هكذا تريد الأمم المتحدة تحميل الشركات متعددة الجنسيات مسؤولياتها..
منذ أكثر من 50 عاما، والأمم المتحدة ومؤسساتها تسعى إلى إيجاد آلية تلزم الشركات متعددة الجنسيات باحترام حقوق الإنسان، وبهذا الشأن اعتمدت بعض الدول الأعضاء، كفرنسا وبريطانيا، مؤخرا قوانين أكثر صرامة، وبإمكان السويسريين أن يتبعوا ذات النهج بالتصويت لصالح المبادرة الشعبية "المسؤولية القانونية للشركات متعددة الجنسيات".
منذ القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وبمواكبة تعاظم قوة المدن والأسواق الكبرى، وتوسع وانتشار التجارة الدولية، برزت في أوروبا، بشكل غير مسبوق، قضية المسؤولية الإجتماعية للشركات، وفق قول المؤرخة الفرنسية كاترين كيكوشي، في مقالرابط خارجي نشر مؤخرا على موقع “The Conversation” (المُحاورة).
غير أن القضية لم تأخذ أبعادها، وتستحوذ على اهتمام جميع الدول المعنية، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن أصبح لدول الجنوب دور فاعل في تاريخ البلدان الغربية.
منذ المؤتمر الأول لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتادرابط خارجي) الذي أطلقته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1964، استجابة لرغبة دول الجنوب التي خرجت حديثا من الحقبة الإستعمارية، طالبت عدّة دول بضرورة تحمل الشركات المتعددة الجنسيات لمسؤولياتها الإجتماعية أو البحث عن سبل لإجبارها عليه.
ظهر ذلك جليا من خطاب الرئيس التشيلي سلفادور أليندي في الدورة الثالثة للأونكتاد، التي عقدت في أبريل 1972 في سانتياغو تشيلي، فبعدما أشار إلى ”توسّع الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات التي تهزأ باتفاقيات الحكومات”، ندد الرئيس الإشتراكي بـ “النشاط التآمري لهذه الشركات وبقدرتها الكبيرة على إفساد المؤسسات العامة في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، بينما تعارض الشعوب هذا الإستغلال وتطالب الحكومات المعنية بعدم منح جزء من سياستها الإقتصادية الخارجية إلى الشركات الخاصة، التي تتظاهر بدفع عجلة التقدم في الدول الفقيرة بينما هي تتحول إلى قوة فوق السيادة الوطنية، وبالتالي قد تخرج عن السيطرة”.
ومما أثار حفيظة حركة دول عدم الإنحياز، التي تراهن على إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، الإطاحة بالشخصية الرمز لهذا التيار، سلفادور أليندي في العام التالي عن طريق انقلاب عسكري مدعوم من أمريكا، والشركات الأمريكية مثل شركة الهاتف الدولي والبرق، التي تجسدت فيها أعظم قوة تأثير للشركات متعددة الجنسيات على الدول، لاسيما الإشتراكية منها التي تعارض الدول الرأسمالية.
في عام 1979، خصصت المغنية النيجيرية فيلا أنيكولابو كوتي أغنية لشركة “إي تي تي ITT”
قال جيل كاربونييهرابط خارجي، أستاذ اقتصاديات التنمية في معهد الدراسات العليا في جنيف: “كنا في خضم الحرب الباردة، حين تم تشكيل مجموعة دول الأونكتاد لبحث قضية الشركات عبر الوطنية، ولكن سرعان ما تحوّل النقاش إلى حوار طرشان وبالتالي لم يتم احراز أي تقدم بشأن قضية حقوق الإنسان المرتبطة بأنشطة الشركات عبر الوطنية”.
وفي تسعينات القرن الماضي، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي وتغلّب اقتصاد السوق الذي تقوده الشركات متعددة الجنسيات التي تعاظمت قوتها أكثر من أي وقت مضى، عادت القضية إلى طاولة الأمم المتحدة، عبر تشكيل هيئة فرعية تابعة للجنة حقوق الإنسان (حل محلها مجلس حقوق الإنسان في عام 2006)، مهمتها تشجيع الشركات على اعتماد سياسات مستدامة ومسؤولة اجتماعيا، وقد تبنّت الهيئة مسودة مقترحات لاتفاق عالمي عنوانها “مشروع المبادئ التوجيهية العالمية للشركاترابط خارجي“.
هذه الوثيقة القانونية، التي صاغها المحامي الأمريكي ديفيد فايسبروت، نصت ببساطة على الالتزامات في مجال حقوق الإنسان، الواجب على الدول تطبيقها على الشركات المتعددة الجنسيات، وكما كان متوقعا، لقي الاقتراح معارضة شديدة من قبل قطاع الأعمال ومن الدول الغربية الراغبة في تنظيم تحرير الأسواق العالمية، مستفيدة من منظمة التجارة العالمية التي ولدت في عام 1995.
أخيرا اعترفت الشركات المتعددة الجنسيات بالمشكلة..
“لكن على أي حال، هذه المبادرة غيّرت موقف ممثلي بعض الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، الذين أعلنوا عن استعدادهم لتنفيذ توصيات الهيئة الفرعية، ووضعها على المحك”، وفق ما أكده جيل كاربونييه.
وجاءت الإستجابة من جانب قطاع الإقتصاد عبر تشكيل مجموعة “مبادرة قادة الأعمال لحقوق الإنسان”رابط خارجي، التي مارست نشاطها من عام 2003 إلى عام 2009، وضمت شركات مثل أب، وأريفا، وباركليز، وكوكا كولا، وإريكسون، وجنرال إلكتريك ومؤسسة نوفارتيس للتنمية المستدامة، وقد لخصت عملها في النص التالي: “في عام 2003، عملنا بجد لإيجاد الوسائل العملية لتنفيذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سياق الأعمال التجارية، والتي أصبحت الآن واضحة بالنسبة للشركات، وسيكون التحدي القادم أمامنا، هو تطبيقها داخل كل ما يخصنا من مؤسسات وتجارة وسلاسل قيمة، في جميع أنحاء العالم”.
وفي الوقت نفسه، قام كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بتعيين جون روجي، الأستاذ في جامعة هارفارد، ممثلا خاصا بشأن القضايا المتعلقة بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان، ووفق كاربونييه: “اعتمد أستاذ العلوم السياسية روجي، نهجا عمليا يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، ويتمثل بالحوار مع الشركات والمنظمات غير الحكومية والحكومات للتوصل إلى اتفاق بشأن مسؤوليات شركات القطاع الخاص والدول الموقعة على اتفاقيات حقوق الإنسان”.
وبما أن الدول تتحمل مسؤولية احترام وتطبيق حقوق الإنسان، فإنه من المفروض على الشركات أيضا أن تحترمها وتلتزم بها في كافة أنشطتها حول العالم.
طوعا أم كرها
أما كيف يتم ذلك؟ فيوضح كاربونييه أنه: “بناء على المفهوم القانوني للعناية الواجبة، يجب على الشركات تقييم المخاطر قبل الاستثمار، ثم اتخاذ كل التدابير اللازمة للحد من تلك المخاطر، وتوفير سبل انتصاف يرجع إليها في حالة التعسف. وقد تحقق ذلك من خلال اعتماد المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسانرابط خارجي“، التي اعتمدها مجلس حقوق الإنسان بالإجماع في عام 2011.
وعلى هذا الأساس، يقوم مجلس حقوق الإنسان بتطوير عدة مبادرات، وأنشأ في عام 2011 فريق عملرابط خارجي يعنى بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان، ويسعى إلى “تبادل وتعزيز الممارسات الناجحة والدروس المستفادة من تطبيق المبادئ التوجيهية”، ويعتمد على مبدأ حسن نية الشركات، دون إلزام قانوني.
إلا أن فكرة اعتماد أطر إلزامية لم تستبعد تماما، بل أصبحت هدف مجموعة عمل أخرى،و أقررابط خارجي المجلس دستورها بأغلبية ضئيلة في عام 2014 أثناء رئاسة إكوادور، الأمر الذي يعتبر بمثابة حجر الأساس لمعاهدة دولية، مستقبلية ملزمة، بشأن المسؤولية القانونية للشركات المتعددة الجنسيات على أساس المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، لكن من جديد، أثار هذا التوجّه معارضة كبيرة من الشركات ومن عدّة دول، خاصة في الغرب، مما يضعف فرص نجاحه.
الحكومات الغربية تتطور
وبناء عليه، إن ظنت كبرى الشركات متعددة الجنسيات أن بإمكانها الإستمرار على نفس النهج بسلام، فإن المشوار قصير، إلا أن كاربونييه لا يعتقد ذلك: “وكما قال جون روجي، إن الأمر متروك لكل دولة أن تأخذ على عاتقها القيام بدمج المبادئ في تشريعاتها المحلية، ثم تضع خطط عمل وطنية ذات بعدين، أحدهما التحفيز، والآخر الإلزام القانوني”، على حد قول كاربونييه.
وكمثال على ذلك، ما قامت به فرنسا التي أدرجت في تشريعاتها، في عام 2017، وجوب مراقبة الشركات، ومنها الفرنسية بجميع أنشطتها المرتبطة بأطراف أخرى ضمن سلسلة الإنتاج، مما يتيح المجال أمام الإجراءات القانونية في حال وقوع انتهاكات، وكما هو الحال أيضا في بريطانيا، التي اعتمدت في عام 2015 “قانون الرق الحديث” لمكافحة العمل القسري فوق أراضي المملكة المتحدة وفي كل ما يصل إليها من إمدادات.
“ثمّة سؤال في غاية الأهمية، وهو ما إذا كان بإمكان مدّعٍ من بلد نامٍ أن يرفع دعوى ضد الشركة الأم بسبب انتهاكات من قبل إحدى فروعها الخارجية”، تساءل كاربنييه، مشيرا إلى وجود تطورات مثيرة للاهتمام من جانب ألمانيا في ذات الاتجاه، ففي نوفمبر 2017، قبلت محكمة ألمانية الاستئناف الذي تقدّم به مزارع من بيرو ضد شركة “رو RWE”، أكبر شركة للطاقة في ألمانيا، ومنتج رئيسي لثاني أكسيد الكربون، الذي بحسب صاحب الدعوى يتسبب في الاحتباس الحراري المسؤول عن ذوبان الثلوج والانهيارات الجليدية المهددة بإغراق قريته.
وتحت ضغط الرأي العام وهيئات المجتمع المدني، عمدت الدول الغربية إلى تشديد تشريعاتها بشأن المسؤولية الإجتماعية والبيئية للشركات وتوابعها مستندة إلى المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة. ويمكن لسويسرا أن تنحو نفس المنحى، وتتخذ خطوات مماثلة فيما لو أيّد مواطنوها مبادرة “المسؤولية القانونية للشركات متعددة الجنسيات”رابط خارجي، التي من المحتمل أن يجري التصويت عليها في نهايات العام الجاري.
الرقص على أنقاض الشركات متعددة الجنسيات .. أغنية لكيسي نيل:
السمعة والتغيرات الإجتماعية
ويشار إلى أن الدافع وراء هذه التطورات هي الجهود على المستوى الدولي التي تقوم بها الحركات الإجتماعية، بالإضافة إلى سلسلة الفضائح لبعض الشركات مثل شركة شل في بحر الشمال، وبعض مصانع الملابس التي تنتج في ظروف تحوم حولها الشكوك، وكذلك أيضا أصحاب الأوزان الثقيلة في تجارة السلع الأولية، وبعضهم مقراتهم توجد في سويسرا.
ويقول كاربونييه: “لقد أدركت العديد من الشركات مدى أهمية النظر إلى المسؤولية من زاوية أكثر وضوحا، حتى بالنسبة لسمعتها، حيث أن معايير المجتمع ونظرته تتغير بسرعة، وينعكس ذلك على تغيير القانون”، كما ينعكس بالتأكيد على المناقشات حول المسألة سواء في الأمم المتحدة أو في سويسرا.
“فرقة الرسول”، مجموعة شكلها عمال النسيج السابقين في كمبوديا (2005) الذين كانوا ينددون بظروف عملهم:
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.