالنسبة له”، وأن “المشكلات القائمة اليوم بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب هي ذات طبيعة اقتصادية، لكنها تترجم على المستوى السياسي باستخدام أدوات الصراع الديني”. (تجدون في ما يلي الحوار كاملا مع المثقف السويسري رولان ميرك).

المزيد

المزيد

“نحن نعيش إرهاصات مجتمع جديد يتسم بالإنفتاح الكامل بين الثقافات والحضارات”

تم نشر هذا المحتوى على في هذا الحوار يقدّم رولان ميرك رؤيته كناقد من بلدان الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط للعديد من القضايا الشائكة التي تسمّم العلاقة خاصة بين حاملي الثقافة العربي الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية، كالهجرة والإندماج، واللجوء والإرهاب، ومسألة التعايش المشترك عموما.

طالع المزيد“نحن نعيش إرهاصات مجتمع جديد يتسم بالإنفتاح الكامل بين الثقافات والحضارات”
وفي تناغم شبه تام، يؤكّد المسرحي والفكاهي التونسي عون البغدادي أن حالة الصراع والتوتّرات السائدة اليوم بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط إنما مردّها “عدم الإهتمام بشكل كاف بمسألة التثاقف، والحوار الثقافي، وغياب فهم وإلمام كافيْين بالأسباب العميقة لقضايا مثل الهجرة والإرهاب والعنصرية ونبذ الآخر”. ويُلفت إلى أن هذه الظواهر ناجمة عن “تراكم أشياء غير واضحة ما يجعل الصور في الأذهان ضبابية”، حسب رأيه

خطورة تجاهل المسألة الثقافية

المبدع التونسي يُشدد أيضا على أنه إذا لم يُعالج مشكل الصراع الثقافي فمن “الممكن أن يؤدّي إلى حروب ودمار وتقاتل”. وبالنسبة له، فإن الإرهاب مثلا “ناتج عن نشأة بعض الشباب في بيئة تغذّي العقد النفسية وتجعل من الشاب شخصا غير سوي”. أما ظاهرة تفاقم الهجرة السرية، فيلقي المسؤولية فيها على “الأداء الضعيف للإعلام في بلدان الجنوب الذي لا يقدّم صورة حقيقية عن الأوضاع في أوروبا التي تعاني هي نفسها من الكثير من المشكلات، وأبعد من أن تكون الجنة الموعودة كما يتصوّرها بعض الشباب”. (تجدون في ما يلي الحوار كاملا مع المسرحي التونسي عون البغدادي).

المزيد

المزيد

“في المسرح ندعو إلى جمع الناس وليس إلى تفريقهم”

تم نشر هذا المحتوى على في هذا الحوار الذي أجرته معه swissinfo.ch، يتطرّق المسرحي عُـون البغدادي إلى أبرز القضايا المطروحة حاليا مثل الإسلاموفوبيا والهجرة والإرهاب واللجوء والإندماج من منظور المبدع التونسي، والمنتمي إلى بلدان الجنوب، ولكن بأفق إنساني ورؤية نقدية عميقة.

طالع المزيد“في المسرح ندعو إلى جمع الناس وليس إلى تفريقهم”

هكذا يجدّد هذا العمل الذي لا تنقصه الأصالة، وفقا لمخرجه، العهد من ناحية مع “تقليد كاد أن يلفّه النسيان منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 وهو تقليد “ديوان الغرب – الشرق” الذي يعود شرف إطلاق فكرته إلى فون غوت باسم قيم الأنوار والتسامح”، ويتخذ من ناحية ثانية مسافة من “رؤى أخرى معاصرة تغذي الإسلاموفوبيا، وتروّج لفكرة “صدام الحضارات” التي تقدّم الشرق والغرب على أنهما كتلتان لا يمكن التعايش بينهما”. 

حاليا، يجري عرض هذا العمل المسرحي في عدد من المدن السويسرية، وهو ما تمّ فعلا في زيورخ (أبريل 2015)، ونوشاتيل (بداية ديسمبر 2015)، ومن المنتظر أن تستضيفه لاحقا العديد من المدن التونسية. كما يجري التفاوض حاليا، وفقا لما أعلنه المنتج، لكي تعرض هذه المسرحية في بلدان آخرى ناطقة باللغة العربية، لأنه كلما اتسعت دائرة الجمهور، كلما تحقق الغرض المرجو والمتمثّل في “توفير فرص للإلتقاء والحوار العابر للحدود الجغرافية والإيديولوجية والثقافية، ولاستشراف حلول مشتركة لمعضلات العصر”، بحسب ما جاء في مطوية تقدّم لهذا العمل.

مؤسستان أشرفتا على الإنتاج

مسرح مارلام بزيورخ

منذ ثلاثين سنة، كان مسرح مارلام بزيورخ،رابط خارجي المؤسسة السويسرية الوحيدة في مجالها التي لم تنقطع عن معالجة موضوعات مثل العولمة، من حيث الفرص التي توفّرها، والمخاطر التي تنجرّ عنها، وأيضا موضوعات الهجرة، والعنصرية، والخوف المرضي من الآخر. وعادة ما يكون إنتاجها متعدد اللغات، ويعتمد منهج التفكيك وإعادة التركيب. وليست مسرحية “كم من بحار بيننا” إلا واحدة من ضمن سلسلة طويلة من الأعمال الهادفة والجادة.

هذه الحصيلة الجيّدة يعود الفضل فيها بالاساس إلى بيتر براشلر، أحد المؤسسين المشاركين لهذا المسرح، وقد أنجز حتى الآن أزيد من 30 عملا مسرحيا حول ظواهر التعدد الثقافي داخل سويسرا وخارجها، بالتركيز خاصة على القضايا التي تهم سويسرا والشرق الاوسط. وبالفعل، يُعتبر براشلر، أهم مسرحي سويسري يمتلك تجربة في مجال الإنتاج الفني المشترك مع جهات في العالم العربي.

مسرح ماس آرت بتونس

هذا المسرح رابط خارجيعبارة عن فضاء ثقافي وفنّي يقدم نفسه على أنه أرضية للإلتقاء، ويتوجه باعماله إلى جمهور متنوّع.

ينتج هذا الفضاء الثقافي العديد من الأشكال والتعابير الفنية: مسرح، معارض، محاضرات، معارض، شعر، موسيقى…

يعمل هذا المسرح كذلك من خلال الإنخراط في شراكات فنية مع العديد من المؤسسات الفنية التونسية والأجنبية، ومن آخر ما أنتجه مسرحية “الباش”، التي تعالج مسألة الهجرة السرية (أو “الحرقة” باللهجة المحلية).

أسّس “ماس آرت”ويشرف عليه صالح حمّودة، المجاز في الفن المسرحي، وهو في آن واحد ممثل وكاتب ومنشط ومخرج.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية